الجمعة، 1 يوليو 2022

الفصل في الملل والأهواء والنحل/3.و4. لابن حزم

 

الملل والنحل 3 و4.


الفصل في الملل والأهواء والنحل/الجزء الثالث
الجزء الثالث
الكلام في الرؤية

قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان إلى أن الله تعالى لا يرى في الآخرة وقد روينا هذا القول عن مجاهد وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه وروينا هذا القول أيضاً عن الحسن البصري وعكرمة وقد روي عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى.
وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا و الآخرة.
وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا أصلاً.
وقال الحسن بن محمد النجار: هو جائز ولم يقطع به.
قال أبو محمد: أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين وعمدة من أنكر أن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عز وجل.
وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منهم لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عز وجل و إنما قلنا أنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله تعالى وقد سماها بعض القائلين بهذا القول الحاسة السادسة وبيان ذلك أننا نعلم الله عز وجل بقلوبنا علماً صحيحاً هذا ما لا شك فيه فيضع الله في الأبصار قوة تشاهد بها الله وترى بها كالتي وضع في الدنيا في القلب و كالتي وضعها الله عز وجل في أذن موسى ﷺ حتى شاهد الله وسمعه مكلماً له واحتجت المعتزلة بقول الله عز وجل: " لا تدركه الأبصار ".
قال أبو محمد: هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك و الإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة برهان ذلك قول تعالى عز وجل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله فلما ترآى الجمعان وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضاً فصمت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم كلا إن معي ربي سيهدين فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا في أن ما نفاه الله تعالى عز وجل فهو غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله تعالى: " وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة " واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الحبائي فقال: إن إلى هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة.
قال أبو محمد: وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت له النضرة وهي النعمة والنعمة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها وإنما ينتظر ما لم يقع بعد والثاني تواتر الأخبار عن النبي ﷺ ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون وقال بعضهم: إن معناها إلى ثواب ربها أي منتظرة ناظرة.
قال أبو محمد: هذا فاسد جداً لأنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.
قال أبو محمد: وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله فإن قال قائل: إن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود قيل له الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضررة ولم يأت نص ولا إجماع ولا ضررة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير وأنه لا فعال إلا بمعاناة ولا رحيم إلا برقة قلب ثم أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير وأنه عز وجل فعال بلا معاناة ورحيم بلا رقة فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرناه وبين تجويزهم رؤية و نظراً بقوة غير القوة المعهودة لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك.
وقد قال بعض المعتزلة: أخبرونا إذا رؤي الباري أكله يرى أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذا سألونا نحن و المعتزلة فقالوا: إذا علمتم الباري تعالى أكله تعلمونه أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلاً وبعضاً حيث لا كل ولا بعض و الكل والبعض لا يقعان إلا في ذي نهاية والباري تعالى خالق النهاية والمتناهى فهو عز وجل لا متناه ولا نهاية فلا كل له ولا بعض.
قال أبو محمد: والآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ورؤية الله عز وجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا الله ذلك بفضله ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك فإن قال قائل: إنما أخبر تعالى بالرؤية عن الوجه قيل وبالله تعالى التوفيق: معروف في اللغة التي بها خوطبنا أن تنسب الرؤية إلى قال بعض الأعراب: أنافس من ناجاك مقدار لفظة وتعتاد نفسي أن نأت عنك معينها وإن وجوهاً يصطبحن بنظرة إليك لمحسود عليك عيونها
الكلام في القرآن وهو القول في كلام الله تعالى
قال أبو محمد: واختلفوا في كلام الله عز وجل بعد أن أجمع أهل الإسلام كلهم أن لله تعالى كلاماً وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف فكل هذا لا اختلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام ثم قالت المعتزلة إن كلام الله تعالى صفة فعل مخلوق وقالوا أن الله عز وجل كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة وقال أهل السنة أن كلام الله عز وجل هو علمه لم يزل وأنه غير مخلوق وهو قول الإمام أحمد بن حنبل وغيره رحمهم الله وقالت الأشعرية كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد.
قال أبو محمد: واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا أن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضا فلو كان جسماً لكان في مكان واحد ولو كان ذلك لكنا ولو كان عرضاً لاقتضى حاملاً ولكان كلام الله تعالى الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا وهذا محال ولكان أيضاً يغنى بغناء حامله وهذا لا يقولونه وبالله تعالى التوفيق.
قالوا: ولو سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى من غير الله تعالى لما كان له عليه السلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عز وجل من غيره فصح أن لموسى عليه السلام مزية على من سواه وهو أنه عليه السلام سمع كلام الله بخلاف من سواه وأيضاً فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقاً وجب ضرورة أن يكون كلام الله تعالى ليس مخلوقاً وليس غير الله تعالى - كما قلنا - في العلم سواء بسواء.
قال أبو محمد: وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم أن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام لأن الله عز وجل يقول: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " ويقول تعالى: " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ".
قال أبو محمد: ولا ضلال أضل ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم ولا تكذيب لله أعظم ممن سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه بأن لله كلمات لا تنفذ ثم يقول هو من رأيه الخسيس أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد فإن ادعوا أنهم فروا من أن يكثروا مع الله أكذبهم قولهم أن هاهنا خمسة عشرة شيئاً كلها متغايرة وكلها غير الله وخلاف الله وكلها لم تزل مع الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال أبو محمد: وقالت أيضاً هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعرية أن كلام الله تعالى عز وجل لم ينزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد ﷺ وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى وأن الذي نقرأ في المصاحف ويكتب فيها ليس شيء منها كلام الله وأن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله تعالى لا يزايل الباري ولا يقوم بغيره ولا يحل في الأماكن ولا ينتقل ولا هو حروف موصولة ولا بعضه خير من بعض ولا أفضل ولا أعظم من بعض وقالوا لم يزل الله تعالى قائلاً لجهنم: " هل امتلأت " وقائلاً للكفار " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " ولم يزل تعالى قائلاً لكل ما أراد تكوينه كن.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد بلا تأويل وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا فإن قالوا ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا! فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد: وقال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون أن الصوت غير مخلوق والخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: وهذا باطل وما قال قط مسلم أن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق وأن الخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق هو ما قاله الله عز و جل ونبينا محمد ﷺ لا نزيد على ذلك شيئاً وهو أن قول القائل القرآن وقوله كلام الله كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان والقرآن هو كلام الله عز وجل على الحقيقة بلا مجاز ونكفر من لم يقل ذلك ونقول أن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد ﷺ كما قال تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ثم نقول أن قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى على الحقيقة وبرهان ذلك هو قول الله عز وجل: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقوله تعالى: " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه " وقوله تعالى: " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " وأنكر على الكفار وصدق مؤمني الجن في قولهم: " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد " فصح أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به هو القرآن حقيقة وهو كلام الله تعالى حقيقة من خالف هذا فقد عاند القرآن ويسمى المفهوم من ذلك الصوت قرآناً وكلام الله على الحقيقة فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا كلام الله وهو القرآن ونسمي المصحف كله قرآناً وكلام الله وبرهاننا على ذلك قول الله عز وجل: " إنه لقرآن كريم في كتابٍ مكنون " وقول رسول الله ﷺ إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب لئلا يناله العدو وقوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة " وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة فقد سمى رسول الله ﷺ المصحف قرآناً والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ونسمي المستقر في الصدور قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى برهاننا على ذلك قول رسول الله ﷺ إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليه السلام: " إنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقلها " وقال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " فالذي في الصدور هو القرآن وهو كلام الله على الحقيقة لا مجازاً ونقول كما قال رسول الله ﷺ أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن وأن أم القرآن فاتحة الكتاب لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل مثلها وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقال الله عز وجل: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فإن قالوا إنما يتفاضل الأجر على قراءة ذلك قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في شيء مما يكون فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض في الموصوف بها وأما في الذوات فلا ونقول أيضا ًأن القرآن هو كلام الله تعالى وهو علمه وليس شيئاً غير الباري تعالى برهان ذلك قول الله عز وجل: " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " وباليقين يدري كل ذي فهم أنه تعالى إنما عني سابق علمه الذي سلف بما ينفذه ويقضيه.
قال أبو محمد: فهذه خمسة معان يعبر عن كل معنى منها بأنه قرآن وأنه كلام الله ويخبر عن كل واحد منها إخباراً صحيحاً بأنه القرآن وانه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة للذين أجمع عليهما جميع الأمة وأما الصوت فهو هواء مندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين وهو حروف الهجاء والهواء. وحروف الهجاء والهواء كل ذلك مخلوق بلا خلاف قال الله عز وجل: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " وقال تعالى: " بلسان عربي مبين " واللسان العربي ولسان كل قوم هي لغتهم واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة إنما هي الله تعالى والملائكة والنبيون وسموات وأرضون وما فيهما من الأشياء وصلاة وزكاة وذكر أمم خالية والجنة والنار وسائر الطاعات وسائر أعمال الدين وكل ذلك مخلوق حاشا الله وحده لا شريك له خالق كلما دونه وأما المصحف فإنما هو ورق من جلود الحيوان ومركب منها ومن مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وماء وكل ذلك مخلوق وكذلك حركة اليد في خطه وحركة اللسان في قراءته واستقرار كل ذلك في النفوس هذه كلها أعراض مخلوقة وكذلك عيسى عليه السلام هو كلمة الله وهو مخلوق بلا شك قال الله تعالى: " بكلمة منه اسمه المسيح " وأما علم الله تعالى فلم يزل وهو كلام الله تعالى وهو القرآن وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى أصلاً ومن قال أن شيئاً غير الله تعالى لم يزل مع الله عز وجل فقد جعل لله عز وجل شريكاً ونقول أن لله عز وجل كلاماً حقيقة وأنه تعالى كلم موسى ومن كلم من الأنبياء والملائكة عليهم السلام تكليماً حقيقة لا مجازاً ولا يجوز أن يقال البتة أن الله تعالى متكلم لأنه لم يسم بذلك نفسه ومن قال أن الله تعالى مكلم موسى لم ننكره لأنه يخبر عن فعله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله كلاماً لنفي الخرس عنه لما ذكرنا قبل من أنه إن كان يعني الخرس المعهود فإنه لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو حركة اللسان والشفتين وإن كان إنما ينفي خرساً غير معهود فهذا لا يعقل أصلاً ولا يفهم وأيضاً فيلزمه أن يسميه تعالى شماماً لنفي الخشم عنه ومتحركاً لنفي الخدر وهذا كله إلحاد في أسمائه عز وجل لكن لما قال الله تعالى أن له كلاماً قلناه وأقررنا به ولو لم يقله عز وجل لم يحل لأحد أن يقوله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعاً مستوياً صحيحاً منها أربعة مخلوقة وواحد غير مخلوق لم يجز البتة لأحد أن يقول أن القرآن مخلوق ولا أن يقال أن كلام الله مخلوق لأن قائل هذا كاذب إذا أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه مما يقع عليه اسم قرآن واسم كلام الله عز وجل ووجب ضرورة أن يقال أن القرآن لا خالق له ولا مخلوق وأن كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق لأن الأربعة المسميات منه ليست خالقة ولا يجوز أن تطلق على القرآن ولا على كلام الله تعالى اسم خالق ولأن المعنى الخامس غير مخلوق ولا يجوز أن توضع صفة البعض على الكل الذي لا تعمه تلك الصفة بل واجب أن يطلق نفي تلك الصفة التي للبعض على الكل وكذاك لو قال قائل أن الأشياء كلها مخلوقة أو قال للحق مخلوق أو قال كل موجود مخلوق لقال الباطل لإن الله تعالى شيء موجود حق ليس مخلوقاً لكن إذا قال الله تعالى خالق كل شيء جاز ذلك لأنه قد أخرج بذكر الله تعالى أن المخلوق في كلامه الأشكال ومثال ذلك في ما بيننا أن ثياباً خمسة الأربعة منها حمر والخامس غير أحمر لكان من قال هذه الثياب حمر كاذباً ولكان من قال هذه الثياب ليست حمراً صادقاً وكذلك من قال الإنسان طبيب يعني كل إنسان لكان كاذباً ولو قال ليس الإنسان طبيباً يعني كل إنسان لكان صادقاً وكذلك لا يجوز أن يطلق أن الحق مخلوق ولا أن العلم مخلوق لأن اسم الحق يقع على الله تعالى وعلى كل موجود واسم العلم يقع على كل علم وعلى علم الله عز وجل وهو غير مخلوق لكن يقال الحق غير مخلوق والعلم غير مخلوق هكذا جملة فإذا بين فقيل كل حق دون الله تعالى فهو مخلوق وكل علم دون الله تعالى فهو مخلوق فهو كلام صحيح وهكذا لا يجوز أن يقال أن كلام الله مخلوق ولا أن القرآن مخلوق ولكن يقال علم الله غير مخلوق وكلام الله غير مخلوق والقرآن غير مخلوق ولو أن قائلاً قال أن الله مخلوق وهو يعني صوته المسموع أو الألف واللام والهاء أو الحبر التي كتبت هذه الكلمة به لكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافراً ما لم يبين فيقول صوتي أو هذا الخط مخلوق.
قال أبو محمد: فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعد فيه ما قاله الله عز وجل ورسوله ﷺ وأجمعت الأمة كلها على جملته وأوجبته الضرورة والحمد لله رب العالمين فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ المسموع هو غير القرآن وهذا باطل بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه وهو كلام الله عز وجل نفسه كما قال تعالى: " حتى يسمع كلام الله " وكلام الله تعالى غير مخلوق لما ذكرنا وأما من أفرد السؤال عن الصوت وحروف الهجا والحبر فكل ذلك مخلوق بلا شك.
قال أبو محمد: ونقول أن الله تعالى قد قال ما أخبرنا أنه قاله وأنه تعالى لم يقل بعدما أخبرنا أنه سيقول في المستأنف ولكن سيقوله ومن تعد هذا فقد كذب الله جهلاً وأما من قال أن الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكل ما كونه أو يريد تكوينه فإن هذا قول فاحش موجب أن العالم لم يزل لأن الله تعالى أخبرنا أنه تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئاً إن يقول له كن فيكون " فصح أن كل مكون فهو كائن إثر قول الله تعالى له كن بلا مهلة فلو كان الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكان كل مكون لم يزل وهذا قول من قال أن العالم لم يزل وله مدبر خالق لم يزل وهكذا كفر مجرد نعوذ بالله منه وقول الله تعالى هو غير تكليمه لأن تكليم الله تعالى من كلم فضيلة عظيمة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: " منهم من كلم الله " وأما قوله فقد يكون سخطاً قال تعالى أنه قال لأهل النار: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال لإبليس: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " قال اخرج منها ولا يجوز أن يقال إبليس كليم الله ولا أن أهل النار كلماء الله فقول الله عز وجل محدث بالنص وبرهان ذلك أيضاً قول الله تعالى: " إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " ثم قال تعالى أنه قال لهم: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال تعالى أنهم قالوا: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " فنص تعالى على أنه لا يكلمهم وأنه يقول لهم فثبت يقيناً أن قول الله تعالى هو غير كلامه وغير تكليمه لكن يقول كل كلام وتكليم فهما قول وليس كل قول منه تعالى كلاماً ولا تكليماً بنص القرآن ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى أخبرنا أنه كلم موسى وكلم الملائكة عليهم السلام وثبت يقيناً أنه كلم محمداً ﷺ ليلة الإسراء وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " فخص الله تعالى بتكليمه بعضهم دون بعض كما ترى وقال تعالى: " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء " ففي هذه الآيات والحمد لله أكبر نص على تصحيح كل ما قلناه في هذه المسئلة وما توفيقنا إلا بالله وأخبرنا تعالى في هذه الآية أنه لا يكلم بشراً إلا بأحد هذه الوجوه الثلاثة فقط فنظرنا فيها فوجدناه تعالى قد سمى ما تأتينا به الرسل عليهم السلام تكليماً انتقل منه للبشر فصح بذلك أن الذي أتتنا به رسله عليهم السلام هو كلام الله وأنه تعالى قد كلمنا بوحيه الذي أتتنا به رسله عليهم السلام وأننا قد سمعنا كلام الله عز وجل الذي هو القرآن الموحى إلى النبي بلا شك والحمد لله رب العالمين.
ووجدناه تعالى قد سمى وحيه إلى أنبياءه عليهم السلام تكليماً لهم ووجدناه عز وجل قد ذكر وجهاً ثالثاً وهو التكليم الذي يكون من وراء حجاب وهو الذي فضل به بعض النبيين على بعض وهو الذي يطلق عليه تكليم الله عز وجل دون صلة كما كلم موسى عليه السلام " من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة " وأما القسمان الأولان فإنما يطلق عليهما تكليم الله عز وجل بصلة لا مجرداً فنقول: كلم الله جميع الأنبياء بالوحي إليهم ونقول: في القسم الثاني كلمنا الله تعالى في القرآن على لسان نبيه عليه السلام بوحيه إليه ونقول: قال لنا الله عز وجل " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " ونقول: أخبرنا الله تعالى عن موسى وعيسى وعن الجنة والنار في القرآن وفيما أوحى الله إلى رسوله ﷺ ولو قال قائل: حدثنا الله تعالى عن الأمم السالفة وعن الجنة والنار في القرآن على لسان رسوله ﷺ لكان قولاً صحيحاً لا مدفع له لأن الله تعالى يقول: " ومن أصدق من الله حديثاً " وكذلك يقول قص الله علينا أخبار الأمم في القرآن قال تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونقول: سمعنا كلام الله تعالى في القرآن على التحقيق لا مجازاً وفضل علينا الملائكة والأنبياء عليهم السلام في هذا بالوجه الثاني الذي هو تكليمهم بالوحي إليهم في النوم واليقظة دون وسيطة ملك لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى وهذا هو الوجه الذي خص به موسى عليه السلام من الشجرة ومحمد ﷺ ليلة الإسراء من المستوا الذي سمع فيه صريف الأقلام وسائر من كلم الله تعالى كذلك من النبيين والملائكة عليهم السلام قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل " ولا يجوز أن يكون شيء من هذا بصوت أصلاً لأنه كان يكون حينئذ يفيد بوسيطة مكلم غير الله تعالى وكان ذلك الصوت بمنزلة الرعد الحادث بالجو والقزع الحادث في الأجسام والوحي أعلى من هذه منزلة والتكليم من وراء حجاب أعلى من سائر الوحي بنص القرآن لأن الله تعالى سمى ذلك تفضيلاً كما تلونا وكل ما ذكرنا وإن كان يسمى تكليماً فالتكليم المطلق أعلى في الفضيلة من التكليم الموصول كما أن كل روح فهو روح الله تعالى على الملك لكن إذا قلنا روح الله على الإطلاق يعني بذلك جبريل أو عيسى عليهم السلام كان ذلك فضيلة عظيمة لهما.
قال أبو محمد: وإذا قرأنا القرآن قلنا كلامنا هذا هو كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ولا يحل حينئذ لأحد أن يقول ليس كلامي هذا كلام الله تعالى وقد أنكر الله عز وجل هذا على من قاله إذ يقول تعالى: " سأرهقه صعوداً أنه فكر وقدر فقتل كيف قدر " إلى قوله تعالى فقال: " إن هذا إلا سحر يؤثر أن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر ".
قال أبو محمد: وكذلك يقول أحدنا ديني دين محمد ﷺ وإذا عمل عملاً أوجبته سنة قال عملي هذا عمل رسول الله ﷺ ولا يحل لأحد من المسلمين أن يقول: ديني غير دين رسول الله ﷺ ولو قال ذلك لوجب قتله بالردة وكذلك ليس له أن يقول إذا عمل عملاً جاءت به السنة عن رسول الله ﷺ هذا غير عمل رسول الله ﷺ ولو قاله لأدب ولكان كاذباً وكذلك يقول أحدنا ديني هو دين الله عز وجل يريد الذي أمر به عز وجل ولو قال ديني غير دين الله عز وجل لوجب قتله بالردة وكذلك يقول إذا حدث أحدنا حديثاً عن رسول الله ﷺ صحيحا ًكلامي هذا هو نفس كلام رسول الله ﷺ ولو قال إن كلامي هذا هو غير كلام رسول الله ﷺ لكان كاذباً وهذه أسماء أوجبتها ملة الله عز وجل وأجمع عليها أهل الإسلام ولم يخف علينا ولا على من سلف من المسلمين أن حركة لسان رسول الله ﷺ غير حركة ألسنتنا وكذلك حركة أجسامنا في العمل وكذلك ما توصف به النفوس من العلم ولكن التسمية في الشريعة ليست إلينا إنما هي لله تعالى ولرسوله ﷺ فمن خالف هذا كان كمن قال فرعون وأبو جهل مؤمنان وموسى ومحمد كافران فإذا قيل له في ذلك قال أو ليس أبو جهل وفرعون مؤمنين بالكفر ومحمد وموسى كافران بالطاغوت فهذا وإن كان لكلامه مخرج فهو عند أهل الإسلام كافر لتعديه ما أوجبته الشريعة من التسمية وقد شهدت العقول بوجوب الوقوف عند ما أوجبه الله تعالى في دينه فمن عد عن ذلك وزعم أنه اتبع دليل عقله في خلاف ذلك فليعلم أنه فارق قضية العقل الصادقة الموجبة للوقوف عند حكم الشريعة وخالف المؤمنين واتبع غير سبيلهم قال تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " نعوذ بالله من ذلك.
قال أبو محمد: قال بعضهم فإذا سمعنا نحن كلام الله تعالى وسمعه موسى عليه السلام فأي فرق بينه وبيننا قلنا أعظم الفرق وهو أن موسى والملائكة عليهم السلام سمعوا الله تعالى يكلمهم ونحن سمعنا كلام الله تعالى من غيره وقد قال رسول الله ﷺ لإبن مسعود إذ أمره أن يقرأ عليه القرآن فقال له ابن مسعود: يا رسول الله أقرأه عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فصح يقيناً أن القرآن الذي أنزله الله تعالى نفسه فسمعه من غيره وقالوا فكلام الله تعالى إذاً يحل فينا قلنا هذا تهويل بارد ونعم إذا سمى الله تعالى كلامنا إذا قرأنا كلاماً له تعالى فنحن نقول بذلك ونقول أن كلام الله في صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر في مصاحفنا ونبرأ ممن أنكر ذلك بقوله الفاسد المخرج له عن الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان.
الكلام في إعجاز القرآن
قال أبو محمد: قد ذكرنا قيام البرهان عن أن القرآن معجز قد أعجز الله عن مثل نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله ﷺ كل من ذكرنا عن أن يأتوا بمثله وتبكيتهم بذلك في محافلهم وهذا أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر وأجمع المسلمون على ذلك ثم اختلف أهل الكلام في خمسة أنحاء من هذه المسالة فالنحو الأول قول روي عن الأشعري وهو أن المعجز الذي تحدى الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان إذ من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل لما لم يعرفه قط ولا سمعه وأيضا ًفيلزمه ولا بد بل هو نفس قوله أنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلو عندنا ليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر مجرد لا خلاف فيه لأحد فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سوراً ولا كثيراً بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين.
وله قول آخر كقول جميع المسلمين إن هذا المتلو هو المعجز والنحو الثاني هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام الحجة به في حياة رسول الله ﷺ فقال بعض أهل الكلام أن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن معارضته ولو عورض الآن لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت كما أن عصا موسى إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ولا أسقط حجته عودها عصا كما كانت وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت وكذلك سائر الآيات وقال جمهور أهل الإسلام أن الإعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبداً كما كانت.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه نص قول الله تعالى إذ يقول: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ".
قال أبو محمد: فهذا نص جرى على أنه لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقيناً أن ذلك على التأبيد وفي المستأنف أبداً ومن ادعى أن المراد بذلك الماضي فقد كذب لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص أخر جلي وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولاسبيل في هذه المسألة إلى شيء من هذه الوجوه وكذلك قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا " عموم لكل إنس وجن أبداً لا يجوز تخصيص شيء من ذلك أصلاً بغير ضرورة ولا إجماع.
قال أبو محمد: ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر فلا حجة هاهنا تقوم له على الطائفة المذكورة فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الثالث ما المعجز منه أنظمه أم في نصه من الإنذار بالغيوب فقال بعض أهل الكلام أن نظمه ليس معجزاً وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجز نظمه وما فيه من الأخبار بالغيوب وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو ضلال وبرهان ذلك قول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره واكثر سوره ليس فيها أخبار بغيب فكأن من جعل المعجز الأخبار الذي فيه بالغيوب مخالفاً لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت والنحو الرابع ما وجه إعجازه فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " ونحو هذا وموه بعضهم بأن قال لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم شغباً غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه أما قولهم لو كان كما قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقاً لوجوه أحدها أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله بنفسه فيقال له بل لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم.
وثانيها أنه لا يسأل الله تعالى عما يفعل ولا يقال له لم عجزت بهذا النظم دون غيره ولم أرسلت هذا الرسول دون غيره ولم قلبت عصا موسى حية دون أن تقلبها أسداً وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط.
وثالثها أنه حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلا كان هذا الإعجاز في كلام بجمع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون إعجاز القرآن إلا بأخبار العرب فقط فبطل هذا الشغب الغث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما ذكرهم " ولكم في القصاص حياة " وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ويقال لهم: إن كان كما تقولون ومعاذ الله من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة وأما سائره فلا وهذا كفر لا يقوله مسلم فإن قالوا جميع القرآن مثل هذه الآيات في الإعجاز قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذاً وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزاً وغير معجز ثم نقول لهم قول الله تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزاً فإن قالوا ليس معجزاً كفروا وإن قالوا أنه معجز صدقوا وسألوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا نعم كابروا وكفوا مؤنتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطكم في البلاغة فلو كان إعجاز القرآن لأنه في درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هرون والجاحظ وشعر أمرئ القيس ومعاذ الله من هذا لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن إن يأتي من يماثله ضروة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط وأيضاً فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا قلنا وبالله تعالى التوفيق إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين فلا لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه وبرهان هذا أن إنساناً لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجاً عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلاً وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار " لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " وحكى تعالى عن كافر قال: " إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر " وحكى عن آخرين أنهم قالوا: " لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ " فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاماً له أصاره معجزاً ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره والحمد لله.
والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه فقالت الأشعرية ومن وافقهم أن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو إنا أعطيناك الكوثر فصاعداً وإن ما دون ذلك ليس معجزاً واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " قالوا ولم يتحد تعالى بأقل من ذلك وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله قليله وكثيره معجز وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قوله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزاً بل قد قال تعالى على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولا يختلف اثنان في أن كل شيء من القرآن قرآن فكل شيء من القرآن معجز ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم أن المعجز مقدار سورة أسورة كاملة لا أقل أم مقدار كوثر في الآيات أم مقدارها في الكلمات أم مقدارها في الحروف ولا سبيل إلى وجه خامس فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها من آخرها فمقدور على مثلها وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن والفجر وليال عشر والشفع والوتر معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضاً أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كله غير معجزة ولزمهم أيضاً أن والضحى والفجر والعصر هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات فإن قالوا هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية متفرقة وإمكان المجيء بمثلها ومن جعل هذا ممكناً فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ولزمهم أيضاً أن " ولكم في القصاص حياة " ليس معجزاً وهذا نقض لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول وإن قالوا بل في عدد الكلمات أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهم إبطال احتجاجهم بقوله تعالى: " بسورة من مثله " لأنهم جعلوا معجزاً ما ليس سورة ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم والثاني أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفاً وقد قال تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفاً وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشر كلمات اثنين وستين حرفاً فهذا أكثر كلمات وحروفاً من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم ويكون " ولكم في القصاص حياة " غير معجز فإن قالوا إن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضاً أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجز فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده وأيضاً فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غير معجزة وكانت مقدوراً على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدور على مثله وهذا كفر فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبداً لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال إن آية النبوة إن الله تعالى يطلقني على المشي في هذا الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبداً أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وإن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآناً فهي غير معجزة وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعين عاماً ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب العالمين. ===الكلام في القدر ===
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا استطاعة له أصلاً وهو قول جهم بن صفوان وطائفة من الأزارقة وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإنسان ليس مجبراً وأثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله ثم افترقت هذه الطائفة على فرقتين فقالت إحداهما الاستطاعة التي يكون بها الفعل لا تكون إلا مع الفعل ولا يتقدمه البتة وهذا قول طوائف من أهل الكلام ومن وافقهم كالنجار والأشعري ومحمد بن عيسى برعوت الكاتب وبشر بن غياث المريسي وأبي عبد الله العطوي وجماعة من المرجئة والخوارج وهشام بن الحكم وسليمان بن جرير وأصحابهما وقالت الأخرى أن الاستطاعة التي يكون بها الفعل هي قبل الفعل موجودة في الإنسان وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمران وصالح قية والناسي وجماعة من الخوارج والشيعة ثم افترق هؤلاء على فرق فقالت طائفة إن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضاً للفعل ولتركه وهو قول بشر بن المعتمر البغدادي وضرار بن عمرو الكوفي وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمرو العطار البصري وغيرهم من المعتزلة وقال أبو الهذيل محمد بن الهذيل العبدي البصري العلاف لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ولا تكون إلا قبله ولا بد وتفنى مع أول وجود الفعل وقال أبو اسحق بن إبراهيم بن سيار النظام وعلي الإسواري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ليست الاستطاعة شيئاً غير نفس المستطيع وكذلك أيضاً قالوا في العجز أنه ليس شيئاً غير العاجز إلا النظام فإنه قال هو آفة دخلت على المستطيع.
قال أبو محمد: فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا لما كان الله تعالى فعالاً وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالاً غيره وقالوا أيضاً معنى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما تقول مات زيد وإنما أماته الله تعالى وقام البناء وإنما أقامه الله تعالى.
قال أبو محمد: وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم فأما النص فإن الله عز وجل قال في غير موضع من القرآن " جزاء بما كانوا يعملون لم تقولون ما لا تفعلون وعملوا الصالحات " فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وأما الحس فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهية علمنا يقيناً علماً لا يخالج فيه الشك أن بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقاً لائحاً لجوارحه لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختاراً لها دون مانع والذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلاً ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة ووجب أن لنا حولاً وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهب إليه الجهمية لكان القول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له وكذلك قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله كونها وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممتنع والممكن أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح وغير صحيحها لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية وإن الفعل الاختياري من ذي الجوارح المؤوفة وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن وإننا بالضرورة نعلم أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقيناً أنه لا يقوم وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعداً يقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذلك منه ممكناً وأما من طريق اللغة فإن الإجبار والاضطرار والغلبة أسماء مترادفة وكلها واقع على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا يختاره ولا يتوهم منه خلاف البتة وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار لكنه مختار والفعل منه مراد متعمد مقصود ونحو هذه العبارات عن هذا المعنى في اللغة العربية التي نتفاهم بها فإن قال قائل فلم أبيتم ها هنا من إطلاق لفظة الاضطرار و أطلقتموها في المعارف فقلتم أنها باضطرار وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في الإنسان فالجواب أن بين الأمرين فرقاً بيناً وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله وممكن ذلك منه وليس ذلك ما عرفه يقيناً ببرهان لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ولا يمكنه ذلك أصلاً فصح أنه مضطر إليها وأيضاً فقد أثنى الله عز وجل على قوم دعوه فقالوا: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة كلها واقع على معنى واحد وهذه صفة من يمكن عنه الفعل باختياره أو تركه باختياره ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيئاً من الطاعات والأعمال واجتناب المعاصي فلولا أن ها هنا أشياء لهم بها طاقة لكان هذا الدعاء حمقاً لأنهم كانوا يصيرون داعين الله عز وجل في أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وهم لا طاقة لهم بشيء من الأشياء فيصير دعاءهم في أن لا يكلفوا ما قد كلفوه وهذا محال من الكلام وأما احتجاجهم بأن الله تعالى لما كان فعالاً وجب أن لا يكون فعال غيره فخطأ من القول لوجوه أحدها أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالاً وأعمالاً قال تعالى: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " فأثبت الله لهم الفعل وكذلك نقول أن الإنسان يصنع لأن النص قد جاء بذلك ولولا النص ما أطلقنا شيئاً من هذا وكذلك لما قال الله تعالى: " وفاكهة مما يتخيرون " علمنا أن للإنسان اختياراً لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع على أن الله تبارك وتعالى قال " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فعلمنا أن الاختيار الذي هو فعل الله تعالى وهو منفي عن سواه وهو غير الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به ووجدنا هذا أيضاً حساً لأن الاختيار الذي توحد الله تعالى به هو أن يفعل ما شاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه وأما الاختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى شيء ما و الإيثار له على غيره فقط وهنا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.
ومنها أن الاشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى انك تقول الله الحي والإنسان حي والإنسان حليم كريم عليم والله تعالى حليم كريم عليم فليس هذا يوجب اشتباهاً بلا خلاف وإنما يقع الاشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين والفرق بين الفعل الواقع من الله عز وجل والفعل الواقع منا هو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسماً أو عرضاً أو حركة أو سكوناً أو معرفة أو إرادة أو كراهية وفعل عز وجل كل ذلك فينا بغير معاناة منه وفعل تعالى لغير علة وأما نحن فإنما كان فعلاً لنا لأنه عز وجل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز وجل فينا محمولاً لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه نحن وأما من قال بالاستطاعة قبل الفعل فعمدة حجتهم إن قالوا لا يخلو الكافر من أحد أمرين إما أن يكمن مأموراً بالإيمان أو لا يكون مأموراً به فإن قلتم أنه غير مأمور بالإيمان فهذا كفر مجرد وخلاف للقرآن والإجماع وإن قلتم هو مأمور بإيمان وهكذا تقولون فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون أمر وهو يستطيع ما أمر به فهذا قولنا لا قولكم أو يكون أمر وهو لا يستطيع ما أمر به فقد نسبتم إلى الله عز وجل تكليف ما لا يستطاع ولزمكم أن تجيزوا تكليف الأعمى أن يرى والمقعد أن يجري أو يطلع إلى السماء وهذا كله جور وظلم والجور والظلم منفيان عن الله عز وجل ولا تخلو تلك الاستطاعة من أن يكون المرء أعطيها والفعل موجود أو أعطيها والفعل غير موجود فإن كان أعطيها والفعل موجود فلا حاجة به إليها إذ قد وجد الفعل منه الذي يحتاج إلى الاستطاعة ليكون ذلك الفعل بها وإن كان أعطيها والفعل غير موجود فهذا قولنا أن الاستطاعة قبل الفعل قالوا والله تعالى يقول: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قالوا فلو لم تتقدم الاستطاعة الفعل لكان الحج لا يلزم أحداً قبل ان يحج وقال تعالى: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " وقال تعالى: " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو كانت الاستطاعة للصوم لا تتقدم للصوم ما لزمت أحداً الكفارة به وقال تعالى: " يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فصح أن استطاعة الخروج موجودة مع عدم الخروج وقال تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " ولهم أيضاً في خلق الأفعال اعتراض نذكره إنشاء الله تعالى وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين.
باب الاستطاعة
قال أبو محمد: إن الكلام على حكم لفظة قبل تحقيق معناها ومعرفة المراد بها وعن أي شيء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حقيقتها فينبغي أولاً أن نقف على معنى الاستطاعة فإذا تكلمنا عليه وقررنا بحول الله تعالى وقوته سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله تعالى وتأييده فنقول وبالله تعالى نتأيد.
إن من قال أن الاستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد ولو كان لقائله أقل علم باللغة العربية ثم بحقائق الأسماء والمسميات ثم بماهية الجواهر والأعراض لم يقل هذا السخف أما اللغة فإن الاستطاعة إنما هي مصدر استطاع يستطيع استطاعة والمصدر هو فعل الفاعل وصفته كالضرب الذي هو فعل الضارب والحمرة التي هي صفة الأحمر والاحمرار الذي هو صفة المحمر وما أشبه هذا والصفة والفعل عرضان بلا شك في الفاعل منا وفي الموصوف والمصادر هي أحداث المسمين بالأسماء بإجماع من أهل كل لسان فإذا كانت الاستطاعة في اللغة التي بها نتكلم نحن وهم إنما هي صفة في المستطيع فبالضرورة نعلم أن الصفة هي غير الموصوف لأن الصفات تتعاقب عليه فتمضي صفة وتأتي أخرى فلو كانت الصفة هي الموصوف لكان الماضي من هذه الصفات هو الموصوف الباقي ولا سبيل إلى غير هذا البتة فإذ لا شك في أن الماضي هو غير الباقي فالصفات هي غير الموصوف بها وما عدا هذا فهو من المحال والتخليط فإن قالوا أن الاستطاعة ليست مصدر استطاع ولا صفة المستطيع كابروا وأتوا بلغة جديدة غير اللغة التي نزل بها القرآن والتي لفظة الاستطاعة التي فيها نتنازع إنما هي كلمة من تلك اللغة ومن أحال شيئاً من الألفاظ اللغوية عن موضوعها في اللغة بغير نص محيل لها ولا بإجماع من أهل الشريعة فقد فارق حكم أهل العقول والحياء وصار في نصاب من لا يتكلم معه ولا يعجز أحد أن يقول الصلاة ليست ما تعنون بها وإنما هي أمر كذا والماء هو الخمر وفي هذا بطلان الحقائق كلها وأيضاً فإننا نجد المرء مستطيعاً ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه أو لتكتيف وضبط أو لإغماء وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء فصح بالضرورة أن الذي عدم من الاستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم هذا أمر يعرف بالمشاهدة والحس وبهذا أيقنا أن الاستطاعة عرض من الأعراض تقبل الأشد الأضعف فنقول استطاعة أشد من استطاعة واستطاعة أضعف من استطاعة وأيضاً فأن الاستطاعة لها ضد وهو العجز والأضداد لا تكون إلا أعراضاً تقتسم طرفي البعد كالخضرة والبياض والعلم والجهل والذكر والنسيان وما أشبه هذا وهذا كله أمر يعرف بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ومعاند مكابر للضرورة والمستطيع جوهر والجوهر لا ضد له فصح بالضرورة إن الاستطاعة هي غير المستطيع بلا شك وأيضاً فلو كانت الاستطاعة هي المستطيع لكان العجز أيضاً هو العاجز والعاجز هو المستطيع بالأمس فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع فإن تمادوا على هذا لزمهم أن العجز عن الأمر هو الاستطاعة عليه وهذا محال ظاهر فإن قالوا أن العجز غير المستطيع هو آفة دخلت على المستطيع سئلوا عن الفرق الذي من أجله قالوا أن الاستطاعة هي المستطيع ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز ولا سبيل لوجود فرق في ذلك وبهذا نفسه يبطل قول من قال أن الاستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء لأن العرض لا يكون بعضاً للجسم وأما من قال أن الاستطاعة كل ما توصل به إلى الفعل كالإبرة والدلو والحبل وما أشبه ذلك فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد توجد هذه الآلات وتعدم صحة الجوارح فلا يمكن الفعل فإن قالوا قد تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح ولا يمكن الفعل قلنا صدقتم وبوجود هذه الآلات تم الفعل إلا أن لفظة الاستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع فليس لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ولو جاز هذا لبطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبداً وقد علمنا يقيناً أن لفظة الاستطاعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا على مهماز ولا على إبرة فإن قالوا قد صح عن أئمة اللسان كابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما إن الاستطاعة زاد وراحلة قيل لهم نعم قد صح هذا ولا خلاف بين أحد له فهم باللغة أنهما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة وبرهان على ذلك أن الزاد والراحلة كثير في العالم وليس كونهما في العالم موجباً عندهما فرض الحج على ما لا يجدهما فصح ضرورة أنهما عنيا بذلك القوة على إحضار الزاد والراحلة والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول أيضاً أن ذكروا قول الله عز وجل: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " لأن هذا هو نص قولنا أن القوة عرض ورباط الخيل عرض فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين فإذا قد سقطت هذه الأقوال كلها وصح أن الاستطاعة عرض من الأعراض فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض فنظرنا ذلك بعون الله عز وجل وتأييده فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع باختيار الأمن صحيح الجوارح التي يكون بها ذلك الفعل يقيناً أن سلامة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختاراً إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة الفعل فعلمنا أن الإرادة أيضاً محركة للاستطاعة ولا نقول أن الإرادة استطاعة لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع وقد علمنا ضرورة أن العاجز عن الفعل فليس فيه استطاعة للفعل لأنهما ضدان والضدان لا يجتمعان معاً ولا يمكن أيضاً أن تكون الإرادة بعض الاستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في تعاجز المريد استطاعة ما لأن بعض الاستطاعة استطاعة وبعض العجز عجز ومحال أن يكون في العاجز عن الفعل استطاعة له البتة فالاستطاعة ليست عجزاً فمن استطاع على شيء وعجز عن أكثر من ففيه استطاعة على ما يستطيع عليه هي غير استطاعة التي فيه على ما استطاع عليه وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه على الفعل أصلاً فعلمنا أن هاهنا شيئاً آخر به تتم الاستطاعة ولابد وبه يوجد الفعل فعلمنا ضرورة هذا الشيء إذ هو تمام الاستطاعة ولا تصح الاستطاعة إلا به فهو باليقين قوة إذ الاستطاعة قوة وأن ذلك الشيء قوة بلا شك فقد علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى إذ لا يمكن ذلك لأحد دونه عز وجل فصح ضرورة أن الاستطاعة صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع وهذان الوجهان قبل الفعل وقوة أخرى من عند الله عز وجل وهذا الوجه مع الفعل باجتماعهما يكون الفعل وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله تعالى التوفيق والاستعاذة به من الخذلان فالقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى بالإجماع توفيقاً وعصمة وتأييداً والقوة التي ترد من الله تعالى فيفعل العبد بها الشر تسمى بالإجماع خذلاناً والقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عوناً أو قوة أو حولاً وتبين من صحة هذا صحة قول المسلمين لا حول ولا قوة إلا بالله والقوة لا تكون لأحد البتة فعل إلا بها فصح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكذلك يسمى تيسيراً قال رسول الله ﷺ كل ميسر لما خلق له وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الاستطاعة فعل الله عز وجل وأنه لا يفعل أحد خيراً ولا شراً إلا بقوة أعطاه الله تعالى إياها إلا أنهم قالوا يصلحوا بها الخير والشر معاً قال أبو محمد: فجملة القول في هذا بأن عناصر الأخبار ثلاثة وهو ممتنع أو واجب أو ممكن بينهما هذا أمرٌ بضرورة الحس والتمييز فإذا الأمر كذلك فإن عدمت صحة الجوارح كان له مانع إلى الفعل وأما الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون منه الفعل وقد لا يكون فهذه هي الاستطاعة الموجودة قبل الفعل برهان ذلك قول الله عز وجل حكاية عن القائلين: " لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فأكذبهم الله في إنكارهم استطاعة الخروج قبل الخروج وقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " فلو لم تكن هنا استطاعة قبل فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا من حج فقط ولما كان أحد عاصياً بترك الحج لأنه لم يكن مستطيعاً للحج حتى يحج فلا حج عليه ولا هو مخاطب بالحج وقوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله استطاعته على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطباً بوجوب الصوم عليه إذا لم يجد الرقبة أصلاً ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط وهذا باطل وقول رسول الله ﷺ لمن بايعه فمن لم يستطع فقاعداً فمن لم يستطع فعلى جنب وهذا إجماع متيقن لاشك فيه فلو لم يكن الناس مستطيعين للقيام قبل القيام لما كان أحد مأموراً بالصلاة قبل أن يصليها كذلك ولكان معذوراً أن صلى قاعداً وعلى جنب بكل وجه لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعاً للقيام وهذا باطل وقوله ﷺ: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم " فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به أن نفعله لما لزمنا شيء مما أمرنا به مما لم نفعله ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا.
وقوله ﷺ أتستطيع أن تصوم شهرين قال فلو لم يكن أحد مستطيعاً للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه عليه السلام محالاً وحاشى له من ذلك ومما يتبين صحة هذا وأن المراد في كل ما ذكر ناصحة الجوارح وارتفاع الموانع قول الله تعالى: " خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ " فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الاستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك فصح ان سلامة الجوارح استطاعة وإذا صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده والعمل وتركه والطاعة والمعصية لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح فإن قال قائل فإن سلامة الجوارح عرض والعرض لا يبقى وقتين قيل له هذه دعوى بلا برهان والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة أن هذه الاستطاعة من سلامة الجوارح وارتفاع الموانع موجودة قبل الفعل ثم لو كان ما ذكرتم ما كان فيه دفع لما قاله عز وجل من ذلك ثم وجدنا الله تعالى قد قال: " وكانوا لا يستطيعون سمعاً " وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليه السلام: " إنك لن تستطيع معي صبراً " وقال: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً " وعلمنا أنه كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فيقنا أن الاستطاعة التي أثبتها الله تعالى قبل الفعل هي غير الاستطاعة التي نفاها مع الفعل ولا يجوز غير ذلك البتة فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان أحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني لا يكون إلا مع الفعل وهو القوة الواردة من الله تعالى بالعون والخذلان وهو خلق الله تعالى للفعل في من ظهر منه وسمي من أجل ذلك فاعلاً لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجوه معنى غير هذا البتة فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع وضرورة الحس وبديهة العقل فعلى هذا التقسيم بين الكلام في هذا الباب فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجباً ولا بد وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله وإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح وارتفاع الموانع التي يكون الفعل بها ممكناً متوهماً لا واجباً ولا ممتنعاً وبها يكون المرء مخاطباً مكلفاً مأموراً منهياً وبعد مهما يسقط عنه الخطاب والتكليف و يصير الفعل منه ممتنعاً ويكون عاجزا عن الفعل.
قال أبو محمد: فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عز وجل فيما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد فنقول وبالله تعالى التوفيق أنهم قالوا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع فجوابنا وبالله تعالى نتأيد إننا قد بينا آنفاً أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه وغير مستطيع ما لم يفعل الله عز وجل فيه ما به يكون تمام استطاعته ووجود الفعل فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضاً مشاهد كالبناء المجيد فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء غير مستطيع للآلات التي لا يوجد البناء إلا بها وهكذا في جميع الأعمال وأيضاً فقد يكون المرء عاصياً لله تعالى في وجه مطيعاً له في آخر مؤمناً بالله كافراً بالطاغوت فإن قالوا فقد نسبتم لله تكليف ما لا يستطاع قلنا هذا باطل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحد إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى لان الاستطاعة التي بها يكون الفعل ليست فيه بعد ولا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر وأما قولهم أن هذا كتكليف المقعد الجري والأعمى النظر وإدراك الألوان والارتفاع إلى السماء فإن هذا باطل لأن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمى الاستطاعة فلا استطاعة لهم أصلاً وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمى الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ولولا أن الله عز وجل آمننا بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " لكان غير منكر ان يكلف الله تعالى الأعمى إدراك الألوان والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ولله تعالى أن يعذب من شاء دون ان يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من شاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان وجعل عيسى بن مريم نبياً في المهد حين ولادته وشد على قلب فرعون فلم يؤمن قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " وليس في بداية العقول حسن ولا قبيح لعينه البتة وقالت المعتزلة متى أعطي الإنسان الاستطاعة أقبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا فهذا قولنا وإن كان حين وجود الفعل فما حاجتنا إليها فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن الاستطاعة قسمان كما قلنا فأحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني مع الفعل وهو خلق الله للفعل في فاعله ولولاهما لم يقع الفعل كما قال الله عز وجل ولو كانت الاستطاعة لا تكون قبل الفعل ولا بد ولا تكون مع الفعل أصلاً كما زعم أبو الهذيل لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة وفاعلاً فعلاً لا استطاعة له على فعله حين فعله وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه فهو فاعل عاجز عما يفعل معاً وهذا تناقض ومحال ظاهر.
قال أبو محمد: ولهم الزامات سخيفة هي لازمة لهم كما تلزم غيرهم سواء بسواء منها قولهم متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته أم وهو غير محترق فإن كانت أحرقته في حال سلامته فهو إذاً محرق غير محرق فإن كانت أحرقته وهو محرق فما الذي فعلت فيه وكسؤالهم متى كسر المرء العود أكسره وهو صحيح فهو إذاً مكسور صحيح أو كسره وهو مكسور فما الذي أحدث فيه وكسؤالهم متى أعتق المرء عبده أفي حال رقه فهو حر عبد أو في حال عتقه فأي معنى لعتقه إياه ومتى طلق المرء زوجته أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة لا مطلقة معاً أم طلقها وهي مطلقة فما الذي أثر فيها طلاقه ومتى مات المرء في حياته مات أم وهو ميت ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد: وكل هذه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة والحق فيها أن تفريق النار أجزاء ما عملت فيه هو المسمى إحراق وليس للإحراق شيء غير ذلك فقولهم هل أحرقت وهو محرق تخليط لأن فيه إيهاماً أن الإحراق غير الإحراق وهذه سخافة وكذلك كسر العود إنما هو إخراجه عن حال الصحة والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد من الرق إلى عتقه هو عتقه و لا مزيد ليست له حال أخرى وكذلك خروج المرأة من الزوجية إلى الطلاق هو تطليقها نفسه وكذلك فراق الروح للجسد وهو الإماتة والموت نفسه ولا مزيد وليست ها هنا حال أخرى وقع الفعل فيها وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في أن إتمام الاستطاعة لا يكون إلا مع الفعل لا قبله
قال أبو محمد: يقال لمن قال أن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل وأنها قبل الفعل بتمامها وتكون أيضاً مع الفعل أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على الإيمان قدرة تامة أم لا وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال تركه وعن الزاني هل يقدر في حال زناه على ترك الزنى بأن لا يكون منه زنى أصلاً أم لا وبالجملة فالأوامر كلها إنما هي أمر بحركة أو أمر بسكون أو أمر باعتقاد إثبات شيء ما أو أمر باعتقاد إبطال شيء ما وهذا كله يجمعه فعل أو ترك فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور بالحركة على الحركة حال السكون أو يقدر المتحرك المأمور بالسكون على السكون في حال الحركة وعن معتقد إ بطال شيء ما وهو مأمور باعتقاد إثباته هل يقدر في حال اعتقاده إبطاله على اعتقاد إثباته أم لا وعن معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على اعتقاد إبطاله أم لا وعن المأمور بالترك وهو فاعل ما أمر بتركه أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلاً لشيء تاركاً لذلك الشيء معاً أم لا فإن قالوا نعم هو قادر على ذلك كابروا العيان وخالفوا المعقول والحس وأجازوا كل طامة من كون المرء قاعداً قائماً معاً ومؤمناً بالله كافراً به معاً وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع وإن قالوا أنه لا يقدر قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافه قالوا الحق ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله وكل جواب أجابوا به ها هنا فإنما هو إيهام ولواذ ومدافعة بالراح لأنه إلزام ضروري حسي متيقن لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا لسنا نقول أنه يقدر أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ولكننا قلنا أنه قادر على أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به قيل لهم هذا هو نفسه الذي أردنا منكم وهو أنه لا يقدر قدرة تامة ولا يستطيع استطاعة تامة على فعل ما دام فاعلاً لما يمانعه فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به فحينئذ تمت قدرته واستطاعته لابد من ذلك وهذا هو نفس ما موهوا به في سؤالهم لنا هل أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعله وهذا لهم لازم لأنهم شنعوه وعظموه وأنكروه ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاماً صحيحاً فقبحه عائد عليهم وإنما يلزم الشيء من يصححه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي أحد رؤساء الأصلح من المعتزلة بأن قال إننا لا نختلف في أن الله عز وجل قادر على تسكين المتحرك وتحريك الساكن وليس يوصف بالقدرة على أن يجعله ساكناً متحركاً معاً.
قال أبو محمد: وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف الله تعالى به بل الله تعالى قادر على أن يجعل الشيء ساكناً متحركاً معاً في وقت واحد من وجه واحد ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن التزم هذه الكفرة الصلعاء من أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ويقال لهم لم لا يوصف بالقدرة على ذلك ألأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها أم لأنه لا قدرة له على ذلك ولا محيد لهم عن هذا وهذه طائفة جعلت قدرة الله تعالى متناهية بل قطعوا قطعاً بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله وهذا كفر مجرد لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان .
قال أبو محمد: ويقال للمعتزلة أيضا أنتم تقرون أيضاً معنا بأن الله تعالى لم يزل عليماً بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا كان ولم يزل الله تعالى يعلم أن فلاناً سيطاء فلانة في وقت كهذا فتحمل منه بولد يخلقه الله تعالى من منيهما الخارج منهما عند جماعه إياها وأنه يعيش ثمانين سنة ويملك ويفعل ويصنع فإذا قلتم أن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك ذلك الوطأ الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون وأنه يخلق ذلك الولد منه فقد قطعتم بأنه قادر على أن يمنع الله من خلق ما قد علم أنه سيخلقه وأنه قادر قدرة تامة على إبطال علم الله عز وجل وهذا كفر ممن أجازه فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم قلنا هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلاً بل قلنا أنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ومعنى قولنا أنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم منه ذلك لو كان ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله عز وجل فإن قالوا أن الله تعالى قادر على كل ذلك ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل قلنا وهذا أيضاً مما تكلمنا فيه آنفاً بل الله تعالى قادر على كل ذلك بخلاف خلقه على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عز وجل: " سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " إلى قوله: " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " فأكذبهم الله تعالى في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ثم نص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا أمر تكوين لا أمر بالقعود لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم وقد نص تعالى على أنه: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فقد ثبت يقيناً أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح وارتفاع الموانع وإن الله تعالى كون فيهم قعودهم فبطل أن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الذي ظهر منهم وقال عز وجل: " مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا " فبين عز وجل بياناً جلياً أن من أعطاه الهدى اهتدى ومن أضله فلا يهتدي فصح يقيناً أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتدياً وأن بوقوع الأضلال من الله تعالى وهو الخذلان وخلق ضلال العبد يفعل المرء ما يكون به ضالاً فإن قال قائل معنى هذا من سماه الله مهتدياً ومن سماه ضالاً قيل له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً فلو أراد الله تسميته كما زعمتم لكان هذا القول منه عز وجل كذباً لأن كل ضال فله أولياء على ضلاله يسمونه مهتدياً وراشداً وحاشا لله من الكذب فبطل تأويلهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وقال الله تعالى مخبراً عن الخضر الذي آتاه الله تعالى العلم والحكمة والنبوة حاكياً عن موسى عليه السلام وفتاه: " فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمه من عندنا وعلمناه من لدنا علماً " وقال تعالى مخبراً عنه ومصدقاً عنه وما فعلته عن أمري فصح أن كل ما قال الخضر عليه السلام فمن وحي الله عز وجل ثم أخبر عز وجل بأن الخضر قال لموسى عليه السلام: " أنك لن تستطيع معي صبراً " فلم ينكر الله تعالى كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليه السلام لكن أجابه بقوله: " ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً " فلم يقل له موسى عليه السلام إني مستطيع للصبر بل صدق قوله في ذلك إذا أقره ولم ينكره ورجا أن يجد الله له استطاعه على الصبر فيصبر ولم يوجبه موسى عليه السلام أيضاً لنفسه إلا أن يشاء الله تعالى ثم كرر عليه الخضر بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر فلم ينكر ذلك موسى عليه السلام فهذه شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر ﷺ وأكبر من شهادتهم شهادة الله عز وجل بتصديقهم في ذلك إذ قد نصه الله تعالى علينا غير منكر له بل مصدقاً لهم وهذا لا يرده إلا مخذول وقال عز وجل: " وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً " فنص تعالى نصاً جلياً على أنهم كانوا لا يستطيعون السمع الذي أمروا به وأنهم مع ذلك كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله عز وجل ومع ذلك استحقوا على ذلك جهنم وكانوا في ظاهر الأمر مستطيعين بصحة جوارحهم وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لا إله إلا هو وقال تعالى ": إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " فنفى الله عز وجل استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده وفي هذا كفاية لمن عقل وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فنص تعالى على إن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن وإن من أذن له في الإيمان آمن وهذا الأذن هو التوفيق الذي ذكرنا فيكون به الإيمان ولا بد وعدم الأذن هو الخذلان الذي ذكرنا نعوذ بالله منه وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام ومصدقاً له إذ يقول: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فنص تعالى على أن رسوله ﷺ إن لم يعنه بصرف الكيد صبا وجهل وأنه تعالى صرف الكيد عنه فسلم وهذا نص جلي على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم خليله ورسوله ﷺ ومصدقاً له: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فهذا نص على أن من أعطاه الله عز وجل قوة الإيمان آمن واهتدى وأن من منعه تلك القوة كان من الضالين وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وقال تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " فنص تعالى على أنه أمره بالصبر ثم اخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله تعالى فإذا أعانه بالصبر صبر وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهذا نص جلي على أن من أضله الله تعالى بالخذلان له فلا يكون مهتدياً وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً " فهذا نص لا إشكال فيه على أن الله عز وجل منعهم أن يفقهوه فإن قال قائل إنما قال تعالى أنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ولذلك قال تعالى: " وما يضل به إلا الفاسقين " وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " قيل له وبالله تعالى التوفيق لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم للتوفيق وسلط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على ما تأولت ولكن الآيات ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف هو أن الله تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم وكذلك إنما صاروا لا يؤمنون حين جعل بينهم وبينه حجاباً وحين جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم الوقر لا قبل ذلك وإنما صاروا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك وقال تعالى: " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً " فنص تعالى على أنه لولا أن ثبت نبيه ﷺ بالتوفيق لركن إليهم فإنما يثبت رسول الله ﷺ حين ثبته الله عز وجل لا قبل ذلك ولو لم يعطه التثبيت وخذله لركن إليهم وضل واستحق العذاب على ذلك ضعف الحياة وضعف الممات فتباً لكل مخذول يظن في نفسه الخسيسة أنه مستغن عما افتقر إليه محمد ﷺ من توفيق الله وتثبيته وإنه قد استوفى من الهدى ما لا مزيد عليه وإنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أثر وقد أمرنا عز وجل أن نقول: " إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " فنص الله تعالى على أمرنا بطلب العون منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين فلو لم يكن ها هنا عون خاص من آتاه الله إياه اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل لما كان لهذا الدعاء معنى لأن الناس كلهم كانو يكونون معانين منعماً عليهم مهديين وهذا بخلاف النص المذكور وقال تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم " فنص تعالى على أنه ختم على قلوب الكافرين وإن على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قول الحق فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم عز وجل وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ونعوذ بالله منه وهذا نص على أنهم لا يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم وعلى قلوبهم والغشاوة على أبصارهم وأسماعهم فلو أزالها تعالى لآمنوا ألا أن يعجزوا ربهم عز وجل على إزالة ذلك فهذا خروج عن الإسلام وقال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " فنص تعالى كما ترى على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة فصح ان التوفيق به يكون الإيمان وإن الخذلان به يكون الكفر والعصيان وهو اتباع الشيطان ومعنى قوله تعالى ألا قليلاً على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم يتبعوا الشيطان برحمة الله تعالى لهم أي لاتبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشيطان إذ رحمكم أنتم فلم تتبعوه وهذا نص قولنا ولله تعالى الحمد وقال تعالى: " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً وهذا نص مت قلناه أن من أضله الله تعالى لا سبيل له إلى الهدى وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق وقال تعالى: " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " فأخبر تعالى أن عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتدياً وهذا تخصيص ظاهر كما ترى وقال تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فهذا نص ما قلنا وإن الله تعالى قد نص قائلاً لنا أن من أراد هداه شرح صدره للإسلام فآمن بلا شك وإن من أراد ضلاله ولم يرد هداه ضيق صدره وأحرجه حتى يكون كمريد الصعود إلى السماء فهذا لا يؤمن البتة ولا يستطيع وهو في ظاهره مستطيع بصحة جوارحه.
قال أبو محمد: إن الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلاً ومن شهادة خمسة من الأنبياء إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم السلام بأنهم لا يستطيعون فعلاً لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم وإنهم إن لم يوفقهم ضلوا جميعاً مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل.
قال أبو محمد: ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عز وجل فيه فتجد الحافظ لا يقدر على تأخر الحفظ والبليد لا يقدر على الحفظ والفهيم لا يقدر على الغباوة والغبي لا يستطيع ذكاء الفهم والحسود لا يقدر على ترك الجسد والنزيه النفس لا يقدر على الحسد والحريص لا يقدر على ترك الحرص والبخيل لا يقدر على البذل والجبان لا يقدر على الشجاعة والكذاب لا يقدر على ضبط نفسه عن الكذب كذلك يوجدون من طفولتهم والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحي لا يقدر على القحة والوقح لا يقدر على الحياة والعي لا يقدر على البيان والطيوش لا يقدر على الصبر والغضوب لا يقدر على الحلم والصبور لا يقدر على الطيش والحليم لا يقدر على الغضب والعزيز النفس لا يقدر على المهانة والمهين لا يقدر على عزة النفس وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله تعالى فيهم القوة على فعله وإن كان خلاف ذلك متوهماً منهم بصمة البنية وعدم المانع.
قال أبو محمد: والملائكة والحوار العين والجن وجميع الحيوان كله في الاستطاعة سواء كما ذكرنا ولا فرق بين شيء في ذلك كله وكلهم قد خلق الله عز وجل فيهم الاستطاعة الظاهرة بصحة الجوارح ولا يكون منهم فعل إلا بعون وارد من الله تعالى إذا ورد كان الفعل معه ولا بد قد خلق الله عز وجل فيهم اختياراً وإرادة وحركة وسكوناً هم أفعالهم على غيرها والملائكة وحور العين معصومون لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلاً لا طاعة ولا معصية وأما الذي يقدر على كل ما يفعل وما لا يفعل ولم يزل قادراً على كل ما يخطر بالقلب فهو واحد لا شريك له وهو الله عز وجل ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً أحد وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الهدى والتوفيق
قال أبو محمد: احتجت المعتزلة بقول الله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وبقوله تعالى: " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً ".
قال أبو محمد: وهذا حق وقد قال تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " فأخبر تعالى أن الذين هدى بعض الناس لا كلهم وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل " وهي قراة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من يهدي وكسر الدال فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده وقال تعالى: " من يضلل الله فلا هادي له " فأخبر تعالى أن الذين أضل فلم يهدهم وقال تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذي أضل ومثل هذا كثير وكل ذلك كلام الله عز وجل وكله حق لا يتعارض ولا يبطل بعضه بعضاً قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح يقيناً أن كل ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا مختلف فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا وهدى الناس كلهم السبيل ثم هم بعد إما شاكر وإما كفور وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوماً فاهتدوا ولم يهد آخرين فلم يهتدوا فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله عز وجل جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة وهي التي يقع الاسم منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعداً فالهدى يكون بمعنى الدلالة تقول هديت فلاناً الطريق بمعنى أريته إياه ووقفته عليه وأعلمته إياه سواء سلكه أو تركه وتقول فلان هاد بالطريق أي دليل فيه فهذا الهدى الذي هداه الله ثمود وجميع الجن والملائكة وجميع الأنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي فهذا معنى ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم والمهتدين من الأنس والجن ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا قوله تعالى في الآيات المذكورة: " إنا هديناه السبيل " فبين تعالى أن الذي هداهم له فهو الطريق فقط وكذلك أيضاً قوله تعالى: " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين " فهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " وقوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وهذا بلا شك غير ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل.
قال أبو محمد: وقوله تعالى أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم.
قال أبو محمد: فهذا نص جلي على ما قلنا وبيان أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون فيه إليها هدى لهم إلى تلك الطريق ونفى عنهم تعالى في الآخرة كل هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: وقال بعض من يتعسف القول بلا علم أن قول الله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وقوله تعالى: " إنا هديناه السبيل " وقوله تعالى: " وهديناه النجدين " إنما أراد تعالى بكل ذلك المؤمنين خاصة.
قال أبو محمد: وهذا باطل لوجهين أحدهما تخصيص الآيات بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل والثاني أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد وهو أن الله تعالى قال: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " فرد تعالى الضمير في فاستحبوا العمى على الهدى إلى المهديين أنفسهم فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا وأيضاً فإن الله تعالى قال لرسوله ﷺ: " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال له تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فصح يقيناً أن الهدى الواجب على النبي ﷺ هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده فإن ذكر ذاكر قول الله عز وجل: " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " فليس هذا على ما ظنه من لا ينعم النظر من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظاهر الآية مبطل لهذا الظن لأنه تعالى قال: " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم " فصح يقيناً أن من علم الله تعالى فيه خيراً أسمعه وثبت أن فيه خيراً ثم قال تعالى: " لتولوا وهم معرضون " لو أسمعهم لم يسمعوا فصح يقيناً أنه أراد بلا شك أنه لو أسمعهم لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا أصلاً لأنه تعالى قد نص على أن إسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيراً ومن المحال الباطل أن يكون من علم الله تعالى فيه خيراً يتولى عن الخير ويعرض عنه فبطل ما حرفوه بظنونهم من كلام الله عز وجل وكذلك قوله تعالى: " إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً " فإنه تعالى قسم من هدى السبيل قسمين كفوراً وشاكراً فصح ان الكفور أيضاً هدى السبيل فبطل ما توهموه من الباطل ولله تعالى الحمد وصح ما قلنا.
قال أبو محمد: وقد تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي قبله متصلاً به نصوص كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه وجعل صدورهم ضيقة حرجة فإن اعترضوا بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: " وما أضلنا إلا المجرمون " فلا حجة لهم في هذه الوجوه أحدها أنه قول كفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى حينئذ " والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " فإن أبوا إلا الاحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس: " رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض " والوجه الثاني أننا لا ننكر إضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ولكنه إضلال آخر ليس إضلال الله تعالى لهم والثالث أنه لا عذر لأحد في أن الله تعالى أضله ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك وأما من أضل آخر من دون الله تعالى فهو ملوم وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وفسر تعالى ذلك الإضلال تفسيراً أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشي وما هنالك من الأحزاب ومن تبعهم من الجهال فبين تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيق صدره عن قبول الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ولا يصبر عليه ويوعر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء وفسر ذلك أيضاً عز وجل في آيه أخرى قد تلوناها آنفاً بأنه يجعل أكنه على قلوب الكافرين يحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاخة لبيانه وهداه وإن يفقهوه وإنه جعل تعالى بينهم وبين قول الرسول ﷺ حجاباً مانعاً لهم من الهدى وفسره أيضاً تعالى بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها فامتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها وفسر تعالى إضلال من دونه فقال تعالى أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار وفسر تعالى أيضاً القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبيت على قبول الحق وأنه تعالى يشرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده والعمل به وأنه صرف لكيد الشيطان ولفتنته عنهم نسأل الله أن يمدنا بهذه العطية وأن يصرف عنا الإضلال بمنه وإن لا يكلنا إلى أنفسنا فقد خاب وخسر من ظن في نفسه أنه قد استكمل القوى حتى استغنى عن أن يزيده الله تعالى توفيقاً وعصمة ولم يحتج إلى خالقه في ان يصرف عنه فتنته ولا كيده لاسيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ولم يجعل عند خالقه قوه يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ونبرأ إلى الله خالقنا تعالى من الحول والقوة كلها إلا ما أتانا منها متفضلاً علينا وأما كل ما جاء في القرآن من إضلال الشياطين للناس وإنسائهم إياهم ذكر الله تعالى وتزيينهم لهم ووسوستهم وفعل بعض الناس ذلك ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس وكذلك قوله تعالى: " حسداً من عند أنفسهم " لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها وهو خلق الله تعالى فيها فإن ذكروا قول الله تعالى: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهو كما قال لك عز وجل وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم " وصدق الله عز وجل لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل اصلاً فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالاً بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله التوفيق فصح بهذه الآية أنه تعالى يضلهم بعد ان يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط.
قال أبو محمد: ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زايد أعطاه الله للكفار والعصاة وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وأكنانها عن أن يفقهوا الحق فإن قالوا إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يمدها الله تعالى بتوفيق قلنا لهم من خلقها هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق فإن قالوا الله تعالى هو خلقها كذلك أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية وركب فيها هذه الصفة المهلكة فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ أن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وقلنا لهم فمن خلق النفس وخلق فيها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل فإن قالوا الله سبحانه وتعالى أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يمدها بلطف وتوفيق وكذلك إن قالوا أن النفس هي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول محيلين أيضاً محالاً ظاهراً لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لفعلها وإما مضطرة إلى فعلها على ما هي عليها فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مراراً بخلاف مالا توجد إلا عليه وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى هذا الفعل فلا بد من انه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين أن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضاً قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل.
قال أبو محمد: وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا لا ندري ما معنى الإضلال ولا معنى الختم على قلوبهم ولا الطبع عليها وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم انهم ضالون وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول ضللت بعيري وهذه كلها دعاوي بلا برهان.
قال أبو محمد: لم نجد لهم تأويلاً أصلاً في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء ".
قال أبو محمد: وهذا هو الإضلال حقاً وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الضلال والختم والطبع والأكنة على القلوب وقد فسر الله كل ذلك تفسيراً جلياً وأيضاً فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها التي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله ﷺ أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره أو يوجب صرفها ضرورة حس أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلهم الله تعالى فيها وخيرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضعها في اللغة بل قد قال رسول الله ﷺ: " كل ميسر لما خلق له " فبين عليه السلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي له خلقه وأن الخذلان تيسرة الفاسق للشر الذي له خلقه وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعامة المسلمين حاشا من أضله الله على علم من أتباع العيارين الخلعاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ.
قال أبو محمد: ونبين هذا أيضاً بياناً طبيعياً ضرورياً لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها وقدرة الله تعالى في اختراعها فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله عز وجل خلق نفس الإنسان مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمه بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على آثار النفس فالتمييز هو الذي خص به نفس الإنسان والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف والذي ليس ناطقاً و الهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقاً من حب اللذات والغلبة.
قال أبو محمد: وهذه القوة في كل الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلاً بوجه من الوجوه فإذا عصم الله النفس غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في تمييزها من فعل الطاعات وهذا هو الذي يسمى العقل وإذا خذل جل وعز النفس أمد الهوى بالقوة هي الإضلال فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد وسائر الأخلاق الرذلة والمعاصي وقد قامت البراهين على أن النفس مخلوقة وكذلك جميع قواها المنتجة عن قوتيها الأولتين التمييز والهوى كل ذلك مخلوق مركب في النفس مرتب على ما هو عليه فيها كل جار على طبيعته المخلوقة لجري كيفياته بها على ما هي عليه فإذا قد صح أن كل ذلك خلق الله تعالى فلا مغلب لبعض ذلك على بعض إلا خالق الكل وحده لا شريك له وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة إلا من رحمها الله تعالى وعصمها قال عز وجل: " إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي " فأخبر عز وجل بنص ما قلنا فصح أن المرحومة المستثناة لا تأمر بالسوء وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " وذم الله تعالى الهوى في غير ما موضع من كتابه وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الكلام في القضاء والقدر
قال أبو محمد: ذهب بعض الناس لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى الإكراه والإجبار وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ورسوله ﷺ وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ولذلك يقولون القاضي بمعنى الحاكم وقضى الله عز وجل بكذا أي حكم به ويكون أيضاً بمعنى أمر قال تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " إنما معناه بلا خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ويكون أيضاً بمعنى أخبر قال الله تعالى: " وقضينا إليه ذلك الأمر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " بمعنى أخبرناه أن دابرهم مقطوع بالصباح وقال تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنا في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً " أي أخبرناهم بذلك ويكون أيضاً بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم قال الله تعالى: " إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " ومعنى ذلك حكم بكونه فكونه ومعنى القدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء تقول قدرت البناء تقديراً إذا رتبته وحددته قال تعالى: " وقدر فيها أقواتها " بمعنى رتب أقواتها وحددها وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " يريد تعالى برتبة وحد فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كذا وإلى وقت كذا فقط وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في البدل
قال أبو محمد: قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذا سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيع فأجاب أن الكافر مستطيع للإيمان على البدل بمعنى أن لا يتمادى في الكفر لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان.
قال أبو محمد: والذي يجب أن يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في الاستطاعة وهو ان تقول هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافراً وما دام لا يؤتيه الله عز وجل العون فإذا آتاه إياه تمت استطاعته وفعل ولا بد فإن قيل فهو مكلف مأمور قلنا نعم فإن قيل أهو عاجز عن ما هو مأمور به ومكلف أن يفعله قلنا وبالله التوفيق هو غير عاجز بظاهر بنيته لسلامة جوارحه وارتفاع الموانع وهو عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ما لم ينزل الله تعالى له العون فيتم ارتفاع العجز عنه ويوجد الفعل ولا بد وتقول أن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة على الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس والمأمور بالفعل ليس بظاهر أمره عاجزاً إذ لا آفة في جوارحه ولا مانع له ظاهراً وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده وبين الفعل وتركه وعن فعل ما لم يؤته الله تعالى عوناً عليه وعن تكذيب علم الله تعالى الذي لم يزل بأنه لا يفعل إلا ما سبق علمه تعالى في هذه حقيقة الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين فإن قيل فهو مختار لما يفعل قلنا نعم اختياراً صحيحاً لا مجازاً لأنه مريد لكونه منه محب له مؤثر على تركه وهذا معنى لفظة الاختيار على الحقيقة وليس مضطراً ولا مجبراً ولا مكروهاً لأن في هذه ألفاظ في اللغة لا تقع إلا على الكاره لما يكون منه في هذه الحال وقد يكون المرء مضطراً مختاراً مكرهاً في حالة واحدة كإنسان في رجله أكلة لا دواء له إلا بقطعها فيأمر أعوانه مختاراً لأمره إياهم بقطعها وبحسمها بالنار بعد القطع ويأمرهم بإمساكه وضبطه وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم ويتوعدهم على التقصير في ذلك الضرب والنكال الشديد فيفعلون به ذلك فهو مختار لقطع رجله إذ لو كره ذلك كراهة تامة لم يكرهه أحد على ذلك وهو بلا شك كاره لقطعها مضطر إليه إذ لو وجد سبيلاً بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها لم يقطعها وهو مجبر مكره بالضبط من أعوانه حتى يتم القطع والحسم إذ لو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يمكن من قطعها البتة إنما أتينا بهذا لئلا ينكر الجاهلون أن يكون أحد يوجد مختاراً من وجه مكرهاً من وجه آخر عاجزاً من وجه مستطيع من آخر قادر من وجه ممنوعاً من آخر وبالله تعالى نتأيد.
الكلام في خلق الله عز وجل لأفعال خلقه
قال أبو محمد: اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده فذهب أهل السنة كلهم وكل من قال بالاستطاعة مع الفعل كالمريسي وابن عون والنجارية والأشعرية والجهمية وطوائف من الخوارج والمرجئة والشيعة إلى ان جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها ووافقهم على هذا موافقة صحيحة من المعتزلة ضرار بن عمرو وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد وذهب سائر المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من المرجئة والخوارج والشيعة إلى أن أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عز وجل على تخليط منهم في مائية أفعال النفس إلا بشر بن معتمر عطف فقال إلا أنه ليس شيء من أفعال العباد إلا ولله تعالى فيه فعل من طريق الاسم والحكم يريد بذلك أنه ليس للناس فعل إلا ولله تعالى فيه حكم بأنه صواب أو خطأ ونسميه بأنه حسن أو قبيح طاعة أو معصية.
قال أبو محمد: وقد أدى هذا القول الفاحش الملعون رجلاً من كبار المعتزلة وهو عباد بن سلمان تلميذ هشام بن عمرو الفوطي إلى ان قال أن الله تعالى لم يخلق الكفار لأنهم ناس وكفر معاً لكن خلق أجسامهم دون كفرهم.
قال أبو محمد: ويلزمه مثل هذا نفسه في المؤمنين وفي جميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن وكافر والمؤمن إنسان وإيمانه أو ملك وإيمانه أو جني وإيمانه وكفره فعلى قول هذا البائس السخيف لا يجوز أن يقال أن الله تعالى خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيد بل يكون القول بهذا كذباً وحسبك بهذا القول خلافاً للقرآن وللمسلمين وقال معمر والجاحظ أن أفعال العباد كلها إلا فعل لهم فيها وإنما نسب إليهم مجازاً لظهورها منهم وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة قال أبو محمد: ومن تدبر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال العباد طبيعة اضطرارية كفعل النار للإحراق بطبعها وفعل الثلج للتبريد بطبعه وفعل السقمونيا في إحدارها الصفراء بطبعها وهذه صفة الأموات لا صفة الأحياء المختارين وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل إلا الإرادة فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا إحالتها ولا على تبديلها بوجه من الوجوه وإنما يظهر من المرء تبديل حركاته وسكونه وأما إرادته فلا حيلة له فيها ونحن نجد كل قوي الآلة من الرجال يحب وطيء كل جميلة يستمتع بها لولا التقوى ويحب النوم عن الصلاة في الليالي القارة والهواجر الحارة ويحب الأكل في أيام الصوم ويحب إمساك ماله عن الزكاة وإنما يأتي خلاف ما يريد مغالبة لإرادته وقهراً لها وأما صرفاً لها فلا سبيل له إليه فقد تم الإخبار صحيحاً على قول هذين الرجلين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: والبرهان على صحة قول من قال أن الله تعالى خلق أعمال العباد كلها نصوص من القرآن وبراهين ضرورية منتجة من بديهة العقل والحس لا يغيب عنها إلا جاهل وبالله تعالى التوفيق فمن النصوص قول الله عز وجل: " هل من خالق غير الله ".
قال أبو محمد: هذا كاف لمن عقل واتقى الله وقد قال لي بعضهم إنما أنكر الله تعالى أن يكون ها هنا خالق غيره يرزقنا كما في نص الآية.
قال أبو محمد: وجواب هذا أنه ليس كما ظن هذا القائل بل القضية قد تمت في قوله غير الله ثم ابتدأ عز وجل بتعديد نعمه علينا فأخبرنا أنه يرزقنا من السماء والأرض وقال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " وهذا برهان جلي على أن الدين مخلوق لله عز وجل وقال تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا ".
قال أبو محمد: ومنهم من يعبد المسيح وقالت الملائكة وصدقوا بل كانوا قوماً يعبدون الجن فصح أن كل من عبدوه منهم المسيح والجن لا يخلقون شيئاً ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فثبت يقيناً أنهم مسرفون مديرون وأن أفعالهم مخلوقة لغيرهم وقال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ".
قال أبو محمد: وهذا نص جلي على إبطال أن يخلق أحد دون الله تعالى شيئاً لأنه لو كان هاهنا أحد غيره تعالى يخلق لكان من يخلق موجوداً جنساً في حيز ومن لا يخلق جنساً آخر وكان الشبه بين من يخلق موجوداً وكان من لا يخلق لا يشبه من يخلق وهذا إلحاد عظيم فصح بنص هذه الآية أن الله تعالى هو يخلق وحده وكل من عداه لا يخلق شيئاً فليس أحد مثله تعالى فليس من يخلق وهو الله تعالى كمن لا يخلق وهو كل من سواه وقال تعالى: " ولكل وجهة هو موليها " وهذا نص جلي من كذبه كفر وقد علمنا أنه تعالى لم يأمر بتلك الوجهات كلها بل فيها كفر قد نهى الله عز وجل عنه فلم يبقى إذ هو مولي كل وجهة إلا أنه خالق كل وجهة لا أحداً من الناس وهذا كاف لمن عقل ونصح نفسه منه ومنها قول الله عز وجل: " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه " وهذا إيجاب لأن الله تعالى خلق كل ما في العالم وإن كل من دونه لا يخلق شيئاً أصلاً ولو كان هاهنا خالق لشيء من الأشياء غير الله تعالى لكان جواب هؤلاء المقررين جواباً قاطعاً ولقالوا له نعم نريك أفعالنا خلقها من دونك ونعم هاهنا خالقون كثير وهم نحن لأفعالنا وقوله عز وجل: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء " وهذا بيان واضح لا خفاء به لأن الخلق كله جواهر وإعراض ولا شك في أنه لا يفعل الجواهر أحد دون الله تعالى وإنما يفعله الله عز وجل وحده فلم تبق إلا الأعراض فلو كان الله عز وجل خالقا ًلبعض الأعراض ويكون الناس خالقين لبعضها لكانوا شركاء في الخلق ولكانوا قد خلقوا كخلقة خلق إعراضاً وخلقوا إعراضاً وهذا تكذيب لله تعالى ورد للقرآن مجرد فصح أنه لا يخلق شيئاً غير الله عز وجل وحده والخلق هو الاختراع فالله مخترع أفعالنا كسائر الأعراض ولا فرق فإن نفوا خلق الله تعالى لجميع الأعراض لزمهم أن يقولوا أنها أفعال لغير فاعل أو أنها فعل لمن ظهرت منه من الأجرام الجمادية وغيرها فإن فالوا هي أفعال لغير فاعل فهذا قول أهل الدهر نصاً ويكلمون حينئذ بما يكلم به أهل الدهر وإن قالوا أنها أفعال الإجرام كانوا قد جعلوا الجمادات فاعلة مخترعة وهذا باطل محال وهو أيضاً غير قولهم فالطبيعة لا تفعل شيئاً مخترعة له وإنما الفاعل لما ظهر منها خالق الطبيعة المظهر منها ما ظهر فهو خالق الكل ولابد ولله الحمد ومنها قوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " وهذا نص جلي على أنه تعالى خلق أعمالنا وقد فسر بعضهم قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " أنه خلقنا وخلق العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان.
قال أبو محمد: وهذا كلام سخيف دل على جهل قائله وعناده وانقطاعه لأنه لا يقول أحد في اللغة التي بها خوطبنا في القرآن وبها نتفاهم فيما بيننا أن الإنسان يعمل العود أو الحجر هذا ما لا يجوز في اللغة أصلاً ولا في المعقول وإنما يستعمل ذلك موصولاً فنقول عملت هذا العود صنماً وهذا الحجر وثناً فإنما بين تعالى خلقه الصنمية التي هي شكل الصنم ونص تعالى على ذلك بقوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " فإنما عملنا النحت بنص الآية وبضرورة المشاهدة فهي التي علمنا وهي التي أخبر تعالى انه خلقها.
قال أبو محمد: وقد ذكر عن كبير منهم وهو محمد بن عبد الله الإسكافي أنه كان يقول أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير ولقد يلزم المعتزلة أن توافقه على هذا لأن الخشبة لا تسمى عوداً ولاطنبوراً لو حلف إنسان لا يشتري طنبوراً فاشترى خشباً لم يحنث وكذلك لو حلف أن لا يشتري خشباً فاشترى طنبوراً لم يحنث ولا يقع في اللغة على الطنبور اسم خشبة وقال تعالى: " خلق السماوات والأرض " فهي مخلوقة بنص القرآن وقد قال بعضهم إنما قال تعالى: " خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام " فكانت أعمال الناس مخلوقة في تلك الأيام.
قال أبو محمد: لم ينف الله عز وجل ان يخلق شيئاً بعد الستة أيام بل قد قال عز وجل: " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق " وقال تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقا ًآخر فتبارك الله أحسن الخالقين " فكان هذا كله في غير تلك الستة الأيام فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبداً ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبداً بلا نهاية إلا أن عموم خلقه تعالى للسموات والأرض وما بينهما باق على كل موجود وقال بعضهم لا نقول أن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض.
قال أبو محمد: وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك وقد قال تعالى: " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " فصح ان السحاب ليست مماسة لسماء ولا للأرض فهي إذاً على قول هذا الجاهل غير مخلوقة ويلزمه أيضاً أن يقول بقول معمر والجاحظ في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الموت ولا الحياة لان كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض.
قال أبو محمد: وأما قول معمر والجاحظ أن كل هذا فعل الطبيعة فغباوة شديدة وجهل بالطبيعة ومعنى لفظ البيعة إنما هي قوة الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه وبالضرورة نعلم أن تلك القوة عرض لا يعقل وكل ما كان مما لا اختيار له من جسم أو عرض كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر منها أنها أفعالها مخترعه لها فهو في غاية الجهل وبالضرورة نعلم ان تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق هاهنا إلا خالق الكل وهو الله لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: ومن بلغ ههنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في موافقته أهل الدهر وتكذيبه القرآن إذ يقول الله تبارك وتعالى: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " وقوله تعالى: " يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل " فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عز وجل نعوذ بالله مما ابتلاهم به وأقحمهم فيه وقال معمر معنى قوله تعالى: " خلق الموت والحياة " إنما معناه الإماتة والإحياء.
قال أبو محمد: فما زاد على أنه أبدى تمام جهله بوجهين بينين أحدهما إحالته النص من كلام ربه تعالى بلا دليل والثاني أنه لم يزل عما لزمه لأن الموت والحياة هما الإماتة والإحياء بلا شك لأن الحياة والإحياء هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي والموت والإماتة شيء واحد وهو التفريق بين النفس والجسد المذكور فقط فإذا كان جمع النفس والجسد وتفريقهما مخلوقين لله تعالى فقد صح ان الموت والحياة مخلوقان له تعالى يقيناً وبطل تمويه هذا المجنون.
قال أبو محمد: ومن النصوص القاطعة في هذا قول الله تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فلجأ بعضهم إلى دعوى الخصوص وذكر قول الله تعالى: " تدمر كل شيء بأمر ربها فاصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " وقوله تعالى: " وأوتيت من كل شيء " وقوله: " فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا ".
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها بيان جلي على أنها إنما دمرت كل شيء أمرها الله تعالى بتدميره لا ما لم يأمرها فهو عموم لكل شيء أمرها به وقوله تعالى وأوتيت من كل شيء فمن للتعبيط فمن آتاه الله شيئاً من الأشياء فقد آتاه من كل شيء لأنه قد آتاه بعض الأشياء وأما قوله تعالى ففتحنا عليهم أبواب كل شيء فحق ونحن لا ندري كيفية ذلك الفتح إلا أننا ندري أن الله تعالى صدق فيما قال وأنه تعالى إنما آتاهم بعض الأشياء التي فتح عليهم أبوابها ثم لو صح برهان في بعض هذا العموم أنه ليس على ظاهره وإنما أريد به الخصوص لما وجب من ذلك أن يحمل كل عموم على خلاف ظاهره بل كل عموم فعلى ظاهره حتى يقوم برهان بأنه مخصوص أو أنه منسوخ فيوقف عنده ولا يتعدى بالتخصيص وبالنسخ إلى ما لم يقم برهان بأنه منسوخ أو مخصوص ولو كان غير هذا لما صحت حقيقة في شيء من أخبار الله تعالى ولا صحت شريعة أبداً لأنه لا يعجز أحد في أمر من أوامر الله تعالى وفي كل خبر من أخباره عز وجل أن يحمله على غير ظاهره وعلى بعض ما يقتضيه عمومه وهذا عين السفسطة والكفر والحماقة ونعوذ بالله من الخذلان ولم يقم برهان على تخصيص قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر.
قال أبو محمد: ومن ذلك قوله تعالى: " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .
قال أبو محمد: فنص الله على أنه برأ المصائب كلها فهو بارئ لها والبارئ هو الخالق نفسه بلا شك فصح يقيناً أن الله تعالى خالق كل شيء إذ هو خالق كل ما أصاب في الأرض وفي النفوس ثم زاد تعالى بياناً برفع الأشكال جملة بقوله تعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " فبين تعالى أن ما أصاب الأموال والنفوس من المصائب فهو خالقها وقد تكون تلك المصائب أفعال الظالمين بإتلاف الأموال وأذى النفوس فنص تعالى على أن كل ذلك خلق له تعالى وبه عز وجل التوفيق وأما من طريق النظر فإن الحركة نوع واحد وكما يقال على جملة النوع فهو يقال مقول على أشخاص ذلك النوع ولا بد فإن كان النوع مخلوقاً فأشخاصه مخلوقة وأيضاً فلو كان في العالم شيء غير مخلوق لله عز وجل لكان من قال العالم مخلوق والأشياء مخلوقة وما دون الله تعالى مخلوق كاذب لأن في كل ذلك عندهم ما ليس بمخلوق ولكان من قال العالم غير مخلوق ولم يخلق الله تعالى الأشياء صادقاً ونعوذ بالله تعالى من كل قول أدى إلى هذا ونسألهم هل الله تعالى إله العالم ورب كل شيء أم لا فإن قالوا نعم سئلوا أعموماً أو خصوصاً فإن قالوا بل عموماً صدقوا ولزمهم ترك قولهم إذ من المحال أن يكون تعالى إلهاً لما لم يخلق وإن قالوا بل خصوصاً قيل لهم ففي العالم إذاً ما ليس الله إلهاً وما لا رب له وإن كان هذا فإن من قال أن الله تعالى رب العالمين كاذب وكان من قال ليس الله إلهاً للعالمين ولا برب العالمين صادقاً وهذا خروج عن الإسلام وتكذيب لله تعالى في قوله أنه رب العالمين وخالق كل شيء وقد وافقونا على أن الله تعالى خالق حركات المختارين من سائر الحيوان غير الملائكة والإنس والجن وبالضرورة ندري الحركات الاختيارية كلها نوع واحد فمن المحال الباطل أن يكون بعض النوع مخلوقاً وبعضه غير مخلوق.
قال أبو محمد: واعترضوا بأشياء من القرآن وهي أنهم قالوا قال الله عز وجل: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا " وقال تعالى: " لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " وقال تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " وقوله تعالى: " وتخلقون أفكا وقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " وقوله: " الذي أحسن كل شيء خلقه " وقوله: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " واعترضوا بأشياء من طريق النظر وهي إن قالوا إن كان الله تعالى خلق أعمال العباد فهو إذاً يغضب مما خلق ويكره ما فعل ويسخط فعله ولا يرضى ما فعل ولا ما دبر وقالوا أيضاً كل من فعل شيئاً فهو مسمى به ومنسوب إليه لا يعقل غير ذلك فلو خلق الله الخطاء والكذاب والظلم والكفر لنسب كل ذلك إليه تعالى الله عن ذلك وقالوا أيضاً لا يعقل فعل واحد من فاعلين هذا فعله كله أو هذا فعله كله وقالوا أيضاً أنتم تقولون عن الله تعالى خلق الفعل وإن العبد اكتسبه فأخبرونا عن هذا الاكتساب الذي انفرد به العبد أهو خلق أم هو غيره فإن قلتم هو خلق الله لزمكم أنه تعالى اكتسبه وأنه مكتسب له إذ الكسب هو الخلق وإن قلتم أن الكسب هو غير الخلق وليس خلقاً لله تعالى تركتم قولكم ورجعتم إلى قولنا وقالوا أيضاً إذا كانت أفعالكم مخلوقه لله تعالى وأنتم تقولون أنكم مستطيعون على فعلها وعلى تركها فقد أوجبتم أنكم مستطيعون على أن لا يخلق الله تعالى بعض خلقه وقالوا أيضاً إذا كان فعلكم خلقاَ لله تعالى وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على ما خلق وقالوا أيضاَ قد فرض الله علينا الرضا بما خلق فإن كان الظلم والكفر والكذب مما خلق ففرض علينا الرضا بالكفر والظلم والكذب.
قال أبو محمد: هذه عمدة اعتراضاتكم التي لا يشذ عنها شيء من تفريعاتهم وكل ما ذكروا لا حجة لهم فيه على ما نبين إن شاء الله تعالى بعونه وتأييده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى نستعين أما قول الله تعالى: " ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " فلا حجة لهم في هذا لأن أول الآية في قوم كتبوا كتاباً وقالوا هذا من عند الله فأكذبهم الله تعالى في ذلك واخبر أنه ليس منزلاً من عنده ولا مما أمر به عز وجل ولم يقل هؤلاء القوم إن هذا الكتاب مخلوق فأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال تعالى إن ذلك الكتاب ليس مخلوقاً لله تعالى فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة ولا شك عند المعتزلة وعندنا في أن ذلك الكتاب مخلوق لله تعالى لأنه قرطاس أو أديم ومداد وكل مخلوق بلا شك وأما قوله: " تبارك الله أحسن الخالقين " فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يتدافع وقال تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فإذ لا شك في هذا فقد وجدناه تعالى أنكر على الكافرين فقال تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار " فهذه الآية بينت ما تعلق به المعتزلة وذلك أن قوماً جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فجعلوهم خالقين فأنكر والله تعالى ذلك فعلى هذا خرج قوله تعالى: " تبارك الله أحسن الخالقين " كما قال تعالى: " يكيدون كيداً وأكيد كيداً " وقال: " ومكروا ومكر الله " ويبين بطلان ظنون المعتزلة في هذه الآية قول الله تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد " أفيكون مسلماً من أوجب لله تعالى شركاً من أجل قول الله تعالى للكفار الذين جعلوا له شركاء أين شركائي ولا شك في أن هذا الخطاب إنما خرج جواباً عن إيجابهم له الشركاء تعالى الله عن ذلك وكذلك قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وقد علمنا أن كلام الله تعالى كله هو على حكم ذلك المعذب لنفسه في الدنيا إنه العزيز الكريم وقد علمنا بضرورة العقل والنص أنه ليس لله تعالى شركاء وأنه لا خالق غيره عز وجل وأنه خالق كل شيء في العالم من عرض أو جوهر وبهذا خرج قوله تعالى: " أحسن الخالقين " مع قوله تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " فلو أمكن أن يكون في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئاً لما أنكر ذلك عز وجل إذ هو عز وجل لا ينكر وجود الموجودات وإنما ينكر الباطل فصح ضرورة لا شك فيها أنه لا خالق غير الله تعالى فإذ لا شك في هذا فليس في قول الله تعالى: " أحسن الخالقين " إثبات لأن في العالم خالقاً غير الله تعالى يخلق شيئاً وبالله تعالى التوفيق وأما قوله: " وتخلقون إفكاً " وقوله تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال: " إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " وقول زهير بن أبي سلمى المزني: وأراك تخلق ما فريت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري فقد قلنا ان كلام الله تعالى لا يختلف وقد قال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " وقال تعالى: " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا " وبيقين علم كل ذي عقل أن من جملة أولئك الآلهة الذين اتخذهم الكفار الملائكة والجن والمسيح عليه السلام قال تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وقال الله تعالى حاكياً عن الملائكة أنهم قالوا عن الكفار: " بل كانوا يعبدون الجن " فقد صح يقيناً بنص هذه الآية أن الملائكة والجن والمسيح عليه السلام لا يخلقون شيئاً أصلاً ولا يختلف اثنان في أن جميع الإنس في فعلهم كمن ذكرنا إن كانوا هؤلاء يخلقون أفعالهم فسائر الناس يخلقون أفعالهم وإن كان هؤلاء لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فسائر الناس لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فإن ذلك كذلك وكلام الله عز وجل لا يختلف فإذ لا شك في هذا فإن الخلق الذي أثبته الله عز وجل للمسيح عليه السلام في الطير وللكفار في الإفك هو غير الخلق الذي نفاه عنهم وعن جميع الخلق لا يجوز البتة غير هذا فإن هذا هو الحق بيقين فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفيه ونفاه عن غيره هو الاختراع والإبداع وإحداث الشيء من لا شيء بمعنى من عدم إلى وجود وأما الخلق الذي أوجبه الله تعالى فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط وانفرادهم به والله تعالى خالقه فيهم برهان ذلك أن العرب تسمي الكذب اختلاقاً والقول الكاذب مختلقاً وذلك القول بلا شك إنما هو لفظ ومعنى واللفظ مركب من حروف الهجاء وقد كان كل ذلك موجود النوع قبل وجود أشخاص هؤلاء المختلقين وهذا لقوله عز وجل: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وكقوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " " فبيقين يدري كل ذي حس يؤمن بالله تعالى وبالقرآن " إن الزرع والقتل والرمي الذي نفاه عن الناس وعن المؤمنين وعن رسول الله ﷺ هو غير الزرع والقتل والرمي الذي أضافه إليهم لا يمكنه البتة غير ذلك لأنه تعالى لا يقول إلا الحق فإذ ذلك كذلك فإن الذي نفاه عمن ذكرنا هو خلق كل شيء واختراعه وإبداعه وتكوينه وإخراجه من عدم إلى وجود والذي أوجب لهم منه ظهوره فيهم ونسبة ذلك كله إليهم كذلك نقط وبالله تعالى التوفيق وقول زهير: " وأراك تخلق ما فريت " لا يشك من له أقل فهم بالعربية أنه لم يعن الإبداع ولا إخراج الخلق من عدم إلى وجود وإنما أراد النفاذ في الأمور فقط فقد وضح أن لفظة الخلق مشتركة تقع على معنيين أحدهما لله تعالى لا لأحد دونه وهو الإبداع من عدم إلى وجود والثاني الكذب فيما لم يكن أو ظهور فعل لم يتقدم لغيره أو نفاذ فيما حاول وهذا كله موجود من الحيوان والله تعالى خالق كل ذلك وبالله تعالى التوفيق وبهذا تتألف النصوص كلها وأما قوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " فهو عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أن بصنعه أتقن كل شيء وهذا على عمومه وطاهره فالله تعالى صانع كل شيء وإتقانه له أن خلقه جوهراً أو عرضاً جاريين على رتبة واحدة أبداً وهذا عين الإتقان وأما قوله تعالى: " أحسن كل شيء خلقه " فإنهما قراءتان مشهورتان من قراءات المسلمين إحداهما احسن كل شيء خلقه بإسكان اللام فيكون خلقه بدلاً من كل شيء بدل البيان فهذه القراءة حجة عليهم لأن معناها أن الله تعالى أحسن خلقه لكل شيء وصدق الله عز وجل وهكذا نقول أن خلق الله تعالى لكل شيء حسن والله تعالى محسن في كل شيء والقراءة الأخرى خلقه بفتح اللام وهذه أيضاً لا حجة لهم فيها لأنه ليس فيها إيجاب لأن هاهنا شيئاً لم يخلق الله عز وجل ومن ادعى أن هذا في اقتضاء الآية فقد كذب وإنما يقتضي لفظة الآية أن كل شيء فالله خلقه كما في سائر الآيات والله تعالى أحسنه إذ خلقه وهذا قولنا وكذا نقول أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة أو السكون والاعتقاد والإرادة والفكر وكل هذه كيفيات وأعراض حسن خلقها من الله عز وجل قد أحسن رتبتها وإيقاعها في النفوس والأجساد وإنما قبح ما قبح من ذلك من الإنسان لأن الله تعالى سمى وقوع ذلك أو بعضها ممن وقعت منه قبيحاً وسمى بعض ذلك حسناً كما كانت الصلاة إلى بيت المقدس حركة حسن إيماناً ثم سماها تعالى قبيحة كفراً وهذه تلك الحركة نفسها فصح أنه ليس في العالم شيء حسن لعينه ولا شيء قبيح لعينه لكن ما سماه الله تعالى حسناً فهو حسن وفاعله محسن قال الله تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم " وقال الله تعالى: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " وما سماه الله تعالى قبيحاً فهو حركة قبيحة وقد سمى الله تعالى خلقه لكل شيء في العالم حسناً فهو كله من الله تعالى حسن وسمى ما وقع من ذلك من عباده كما شاء فبعض ذلك قبحه فهو قبيح وبعض ذلك حسنه فهو حسن وبعض ذلك قبحه ثم حسنه فكان قبيحاً ثم حسن وبعض ذلك حسنه ثم قبحه فكان حسناً ثم قبح كما صارت الصلاة إلى الكعبة حسنة بعد ان كانت قبيحة وكذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله تعالى فيهم كالوطء قبل النكاح وبعده وكسبي من نقض الذمة وسائر الشريعة كلها وقد اتفقت المعتزلة معنا على أن خلق الله تعالى للخمر والخنازير والأحجار المعبودة من دونه حسن بلا شك وهو سماه قبائح وأرجاساً وحراماً ونجساً وسيئاً وخبيثاً وهكذا القول في خلقه للأعراض في عباده ولا فرق وكذلك وافقنا أكثرهم على أنه تعالى خلق فساد الدماغ والجنون والمتولد منه والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة كل ذلك من خلق الله تعالى له حسن وكله فيما قبيح رديء جداً يستعاذ بالله منه وقد نص الله تعالى على أنه خلق المصائب كلها فقال عز وجل: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " فنص تعالى على أنه برأ المصايب كلها وبرأ هو خلق بلا خلاف من أحد ولا فرق بين إلزامهم إيانا أن الله تعالى أحسن الكفر والظلم والجور والكذب والقبائح إذ خلق كل ذلك وبين إقرارهم معنى أن الله تعالى قد أحسن الخمر والخنازير والدم والميتة والعذرة وإبليس وكل ما قال أن إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دون الله تعالى والمصايب كلها والأمراض والعاهات إذ خلق كل ذلك فأي شيء قالوه في هذه الأشياء فهو قولنا في خلق الله تعالى للكفر به ولشتمه والظلم والكذب ولا فرق كل ذلك وقد أحسن الله خلقه إذ حركة أو سكوناً أو ضميراً في النفس وسمى ظهوره من العبد قبيحاً موصوفاً به الإنسان وأما قوله تعالى: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " فلا حجة لهم في هذا أيضاً لأن التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتاً فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإن ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتاً فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى تفاوت لكذب قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " ولا يكذب الله تعالى إلا كافر فبطل ظن المعتزلة إن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل مرئي فيه مشاهد بالعين فيه فبطل احتجاجهم والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه قيل لهم نعم وبالله التوفيق وهو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلاً بل هو معدوم جملة إذ لو كان شيئاً موجوداً في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ثم نقول وبالله تعالى التوفيق أن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى أجسامه وأعراضه كلها لا نحاشي شيئاً منها ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت القسمة جرياً مستوياً في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة وهيئة واحدة إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ولا تخالف في شيء منه أصلاً ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معاً تحت نوع الشكل والتخطيط ثم تحت نوع الكيفية ثم تحت اسم العرض وقعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ثم تحت فعل النفس ثم تحت الكيفية والعرض وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية وتحت اسم العرض وقوعاً حقاً مستوياً لا تفاوت فيه ولا اختلاف وهكذا القول في الظلم والإنصاف وفي العدل والجور وفي الصدق والكذب وفي الزنا والوطء الحلال وكذلك كل ما في العالم حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرأس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة على ما بينا في كتاب التقريب والحمد لله رب العالمين فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ضرورة لا منفك لهم عنها وهي أنه لو كان وجود الكفر والظلم تفاوتاً كما زعموا لكان التفاوت موجوداً في خلق الرحمن وقد كذب الله تعالى ذلك ونفى أن يرى في خلقه تفاوت وأما اعتراضهم من طريق النظر بأن قالوا أنه تعالى إن كان خلق الكفر والمعاصي فهو إذاً يغضب مما فعل ويغضب مما خلق ولا يرضى ما صنع ويسخط ما فعل ويكره ما يفعل وإنه يغضب ويسخط من تدبيره وتقديره فهذا تمويه ضعيف ونحن لا ننكر ذلك إذ أخبرنا الله عز وجل بذلك وهو تعالى قد أخبرنا أن يسخط الكفر والظلم والكذب ولا يرضاه وأنه يكره كل ذلك ويغضب منه فليس إلا التسليم لقول الله تعالى نعم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم أليس الله خلق إبليس وفرعون والخمر والكفار فلا بد من نعم فنقول لهم أيرضى عز وجل عن هؤلاء كلهم أم هو ساخط لهم كاره لهم غضبان عليهم غير راض عنهم فنقول لهم هذا نفس ما أنكرتم من انه تعالى سخط تدبيره وغضب من فعله وكره ما خلق ولعنه فإن قالوا لم يكره عين الكافر ولا سخط شخص إبليس ولا كره عين الخمر لم نسلم لهم ذلك لأنه تعالى قد نص على أنه تعالى لعن إبليس والكفار وإنهم مسخوطون ملعونون مكروهون من الله تعالى مغضوب عليهم وكذا الخمر والأوثان وقال: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " وقال تعالى: " أو لحم خنزير فإنه رجس " وقد سمى الله تعالى كل ذلك رجس ثم أمر بعد ذلك باجتنابه وأضاف كل ذلك إلى عمل الشيطان ولا خلاف في أنه عز وجل خالق كل ذلك فهو خالق الرجس بالنص ولا فرق في المعقول بين خلق الرجس وخلق الكفر والظلم والكذب وقوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " فعلى قول هؤلاء المخاذيل أنه تعالى يغضب مما ألهم ويكرهه وإلهامه فعله بلا شك ضرورة فقد صح عليهم ما شنعوا به من أنه يغضب من فعله أيضاً فيقال لهم هل الله تعالى قادر على منع الظالم من المظلوم وعلى منع الذين قتلوا رسل الله صلى الله عليهم وسلم وعلى أن يحول بين الكافر وكفره وأن يميته قبل أن يبلغ وبين الزاني وزناه بإضعاف جارحته أو بشيء يشغله به أو تيسير إنسان يطل عليهما أم هو عاجز عن ذلك كله قادر على شيء منه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا هو غير قادر على شيء من ذلك عجزوا ربهم وكفروا وبطلت أدلتهم على إحداث العالم إذ أضعفوا قدرته عن هذا اليسير السهل وإن قالوا بل هو قادر على ذلك كله فقد أقروا أيضاً على أنه تعالى رأى المنكر والكفر والزنى والظلم فأقره ولم يغيره وأطلق أيدي الكفار على قتل رسله ضربهم ومع إقراره لكل ذلك فلم يكتف بكل ذلك إلا حتى قواهم بجوارحهم وآلاتهم وكف كل مانع وهذا على قولهم أنه رضا منه تعالى بالكفر واختياراً منه تعالى لكل ذلك وهذا كفر مجرد وأما أنه يغضب مما أقر ويسخط مما أعان عليه ويكره ما فعل من إقرارهم على كل ذلك وهذا هو الذي شنعوا به لا بد من أحد الوجهين ضرورة وكلاهما خلاف قولهم إلا ان هذا لازم لهم على أصولهم ولا يلزمنا نحن شيء منه لأننا لا نقبح إلا ما قبح الله تعالى ولا نحسن إلا ما حسن الله تعالى فإن قالوا إنما أقره لينتقم منه وإنما يكون سفهاً وعبثاً لو أقره أبداً قيل لهم أي فرق بين إقراره تعالى الكفر والظلم والكذب ساعة وبين إبقائه إياه ساعة بعد ساعة وهكذا أبداً بلا نهاية أو بنهاية في الحسن والقبح وإلا فعرفونا الأمد الذي يكون إقرار الكفر والكذب والظلم إليه حكمة وحسناً وإذا تجاوزه صار عبثاً وعيباً وسفهاً فإن تكلفوا أن يحدوا في ذلك حداً أتوا بالجنون والسخف والكذب والدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا لا ندري وردوا الأمر في ذلك إلى الله عز وجل صدقوا وهذا هو قولنا أن كل ما فعله الله تعالى من تكليف ما لا يطاق وتعذيبه عليها وخلقه الكفر والظلم في الكافر والظالم وإقراره كل ذلك ثم تعذيبها عليه وخلقه الكفر وغضبه منه وسخطه إياه كل ذلك من الله تعالى حكمة وعدل وحق وممن دونه تعالى سفه وظلم وباطل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأما قولهم أن من فعل شيئاً أن ينسب إليه ويسمي به نفسه وأنه لا يعقل ولا يوجد غير هذا إيجابهم بهذا الاستدلال أن يسمى الله تعالى ظالماً لأنه خلق الظلم وكذلك من الكفر والكذب فهذا ينتقض عليهم من وجهين أحدهما أن هذا تشبيه محض لأنهم يريدون أن يحكموا على الباري تعالى بالحكم الموجود الجاري على خلقه ويقال لهم إذ لم تجدوا فاعلاً في الشاهد إلا جسماً ولا عالماً إلا بعلم هو غيره ولا حياً إلا بحياة هي عرض فيه ولا مخبراً عنه إلا جسماً أو عرضاً وما لم يكن كذلك فهو معدوم ولا يتوهم ولا يعقل ثم رأيتم الباري تعالى بخلاف ذلك كله ولم تحكموا عليه بالحكم فيما وجدتم فقد وجب ضرورة أن لا يحكم عليه تعالى بالحكم علينا في أن يسمى من أفعاله ولا في أن ينسب إليه كما ينسب إلينا بلا خلاف ذلك بالبرهان الضروري هو أن الله عز وجل خلق كل ما خلق من ذلك مخترعاً له كيفية مركبة في غيره فهكذا هو فعل الله تعالى فيما خلق وأما فعل عباده لما فعلوا فإنما معناه أنه ظهر ذلك الفعل عرضاً محمولاً في فاعله لأنه إما حركة في متحرك وأما سكون في ساكن أو اعتقاد في معتقد أو فكر في مفتكر أو إرادة في مريد ولا مزيد فبين الأمرين بون بائن لا يخفى على من له أقل فهم وأما المدح والذم واشتقاق اسم الفعل من فعله فليس كما ظنوا لكن الحق هو أنه لا يستحق أحد مدحاً ولا ذماً إلا من مدحه الله تعالى أو ذمه وقد أمرنا الله تعالى بحمده والثناء عليه فهو عز وجل محمود على كل ما فعل محبوب لذلك وأما من دونه تعالى فمن حمد الله تعالى فعله الذي أظهره فيه فهو ممدوح محمود ومن ذم عز وجل فعله الذي أظهره فيه فهو مذموم ولا مزيد وبرهان هذا إجماع أهل الإسلام على أنه لا يستحق الحمد والمدح إلا من أطاع الله عز وجل ولا يستحق الذم إلا من عصا وقد يكون المرء مطيعاً محموداً اليوم ممدوحاً بفعله إن فعله اليوم وكافراً مذموماً به إن فعله غداً كالحج في أشهر الحج وفي غير أشهر الحج ولصوم يوم الفطر والأضحى وصوم رمضان وكالصلاة في الوقت وقبل الوقت وبعد الوقت وكسائر الشرائع كلها وقد وجدنا فاعلاً للكذب قائلاً له وفاعلاً للكفر قائلاً به وهما غير مذمومين ولا يسمى واحد منهما كاذباً ولا كافراً وهما الحاكي والمكره فبطل ما ظنت المعتزلة من انه كل من فعل الكذب فهو كاذب ومن فعل الكفر فهو كافر ومن فعل الظلم فهو ظالم وصح أنه لا يكون كاذباً ولا كافراً ولا ظالماً إلا من سماه الله تعالى كافراً وكاذباً وظالماً وإنه لا كفر ولا ظلم ولا كذب إلا ما سماه الله كفراً وكذباً وظلماً وصح بالضرورة التي لا محيد عنها أنه ليس في العالم شيء محمود ممدوح لعينه ولا مذموم لعينه ولا كفر لعينه ولا ظلم لعينه وأما ما لا يقع عليه اسم طاعة ولا معصية ولا حكمها هو الله تعالى فلا يجوز أن يوقع عليه مدح ولا حمد ولا ذم إلا بنص من قبله فنحمده كما امرنا أن نقول الحمد لله رب العالمين وأما من دونه ممن لا طاعة تلزمه ولا معصية كالحيوان من غير الملائكة وكالحور العين والإنس والجن وكالجمادات فلا يستحق حمداً ولا ذماً لأن الله تعالى لم يأمر بذلك فيها فإن وجد له تعالى أمر بمدح شيء منها أو ذمه وجب الوقوف عند أمره تعالى كأمره تعالى بمدح الكعبة والمدينة والحجر الأسود وشهر رمضان والصلاة وغير ذلك وكأمره تعالى بذم الخمر والخنزير والميتة والكنيسة والكفر والكذب وما أشبه ذلك وأما ما عدا هذين القسمين فلا حمد ولا ذم واما اشتقاق اسم الفاعل من فعله فكذلك أيضاً ولا فرق وليس لأحد أن يسمي شيئاً إلا بما أباحه الله تعالى في الشريعة أو في اللغة التي أمرنا بالتخاطب بها وقد وجدناه تعالى أخبرنا بأن له كيداً ومكراً ويمكر ويكيد ويستهزئ وينسى من نسيه وهذا لا تدفعه المعتزلة ولو دفعته لكفرت لردها نص القرآن وهم مجمعون معنا على أنه لا يسمى باسم مشتق من ذلك فلا يقال ماكر من أجل أن له مكراً ولا أنه كياد من أجل أنه يكيد وأن له كيداً ولا يسمى مستهزئاً من أجل أنه يستهزئ بهم فقد أبطل ما أصلوه من أن كل فعل فعلاً فإنه يسمى منه وينسب إليه ولا يشغب هاهنا مشغب مع من لا يحسن المناظرة فيقول إنما قلنا أنه يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى على المعارضة بذلك فإنا نقول له صدقت ولم نخالفك في هذا لكن ألزمناك أن تسميه تعالى كياداً وماكراً ومستهزئاً وناسياً على معنى المعارضة كما تقول فإن أبى من ذلك وقال أن الله تعالى لم يسم بشيء من ذلك نفسه فقد رجع إلى الحق ووافقنا في أن الله تعالى لا يسمى ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً من أجل خلقه الظلم والكفر والكذب لأنه تعالى لم يسم بذلك نفسه وإن أنكر ذلك تناقض وظهر بطلان مذهبه.
قال أبو محمد: وقد وافقونا على ان الله تعالى خلق الخمر وحبل النساء ولا يجوز ان يسمى خماراً ولا محبلاً وأنه تعالى خلق أصباغ القمارى والهداهد والحجل وسائر الألوان ولا يسمى صباغاً وأنه تعالى بنى السماء والأرض ولا يسمى بناء وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقياً وأنه تعالى خلق الخمر والخنازير وإبليس ومردة الشياطين وكذلك كل سوء وسيء وخبيث ورجس وشر ولا يسمى من أجل ذلك مسيئاً ولا شريراً فأي فرق بين هذا كله وبين أن يخلق الشر والظلم والكفر والكذب ومعاصي عباده ولا يسمى بذلك مسيئاً ولا ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً ولا شريراً ولا فاحشاً والحمد لله على ما من به من الهدى والتوفيق وهو المستزاد من فضله لا إله إلا هو ويقال لهم أيضاً أنتم تقرون بأنه خلق القوة التي بها يكون الكفر والظلم والكذب وهيأها لعباده ولا يسمونه من أجل ذلك مغوياً على الكفر ولا معيناً للكافر في كفره ولا مسبباً للكفر ولا واهباً للكفر وهذا بعينه هو الذي عبتم وأنكرتم ويقال لهم أيضاً أخبرونا عن تعذيبه أهل جهنم في النيران أمحسن هو بذلك إليهم أم مسيء فإن قالوا بل محسن إليهم قالوا الباطل وخالفوا أصلهم وسألناهم أن يسألوا الله عز وجل بأنفسهم ذلك الإحسان نفسه وإن قالوا أنه مسيء إليهم كفروا به وإن قالوا ليس نسيء إليهم قلنا لهم فهم في إساءة أو في إحسان فإن قالوا ليسوا في إساءة كابروا العيان وإن قالوا بل هم في إساءة قلنا لهم هذا الذي أنكرتم أن يكون منه تعالى إليهم حال هي غاية الإساءة ولا يسمى بذلك مسيئاً وأما نحن فنقول لهم إنهم في غاية المساءة والإساءة والسخط إليهم وعليهم وليس السخط إحساناً إلى المسخوط عليه وكذلك اللعنة للملعون وإنه تعالى محسن على الإطلاق ولا نقول أنه مسيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق و الأصل في ذلك ما قلناه من انه لا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ولا يخبر عنه إلا بما أخبر به عن نفسه ولا مزيد فإن قالوا إذا جوزتم أن يفعل الله تعالى فعلاً ما هو ظلم بيننا ولا يكون بذلك ظالماً فجوزنا أن نخبره بالشيء على خلاف ما هو ولا يكون بذلك كاذباً وإن لا يعلم ما يكون ولا يكون بذلك جاهلاً وإن لا يقدر على شيء ولا يكون بذلك عاجزاً قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال من وجهين أحدهما أننا قد أوضحنا أنه ليس في العالم ظلم لعينه ولا بذاته البتة وإنما الظلم بالإضافة فيكون قتل زيد إذ نهي الله عنه ظلماً وقتله إذا أمر الله بقتله عدلاً وأما الكذب فهو كذب لعينه وبذاته فكل من اخبر بخبر بخلاف ما هو فهو كاذب إلا أنه لا يكون ذلك إثماً ولا مذموماً إلا حيث أوجب الله تعالى فيه الإثم والذم فقط وكذلك القول في الجهل والعجز أنهما جعل لعينه وعجز لعينه فكل من لم يعلم شيئاً فهو جاهل به ولا بد وكل من لم يقدر على شيء فهو عاجز عنه ولا بد والوجه الثاني ان بالضرورة التي بها علمنا من نواة التمر لا يخرج منها زيتونة وإن الفرس لا ينتج جملاً بها عرفنا ان الله تعالى لا يكذب ولا يعجز ولا يجهل لأن كل هذه من صفات المخلوقين عنه تعالى منفية إلا ما جاء نص بأن يطلق الاسم خاصة من أسمائها عليه تعالى فيقف عنده وأيضا فإن أكثر المعتزلة يحقق قدرة الباري تعالى على الظلم والكذب ولا يجيزون وقوعهما منه تعالى وليس وصفهم إياه عز وجل بالقدرة على ذلك بموجب إمكان وقوعه منه تعالى فلا ينكروا علينا أن نقول أن الله عز وجل فعل أفعالاً هي منه تعالى عدل وحكمة وهي منا ظلم وعبث وليس يلزمنا مع ذلك أن نقول انه يقول الكذب ويجهل فبطل هذا إلا لزام والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإننا لم نقل أنه تعالى يظلم ولا يكون ظالماً ولا قلنا أنه يكفر ولا يسمى كافراً ولا قلنا أنه يكذب ولا يسمى كاذباً فيلزمنا ما أرادوا وإلزامنا إياه وإنما قلنا أنه خلق الظلم والكذب والكفر والشر والحركة والطول والعرض والسكون إعراضاً في خلقه فوجب أن يسمى خالقاً لكل ذلك كما خلق الجوع والعطش والشبع والري والسمن والهزال واللغات ولم يجز أن يسمى ظالماً ولا كاذباً ولا كافراً ولا شريراً كما لم يجز عندنا وعندهم أن يسمى من أجل خلقه لكل ما ذكرناه متحركاً ولا ساكناً ولا طويلاً ولا عريضاً ولا عطشان ولا ريان ولا جائعاً ولا شابعاً ولا سميناً ولا هزيلاً ولا لغوياً وهكذا كل ما خلق الله تبارك وتعالى فإنما يخبر عنه بأنه تعالى خالق له فقط ولا يوصف بشيء مما ذكرنا إلا من خلقه الله عرضاً فيه واما قولهم لا يفعل فعل من فاعلين هذا فعله كله وهذا فعله فإن هذا تحكم ونقصان من القسمة أوقعهم فيها جهلهم وتناقضهم وقولهم إنما يستدل بالشاهد على الغايب وهذا قول قد أفسدناه في كتابنا في الأحكام في أصول الأحكام بحمد الله تعالى ونبين هاهنا فساده بإيجاز فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه ليس عن العقل الذي هو التمييز شيء غائب أصلاً وإنما يغيب بعض الأشياء من الحواس وكل ما في العالم فهو مشاهده في العقل المذكور لأن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول فيه وكلاهما يقتضي خالقاً أولاً واحداً لا يشبهه شيء من خلقه في وجه من الوجوه فإن كانوا يعنون بالغائب الباري عز وجل فقد لزمه بالحاضر وفي هذا كفاية بل ما دل الشاهد كله إلا ان الله تعالى بخلاف كل من خلق من جميع الوجوه وحاشا لله أن يكون جل وعز غائباً عنا بل هو شاهد بالعقل كما نشاهد بالحواس كل حاضر ولا فرق بين صحة معرفتنا به عز وجل بالمشاهدة بضرورة العقل وبين صحة معرفتنا لسائر ما نشاهده ثم نرجع إن شاء الله تعالى إلى إنكارهم فعلاً واحداً من فاعلين فنقول وبالله تعالى التوفيق إنما امتنع ذلك فيما بيننا في الأكثر لا على العموم لما شاهدناه من أنه لا تكون حركة واحدة في الأغلب لمتحركين ولا اعتقاد واحد لمعتقدين ولا إرادة واحدة لمريدين ولا فكرة واحدة لمفتكرين ولكن لو أخذ اثنان سفاً واحداً أو رمحاً واحداً فضربا به إنساناً فقطعاه أو طعناه به لكانت حركة واحدة غير منقسمة لمتحركين بها وفعلاً واحداً غير منقسم لفاعلين هذا أمر يشاهد بالحس والضرورة وهذا منصوص في القرآن من أنكره كفر وهو أن القراءة المشهورة عند المسلمين " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " وليهب لك غلاما زكيا كلا القراءتين بنقل الكواف عن رسول الله ﷺ عن جبريل ﷺ فإذا قرئت بالهمز فهو إخبار جبريل رسول الله ﷺ الروح الأمين إنه هو الواهب لها عيسى عليه السلام وإذا قرئت بالياء فهو من إخبار جبريل عن الله عز وجل لأن الله تعالى هو الواهب لها عيسى عليه السلام فهذا فعل من فاعلين نسب إلى الله عز وجل الهبة لأنه تعالى هو الخالق لتلك الهبة ونسبت الهبة أيضاً إلى جبريل لأنه منه ظهرت إذ أتى بها وكذلك قوله عز وجل: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فأخبر الله تعالى أنه رمى وأن نبيه رمى فأثبت تعالى لنبيه ﷺ الرمي ونفاه عنه معاً وبالضرورة ندري أن كلام الله عز وجل لا يتناقض فعلمنا أن الرمي الذي نفاه الله عز وجل عن نبيه ﷺ هو غير الرمي الذي أثبته له لا يظن غير هذا مسلم البتة فصح ضرورة أن نسبة الرمي إلى الله عز وجل لأنه خلقه وهو تعالى خالق الحركة التي هي الرمي و ممضي الرمية وخالق مسير الرمي وهذا هو المنفي عن الرامي وهو النبي ﷺ وصح أن الرمي للذي أثبته الله عز وجل لنبيه ﷺ هو ظهور حركة الرمي منه فقط وهذا هو نص قولنا دون تكلف وكذلك قوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " والقول في هذا كالقول في الرمي ولا فرق وكذلك قوله تعالى: " زينا لكل أمة عملهم " وقوله تعالى: " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " ضرورة أن تزيين الله لكل أمة عملها إنما هو خلقه لمحبة أعمالهم في نفوسهم وأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم إنما هو بظهور الدعاء إليها وبوسوسته وقال تعالى حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه قال: " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله " أفليس هذا فعلاً من فاعلين من الله تعالى ومن المسيح عليه السلام بنص الآية وهل خالق الطير ومبرئ الأكمه والأبرص إلا الله وقد أخبر عيسى إذ يخلق ويبرئ فهو فعل من فاعلين بلا شك وقال عز وجل مخبراً عن نفسه أنه يحيي ويميت وقال عيسى عليه السلام عن نفسه وأحيي الموتى بإذن الله فبالضرورة نعلم أن الميت الذي أحياه عليه السلام والطير الذي خلق بنص القرآن فإن الله تعالى أحياه وخلقه وعيسى عليه الصلاة والسلام أحياه وخلقه بنص القرآن فهذا كله فعل من فاعلين بلا شك وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول في قوله تعالى: " وأحلوا قومهم دار البوار جهنم " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو الذي أحلهم فيها بلا شك لكن لما ظهر منهم السبب الذي حلوا به دار البوار أضيف ذلك إليهم كما قال تعالى عن إبليس: " كما أخرج أبويكم من الجنة " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو أخرجهما وأخرج إبليس معهما لكن لما ظهر من إبليس السبب في خروجهما أضيف ذلك إليه وكما قال تعالى: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " فنقول أن محمداً ﷺ أخرجنا من الظلمات إلى النور وقد علمنا أن المخرج له عليه السلام ولنا هو الله تعالى لكن لما ظهر السبب في ذلك منه عليه السلام أضيف الفعل إليه فهذا كله لا يوجب الشرك بينهم وبين الله تعالى كما تموه المعتزلة وكل هذا فعل من فاعلين وكذلك سائر الأفعال الظاهرة من الناس ولا فرق وقال تعالى: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " وقال تعالى: " وأملي لهم إن كيدي متين " وقال تعالى: " الشيطان سول لهم وأملى لهم " فعلمنا ضرورة أن إملاء الله تعالى إنما هو تركه إياهم دون تعجيل عقاب بل بسط لهم من الدنيا ومد لهم من العمر ما كان لهم عوناً على الكفر والمعاصي وعلمنا أن إملاء الشيطان إنما هو بالوسوسة وإنساء العقاب والحض لهم على المعاصي وقال تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " فهذا فعل من فاعلين ضرورة نسب إلى الله تعالى لأنه اخترعه وخلقه وأنماه ونسب إلينا لأننا تحركنا في زرعه فظهرت الحركة المخلوقة فينا فهذه كلها أفعال خلقها الله تعالى وأظهرها في عباده فقط وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: وتحقيق هذا القول في الأفعال هو أن الله سبحانه وتعالى خلق كل ما خلق قسمين فقط جوهراً حاملاً وعرضاً محمولاً ناطقاً وغير ناطق فغير الحي هو الجماد كله والناطق هو الملائكة وحور العين والجن والإنس فقط وغير الناطق هو كل ما عدا ذلك من الحيوان ثم خلق تعالى في الجمادات وفي الحي غير الناطق وفي الحي الناطق حركة وسكوناً وتأثيراً قد ذكرناه آنفاً فالفلك يتحرك والمطر ينزل والوادي يسيل والجبل يسكن والنار تحرق والثلج يبرد وهكذا في كل شيء بهذا جاء القرآن وجميع اللغات قال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً وقال تعالى: " فإما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك تجري في البحر بأمره والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " ومثل هذا كثير جداً وبهذا جاءت اللغات في نسبة الأفعال الظاهرة في الجمادات إليها لظهورها فيها فقط لا يختلف لغة في ذلك وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: " أجنبني ونبي أن نعبد الأصنام رب أنهن أضللن كثيراً من الناس " فأخبر أن الأصنام تضل وقال تعالى: " تذروه الرياح وهذا أكثر من أن يحصى والأعراض أيضاً تفعل كما ذكرنا قال عز وجل: " والعمل الصالح يرفعه وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فالظن يردى والعمل يرفع ولم تختلف أمة في صحة القول أعجبني عمل فلان وسرني خلق فلان ومثل هذا كثير جداً وقد وجدنا الحر يحلل ويصعد والبرد يجمد ومثل هذا كثير جداً وقد بيناه والكل خلق الله عز وجل وأما حركة الحي غير الناطق والحي الناطق وسكونهما وتأثيرهما فظاهر أيضاً ثم خلق سبحانه وتعالى في الحي غير الناطق وفي الحي الناطق قصداً ومشيئة لم يخلق ذلك في الجماد كإرادة الحيوان الرعي وتركه والمشي وتركه والأكل وتركه وما أشبه هذا ثم خلق تعالى في الحي الناطق تمييزاً لم يخلقه في الحي غير الناطق ولا في الجماد وهو التصرف في العلوم والمعارف هذا كله أمر مشاهد وكل ذلك خلق الله تعالى فيما خلقه فيه ونسب الفعل في كل ذلك إلى من أظهره الله تعالى منه فقط فخلق تعالى كما ذكرنا في الحي الناطق الفعل والاختيار والتمييز وخلق في الحي غير الناطق الفعل والاختيار فقط وخلق في الجمال الفعل فقط وهو الحركة والسكون والتأثير كما ذكرنا وبالجملة فلا فرق بين من كابر وجاهر فأنكر فعل المطبوع بطبعه وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وبين آخر جاهر وكابر فأنكر فعل المختار باختياره وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وكلا الأمرين محسوس بالحس معلوم بأول العقل وضرورته أنه فعل لما ظهر منه ومعلوم كل ذلك بالبرهان الضروري أنه خلق الله تعالى في المطبوع وفي المختار فإن فروا إلى القول بأن الله تعالى لم يخلق فعل المختار وأنه فعل المختار فقد قلنا قد بينا بطلان هذا قبل ولكن نعارضكم هاهنا بأن منكم من يقول بأن الله تعالى أيضاً لم يخلق فعل المطبوع وأنه فعل المطبوع فقط كمعمر وغيره من كبار المعتزلة فإن قالوا أخطأ من قال هذا وكفر قلنا لهم وأخطأ أيضاً وكفر من قال أن أفعال المختار لم يخلقها الله تعالى ولا فرق فإن قالوا أن الله تعالى هو خالق الطبيعة والمطبوع الذين ينسبون الفعل إليهما فهو خالق ذلك الفعل قلنا لهم والله عز وجل هو خالق المختار وخالق اختياره وخالق قوته وهم الذين ينسبون الفعل إليهم فهو عز وجل خالق ذلك الفعل ولا فرق.
قال أبو محمد: وهذا الذي ذكرنا من إضافة التأثير وجميع الأفعال إلى كل من ظهرت منه من جماد أو عرض أوحي أو ناطق أو غير ناطق فهو الذي تشهد به الشريعة وبه جاء القرآن والسنن كلها وبه تشهد البينة لأنه أمر محسوس مشاهد وبه تشهد جميع اللغات من جميع أهل الأرض قاطبة لا نقول لغة العرب فقط بل كل لغة لا نحاشي شيئاً منها وما كان هكذا فلا شيء أصح منه فإن قالوا تسمون الجماد والعرض كاسباً قلنا لا لأنا لا نتعدى ما جاءت به اللغة من أحال اللغة التي بها نزل القرآن برأيه فقد دخل في جملة من قال الله تعالى فيه: " يحرفون الكلم عن مواضعه " ولحق بالسوفسطائية في أبطالهم التفاهم ولو جاءت اللغة بذلك لقلناه كما نقول أن الله عز وجل فاعل ذلك ولا نسميه كاسباً فإن قيل أتقولون أن الجمادات والعرض عامل قلنا نعم لأن اللغة جاءت بذلك وبه نقول الحديد يعمل والحر يعمل في الأجسام وهكذا في غير ذلك فإن قيل أتقولون للجماد والعرض استطاعة وقوة وطاقة وقدرة قلنا إنما نتبع اللغة فقط فنقول إن الجمادات والأعراض قوى يظهر بها ما خلق الله تعالى فيها من الأفعال وفيها طاقة لها ولا نقول فيها قدرة ولا نمنع من أن نقول فيها طاقة قال الله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " فنقول الحديد ذو بأس شديد وذو قوة عظيمة وذو طاقة وقد قلنا لكم لا نتعدى في التسمية والعبارة جملة ما جاءت به اللغة ولا نتعدى في تسمية الله تعالى والخبر عنه ما جاء به القرآن ونص عليه رسول الله ﷺ وهذا هو الذي صح به البرهان وما عداه فباطل وضلال وبالله تعالى التوفيق وأما اعتراضهم بهل الخلق هو الكسب أو غيره فنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن وكل صنعنا وجميع أعمالنا وأفعالنا لذلك هو خلق لله عز وجل فينا كما ذكرنا لأن كل ذلك شيء وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " ولكننا لا نتعدى باسم الكسب حيث أوقعه الله تعالى مخبراً لنا بأننا نجزي بما كسبت أيدينا وبما كسبنا في غير موضع من كتابه ولا يحل أن يقال أنه كسب لله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله ولا يحل ان يقال أنها خلق لنا لأن الله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله لكن نقول هي خلق لله كما نص على أنه خالق كل شيء ونقول هي كسب لنا كما قال تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ولا نسميه في الشريعة ولا فيما يخبر به عن الله عز وجل لأن الله خالق الألسنة الناطقة بالأسماء وخالق الأسماء وخالق المسميات حاشاه تعالى وخالق الهواء الذي ينقسم على حروف الهجاء فتتركب منها الأسماء فإذا كانت الأسماء مخلوقة لله والمسميات دونه تعالى مخلوقة لله عز وجل والمسمون الناطقون بآلاتهم مخلوقين لله عز وجل فليس لأحد إيقاع اسم على مسمى لم يوقعه الله تعالى عليه في الشريعة أو أباح إيقاعه عليه بإباحته الكلام باللغة التي أمرنا الله عز وجل بالتفاهم بها وبأن نتعلم بها ديننا ونعلمه بها وقد نص تعالى على هذا القول وقال منكراً على قوم أوقعوا اسماً على مسميات لم يأذن الله تعالى بها ولا بإيقاعها عليها: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " فأخبر عز وجل ان من أوقع اسماً على مسمى لم يأت به نص بإيجابه أو بالإذن فيه بالشريعة أو بجملة اللغة فإنما يتبع الظن والظن أكذب الحديث وإنما يتبع هواه وقد حرم الله تعالى اتباع الهوى وأخبر تعالى أن الهدى قد جاء من عنده وقال تعالى: " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فليس لأحد أن يتعدى القرآن والسنة اللذين هما هدى الله عز وجل وبه التوفيق فصح ضرورة أنه ليس لأحد ان يقول أن أفعالنا خلق لنا ولا أن ها كسب لله عز وجل ولكن الحق الذي لا يجوز خلافه هو أنها خلق لله تعالى كسب لنا كما جاء في هدى الله الذي هو القرآن وقد بينا أيضاً أن الخلق هو الإبداع والاختراع وليس هذا لنا أصلاً فأفعالنا ليست خلقاً لنا والكسب إنما هو استضافة الشيء إلى جاعله أو جامعه بمشيئة الله وليس يوصف الله تعالى بهذا في أفعالنا فلا يجوز أن يقال هي كسب له تعالى وبه نتأيد وأيضاً فقد وافقونا كلهم على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأجسام وكلهم حاشا معمراً وعمرو بن بحر الجاحظ موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأعراض كلها حاشا أفعال المختارين وكلهم ومعمر والجاحظ أيضاً موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق الأمانة والأحياء وكلهم موافقون لنا على أنه تعالى إنما سمي خالقاً لكل ما خلق لإبداعه إياه وكم يكن قبل ذلك فإذا ثبت بالبرهان اختراعه تعالى لسائر الأعراض التي خالفونا فيها وجب أن يسمى خلقاً له عز وجل ويسمى هو تعالى خالقاً لها وأما اعتراضهم بأنه إذا كانت أفعالنا خلقاً لله تعالى وكان متوهماً منا ومستطاعاً عليه في ظاهر امرنا بسلامة جوارحنا ان لا تكون تلك الأفعال فقد ادعينا أننا مستطيعون في ظاهر الأمر بسلامة الجوارح وأنه متوهم منا منع الله من أن يخلقها وهذا كفر مجرد ممن أجازه.
قال أبو محمد: وهذا لازم للمعتزلة على الحقيقة لا لنا لأنهم القائلون أنهم يقدرون ويستطيعون على الحقيقة على ترك أفعالهم وعلى ترك الوطء الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يخلق منه الولد وعلى ترك الضرب الذي قد علم الله أنه لا بد ان يكون وأنه يكون منه الموت وانقضاء الأجل المسمى عنده وعلى ترك الحرث والزرع الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يكون منه النبات الذي تكون منه الأقوات والمعاش فيلزمهم ولا بد أهم قادرون على منع الله تعالى مما قد علم وقال أنه سيفعل.
قال أبو محمد: ومن بلغ هاهنا فلا بد أن يرجع إما تائباً محسناً إلى نفسه أو خاسئاً غاوياً مقلداً منقطعاً أو يتمادى على طرد قوله فيكفر ولا بد مع خلافه لضرورة الحس والمشاهدة وضرورة العقل والقرآن وبالله تعالى التوفيق وأما نحن فجوابنا ها هنا أننا لم نستطع قط على فعل ما لم يعلم الله أننا سنفعله ولا على ترك ما علم أننا نفعله ولا على فسخ علم الله تعالى أصلاً ولا على تكذيبه عز وجل في فعل ما أمر تعالى به وإن كنا في ظاهر الأمر نطلق ما أطلق الله تعالى من الاستطاعة التي لا يكون بها إلا ما علم الله تعالى أنه يكون ولا مزيد وهي استطاعة بإضافة لا استطاعة على الإطلاق لكن نقول هو مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم كون الفعل منه فقط فإن قالوا فأمركم الله تعالى بأن تكذبوا قوله وتبطلوا علمه إذ أمركم بفعل ما علم أنه لا تفعلونه قلنا عند تحقيق الأمر فإن أمره عز وجل لمن علم أنه لا يفعل ما أمر به أمر تعجيز كقوله: " قل كونوا حجارة أو حديداً " وكقوله: " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ".
قال أبو محمد: وقد تحيرت المعتزلة هاهنا حتى قال بعضهم لو لم يقتل زيد لعاش وقال أبو الهذيل لو لم يقتل لمات وشغب القائلون بأنه لو لم يقتل لعاش بقول الله عز وجل " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " وبقول رسول الله ﷺ " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه ".
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه بل هو بظاهره حجة عليهم لأن النقص في اللغة التي بها نزل القرآن إنما هو من باب الإضافة وبالضرورة علمنا أن من عمر ماية عام وعمر آخر ثمانين سنة فإن الذي عمر ثمانين نقص من عدد عمر الآخر عشرين عاماً فهذا هو ظاهر الآية ومقتضاها على الحقيقة لا ما يظنه من لا عقل له من أن الله تعالى جار تحت أحكام عباده إن ضربوا زيداً أماته وإن لم يضربوه لم يمته من أن علمه غير محقق فربما أعاش زيداً ماية سنة وربما أعاشه أقل وهذا هو البداء بعينه ومعاذ الله تعالى من هذا القول بل الخلق كله مصرف تحت أمر الله عز وجل وعلمه فلا يقدر أحد على تعدي ما علم الله تعالى أن يكون ولا يكون البتة إلا ما سبق في علمه أن يكون والقتل نوع من أنواع الموت فمن سأل عن المقتول لو لم يقتل لكان يموت أو ليعيش فسؤاله سخيف لأن إنما يسأل لو لم يمت هذا الميت أكان يموت أو كان لا يموت وهذه حماقة جداً لأن القتل علة لموت المقتول كما أن الحمى القاتلة والبطن القاتل وسائر الأمراض القاتلة علل للموت الحادث عنها ولا فرق وأما قول رسول الله ﷺ " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه " فصحيح موافق للقرآن ولما توجبه المشاهدة وإنما معناه أن الله عز وجل لم يزل يعلم أن زيداً سيصل رحمه وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا وكذا كل حي في الدنيا لأن من علم الله تعالى أنه سيعمره كذا وكذا من الدهر فإنه تعالى قد علم وقدر أنه سيتغدى بالطعام والشراب ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لابد من استيفائها والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز وجل كما هو لا يبدل قال تعالى: " ما يبدل القول لدي " ولو كان على غير هذا لوجب البداء ضرورة ولكان غير عليم بما يكون متشككاً فيه لا يكون أم لا يكون وجاهلا به جملة وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق وهذا كفر ممن قال به وهم لا يقولون بهذا.
قال أبو محمد: ونص القرآن يشهد بصحة ما قلنا قال الله تعالى عز وجل: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " وقال تعالى: " قل لن ينفعكم الفرار أن فررتم من الموت أو القتل " وقال تعالى: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وقال تعالى منكر القول قوم جرت المعتزلة في ميدانهم: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت " وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ".
قال أبو محمد: وهذه نصوص لا يبعد من ردها بعد ان سمعها عن الكفر نعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وموه بعضهم بأن ذكر قول الله تعالى " ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ".
قال أبو محمد: وهذه الآية حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه قضى أجلاً ولم يقل لشيء دون شيء لكن على الجملة ثم قال تعالى " وأجل مسمى عنده " فهذا الأجل المسمى عنده هو الذي قضى بلا شك إذ لو كان غيره لكان أحدهما ليس أجلاً إذا أمكن التقصير عنه أو مجاوزته ولكان الباري تعالى مبطلاً إذ سماه أجلاً وهذا كفر لا يقوله مسلم وأجل الشيء هو ميعاده الذي لا يتعداه وإلا فليس يسمى أجلاً البتة ولم يقل تعالى أن الأجل المسمى عنده هو غير الأجل الذي قضى فأجل كل شيء منقضى أمره بالضرورة نعلم ذلك ويبين ذلك قوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وقال: " ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها " وقد أخبرنا تعالى بذلك أيضاً فقال: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا " فتظاهرت الآيات كلها بالحق الذي هو قولنا وبتكذيب من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق وأما الأرزاق فإن الله تعالى أخبرنا فقال: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وقال تعالى: " وخلقناكم أزواجاً " فكل مال حلال فإنما نقول أنه تعالى رزقنا إياه وكل امرأة حلال فإننا نقول أن الله تعالى زوجنا إياها أو ملكنا إياها وأما من أخذ مالاً بغير حق أو امرأة بغير حق فلا يجوز أن يقول أنه تعالى رزقنا إياه ولا أن الله تعالى ملكنا إياه ولا أن الله أعطانا إياه ولا أن الله تعالى زوجنا إياها ولا أن الله تعالى ملكنا إياها ولا أنكحنا إياها لأن الله تعالى لم يطلق لنا أن نقول ذلك وقد قلنا أن الله تعالى له التسمية لا لنا لكن نقول أن الله ابتلانا بهذا المال وبهذه المرأة وامتحنا بهما وأضلنا بهما وخلق تملكنا إياهما ونكاحها لنا واستعمالنا إياهما ولا نقول أنه أطعمنا الحرام ولا أباح لنا الحرام ولا وهب لنا الحرام ولا آتانا الحرام كما ذكرنا من التسمية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما قولهم أليس إذا كانت أفعالكم لكم ولله تعالى فقد وجب أنكم شركاؤه فيها فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا من أبرد ما موهوا به وهو عائد عليهم لأنهم يقولون أنهم يخترعون أفعالهم ويخلقونها وهي بعض الأعراض وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض ويخلقها ويخترعها فهذا هو عين الإشراك والتشبيه في حقيقة المعنى وهو الاختراع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وأما نحن فلا يلزمنا إيجاب الشركة لله تعالى فيما قلنا لأن الإشراك لا يجب بين المشتركين إلا باتفاقهما فيما اشتركا فيه وبرهان ذلك أن أموالنا ملك لنا وملك لله عز وجل بإجماع منا ومنهم وليس ذلك بموجب أن تكون شركاؤه فيها لاختلاف جهات الملك لأن الله تعالى إنما هو مالك لها لأنها مخلوقة له تعالى وهو مصرفنا فيها وناقلها عنا وناقلنا عنها كيف شاء الله تعالى وهي ملكنا لأنها كسب لنا وملزمون إحكامها ومباح لنا التصرف فيها بالوجوه التي أباحها الله تعالى لنا وأيضاً فنحن عالمون بأن محمداً رسول الله والله تعالى عالم بذلك وليس ذلك موجباً لأن نكون شركاؤه في ذلك العلم لاختلاف الأمر في ذلك لأن علمنا عرض محمول فينا وهو غيرنا وعلم الله تعالى ليس هو غيره ومثل هذا كثير جداً لا يحصى في دهر طويل بل لا يحصيه مفصلاً إلا الله وحده لا شريك له فكيف لم يجب الاشتراك البتة بين الله تعالى وبيننا عندهم في هذه الوجوه كلها ووجب أن يكون شركاؤه في شيء ليس للاشتراك البتة فيه مدخل وهو خلقه تعالى لا فعال لنا هو فاعل لها بمعنى مخترع لها ونحن فاعلون لها بمعنى ظهورها محمولة فينا وهذا خلاف فعل الله تعالى لها وقد قال بعض أصحابنا بأن الأفعال لله تعالى من جهة الخلق وهي لنا من جهة الكسب. قال أبو محمد: وقد تذاكرت هذا مع شيخ طرابلسي يكنى أبا الحسن معتزلي فقال لي وللأفعال جهات وزاد بعضهم فقال أو ليست أعراضاً والعرض لا يحمل العرض والصفة لا الصفة.
قال أبو محمد: وهذا جهل من قائله وقضية فاسدة من أهذار المتكلمين ومشاغلهم وقول يرده القرآن والمعقول والإجماع من جميع اللغات والمشاهدة فأما القرآن فإن الله تعالى يقول: " عذاب عظيم وعذاب أليم ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر " وقال تعالى: " وأنبتها نباتاً حسناً " وقال تعالى: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " وقال تعالى: " ومكروا مكراً كبارا " وقال تعالى: " إن كيدكن عظيم " وقال تعالى: " وجاؤوا بسحر عظيم " وقال تعالى: " صفراء فاقع لونها " وقال تعالى: " قد بدت البغضاء من أفواههم " وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقال تعالى: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " وقال تعالى: " اتبعوا ما أسخط الله " وقال تعالى: " فلما أضاءت ما حوله " وقال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فأخذتكم الصاعقة " وقال تعالى: " مما تنبت الأرض " وقال تعالى: " لما يتفجر منه الأنهار " وقال تعالى: " فيخرج منه الماء " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ".
قال أبو محمد: فوصف الله تعالى العذاب بالعظم وبالإيلام وبأن فيه أكبر وأدنى ووصف النبات بالحسن وكيد الشيطان بالضعف وكيد النساء بالعظم والمكر بالكبر والسحر بالعظم واللون بالفقوع وذكر أن البغضاء تبدو وأن الكلام الطيب يصعد إليه تعالى وأن الأعمال الصالحة ترفع الكلام الطيب وأن الظن يردي وأن الردي يسخط الله تعالى ومثل هذا في القرآن وسنن رسول الله ﷺ أكثر من أن يجمع إلا في جزء ضخم فكيف يساعد امرأ مسلما لسانه على إنكار شيء من هذا بعد شهادة الله عز وجل بما ذكرنا وأما إجماع اللغات فكل لغة لا ينكر أحد فيها القول بصورة حسنة وصورة قبيحة وحمرة مشرقة وحمرة مضيئة وحمرة كدرة ولا يختلف أحد من أهل الأرض في أن يقول لي صف عمل فلان وهذا عمل موصوف وصفة عمل كذا وكذا وهذا هو الذي أنكروا بعينه وهو أكثر من أن يحصى وأما الحس والعقل والمعقول فبيقين يدري كل ذي فهم أن الكيفيات تقبل الأشد والأضعف هذه خاصة الكيفية التي توجد في غيرها وكل هذا عرض يحمل عرضاً وصفة تحمل صفة.
قال أبو محمد: وقد عارضني بعضهم في هذا فقال لو أن العرض يحمل العرض لحمل ذلك العرض عرضاً آخر وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود أعراض لا نهاية لها وهذا باطل.
قال أبو محمد: فقلت أن المشاهدات لا تدفع بهذه الدعوة الفاسدة وهذا الذي ذكرت لا يلزم لأننا لم نقل أن كل عرض فواجب أن يحمل أبداً لكنا نقول أن من الأعراض ما يحمل الأعراض كالذي ذكرنا ومنها ما لا يحمل الأعراض وكل ذلك جار على ما رتبه الله عز وجل وعلى ما خلقه وكل ذلك له نهاية تقف عندها ولا يزيد ونحن إذا وجد فيما بيننا جسم يزيد على جسم آخر زيادة ما في طوله أو عرضه فليس يجب من ذلك أن الزيادة موجودة إلى ما لا نهاية له لكن تنتهي الزيادة إلى حيث رتبها الله عز وجل وتقف وإنما العلم كله معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط ونقول لهم أتخالف حمرة التفاحة حمرة الخوخة أم لا فلا بد لهم من أن يقروا بأنها قد تخالفها في صفة ما إلا ان ينكروا العيان فنقول لهم أتخالف الحمرة الصفرة أم لا فلا بد أيضاً من نعم فنقول لهم أخلاف الحمرة للحمرة هو خلاف الحمرة للصفرة أم لا فلا بد من لا ولو قالوا نعم للزمهم أن الصفرة هي الحمرة إذا كانت الصفرة لا تخالفها الحمرة إلا بما تخالف فيه الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فإذاً في الحمرة والصفرة صفتان بهما يختلفان غير الصفة التي بها تخالف الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فقد صح يقيناً أن الصفة قد تحمل الصفة وأن العرض قد يحمل العرض لضرورة المشاهدة على حسب ما رتبه الله تعالى وكل ذلك ذو نهاية ولا بد وتحقيق الكلام في هذه المعاني وتناهيها هو أن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد والجوهر أجناس وأنواع والعرض أجناس وأنواع والأجناس محصورة ببراهين قد ذكرناها في كتاب التقريب عمدتها أن الأجناس أقل عدداً من الأنواع المنقسمة تحتها بلا شك والأنواع أكثر عدداً من الأجناس إذ لا بد من ان يكون تحت كل جنس نوعان أو أكثر من نوعين والكثرة والقلة لا يقعان ضرورة إلا في ذي نهاية من مبدأه ومنتهاه لأن ما لا نهاية له فلا يمكن أن يكون شيء أكثر منه ولا أقل منه ولا مساوياً له لأن هذا يوجب النهاية ولا بد فالعالم إذاً ذو نهاية لأنه ليس شيئاً غير الأجناس والأنواع التي للجواهر والأعراض فقط والمعاني إنما هي للأشياء المعبر عنها بالألفاظ فقط فإذ هذا كما ذكرنا فإنما نقيس الأشياء بصفاتها التي تقوم منها حدودها مثل أن نقول ما الإنسان فنقول جسم ملون ونفس فيه تمكن أن تكون متصرفة في العلوم والصناعات يقبل الحياة والموت فيقال ما الجسم وما النفس وما اللون وما الصناعات وما العلوم وما الحياة وما الموت فإذا فسرت جميع هذه الألفاظ ورسمت كل ما يقع عليه وفعلت كذلك في جميع الأجناس والأنواع فقد انتهت المعاني وانقطعت ولا سبيل إلى التمادي بلا نهاية أصلاً لأن كل ما ينطق به أو يعقل فإنه لا يعدو الأجناس والأنواع البتة والأنواع والأجناس محصورة كما بينا وكل ما خرج من الأشخاص إلى حد الفعل فقد حصره العدد لأنه ذو مبدأ وكل ما حصره العدد فمتناه ضرورة فجميع المعاني من الأعراض وغيرها محصورة بما ذكرنا من البرهان الصحيح الذي ذكرنا أن كل ما في العلم مما خرج إلى الوجود في الدهر مذ كان العالم من جنس أو عرض فهو كله محصور عدده متناه أمده ذو غاية في ذاته في مبدأه ومنتهاه وعدده وبالله التوفيق وقد نعجز نحن عن عد شعور أجسامنا ونوقن أنها ذات عدد متناه بلا شك فليس قصور قولنا عن إحصاء عدد ما في العالم بمعترض على وجوب وجود النهاية في جميع أشخاص جواهره وأعراضه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما قولهم إذا كان فعلنا خلقاً لله عز وجل ثم عذبنا عليه فإنما عذبنا على خلقه فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا لا يلزم ولو لزمنا للزمهم إذا كان تعالى يعذبنا على إرادتنا وحركتنا الواقعتين منا أن يعذبنا على حركة لنا أو على كل إرادة لنا بل على كل حركة في العالم وعلى كل إرادة فإن قالوا لا يعذبنا إلا على حركتنا وإرادتنا الواقعين منا بخلاف أمره عز وجل وكذلك نقول نحن أنه لا يعذبنا إلا على خلقه فينا الذي هو ظاهر منا بخلاف أمره وهو منسوب إلينا ومكتسب لنا لإيثارنا إياه المخلوق فينا فقط لا على كل ما خلق فينا أو في غيرنا ولا فرق ولو أخبرنا تعالى أنه يعذبنا على ما خلق في غيرنا لقلنا به ولصدقناه كما نقر أنه يعذب أقواماً على ما لم يفعلوه قط ولا أمروا به لكن على ما يفعله غيرهم ممن جاء بعدهم بألف عام لأن أولئك كانوا أول من فعل مثل ذلك الفعل قال الله تعالى: " وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم " وقال تعالى حاكياً عن أحد ابني آدم عليه السلام أنه قال: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " وقال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " وليس هذا معارضاً لقوله تعالى: " وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء " بل كلا الآيتين متفقة مع الأخرى لأن الخطايا التي نفى الله عز وجل أن يحملها أحد عن أحد بمعنى أن يحط حمل هذا لها من عذاب العامل بها شيئاً فهذا لا يكون لأن الله عز وجل نفاه وأما الحمل لمثل عقاب العامل للخطيئة مضاعفاً زائداً إلى عقابه غير حاط من عقاب الآخر شيئاً فهو واجب موجود وكذلك أخبرنا رسول الله ﷺ أن من سن سنة في الإسلام سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها أبداً لا يحط ذلك من أوزارهم العاملين لها شيئاً ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذبنا على فعل غيرنا دون أن نسنه وإنه يعذبنا على غير فعل فعلناه أو على الطاعة لكان كل ذلك حقاً وعدلاً ولوجب التسليم له ولكن الله تعالى وله الحمد قد آمننا من ذلك بقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا أهتديتم " ولحكمه تعالى أننا لا نجزي إلا بما عملنا أو كنا مبتدئين له فآمنا ذلك ولله تعالى الحمد وقد أيقنا أيضاً أنه تعالى يأجرنا على ما خلق فينا من المرض والمصائب وعلى فعل غيرنا الذي لا أثر لنا فيه كضرب غيرنا لنا ظلماً وتعذيبهم لنا وعلى قتل القاتل لمن قتل ظلماً وليس هاهنا من المقتول صبر ولا عمل أصلاً فإنما أجر على فعل غير مجرداً إذا أحدثه فيه وكذلك من أخذ غيره ماله والمأخوذ ماله لا يعلم بذلك إلى أن مات فأي فرق بين أن يأجرنا على فعل غيرنا وعلى فعله تعالى في إحراق مال من لم يعلم باحتراق ماله وبين أن يعذبنا على ذلك لو شاء عز وجل وأما قولهم فرض الله عز وجل الرضى بما قضى وبما خلق فإن كان الكفر والزنا والظلم مما خلق ففرض علينا الرضى بذلك فجوابنا إن الله عز وجل لم يلزمنا قط الرضا بما خلق وقضى بكل ما ذكر بل فرض الرضى بما قضى علينا من مصيبة في نفس أو في مال مظهر تمويههم بهذه الشبهة.
قال أبو محمد: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " فالجواب أن يقال لهم وبالله تعالى التوفيق إن هذه الآية أعظم حجة على أصحاب الأصلح وهم جمهور المعتزلة في ثلاثة أوجه وهي حجة على جميع المعتزلة في وجهين لأن في هذه الآية إن ما أصاب الإنسان من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه وهم كلهم لا يفرقون بين الأمرين بل الحسن والقبيح من أفعال المرء كل ذلك عنده من نفس المرء لا خلق لله تعالى في شيء من فعله لا حسنة ولا قبيحة فهذه الآية مبطلة لقول جميعهم في هذا الباب والوجه الثاني إنهم كلهم قائلون إنه لا يفعل المرء حسنة ولا قبيحة البتة إلا بقوة موهوبة من الله تعالى مكنة بها من فعل الخير والشر والطاعة والمعصية تمكيناً مستوياً وهي الاستطاعة على اختلافهم فيها فهم متفقون على أن الباري تعالى خالقها وواهبها كانت نفي المستطيع أو بعضها أوعرضا فيه وفي هذه الآية فرق بين الحسن والسيء كما ترى وأما الوجه الثالث الذي خالف فيه القائلون بالأصلح خاصة هذه الآية فإنهم يقولون أن الله تعالى لم يؤيد فاعل الحسنة بشيء من عنده تعالى لم يؤيد به فاعل السيئة والآية مخبرة بخلاف ذلك فصارت الآية حجة عليهم ظاهرة مبطلة لقولهم وأما قولنا نحن فيها فهو ما قاله الله عز وجل إذ يقول متصلاً بهذه الآية دون فصل: " قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ثم قال تعالى بأثر ذلك بعد كلام يسير: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح بما ذكرنا أن كل هذا الكلام متفق لا مختلف فقدم الله تعالى أن كل شيء من عنده فصح بالنص أنه تعالى خالق الخير والشر وخالق كل ما أصاب الإنسان ثم أخبر تعالى ما أصابنا من حسنة فمن عنده وهذا هو الحق لأنه لا يجب لنا تعالى عليه شيء فالحسنات الواقعة منا فضل مجرد منه لاشيء لنا فيه وإحسان منه إلينا لن نستحقه قط عليه وأخبر عز وجل أن ما أصابنا من مصيبة فمن أنفسنا بعد أن قال إن الكل من عند الله تعالى فصح أننا مستحقون بالنكال لظهور السيئة منا وإننا عاصون بذلك كما حكم علينا تعالى فحكمه الحق والعدل ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا فإذا كان الله خالقكم وخالق أفعالكم فأنتم والجمادات سواء قلنا كلا لأن الله تعالى خلق فينا علماً تعرف به أنفسنا الأشياء على ما هي عليه وخلق فينا مشيئة لكل ما خلق فينا مما يسمى فعلاً لنا فخلق فيه استحسان ما يستحسنه واستقباح ما يستقبحه وخلق تصرفاً في الصناعات والعلوم ولم يخلق في الجمادات شيئاً من ذلك فنحن مختارون قاصدون مريدون مستحسنون أو كارهون متصرفون علماً بخلاف الجمادات فإن قيل فأنتم مالكون لأموركم مفوض إليكم أعمالكم مخترعون لأفعالكم قلنا لا لأن الملك والاختراع ليس هو لأحد غير الله تعالى إذ الكل مما في العالم مخترع له وملك له عز وجل والتفويض فيه معنى من الاستغناء ولا غني بأحد عن الله عز وجل وبه نتأيد.
قال أبو محمد: فإذ قد أبطلنا بحول الله تعالى وقوته كل ما شغب به المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى فلنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول بأنها مخلوقة لله تعالى فنقول وبه عز وجل نتأيد أن العالم كله مادون الله تعالى ينقسم قسمين جوهر وعرض لا ثالث لهما ثم ينقسم الجوهر إلى أجناس وأنواع ولكل نوع منها فصل يتميز به مما سواه من الأنواع التي يجمعها وإياه جنس واحد وبالضرورة نعلم أن ما لزم كل ما تحته إذ محال أن تكون نار غير حارة أو هواء راسب بطبعهأو إنسان جهال بطبعه وما أشبه هذا ثم بالضرورة نعلم أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة والسكون والفكر والإرادة وهذه كلها كيفيات يجمعها مع اللون والطعم والمجسة والأشكال جنس الكيفية فمن المحال الممتنع أن يكون بعض ما تحت النوع الواحد والجنس الواحد مخلوقاً وبعضه غير مخلوق وهذا أمر يعلمه باطلاً من له أدنى علم بحدود العالم وانقسامه وحركتنا وسكوننا يجمع كل ذلك مع كل حركة في العالم وكل سكون في العالم نوع من الحركة ونوع من السكون ثم ينقسم كل ذلك قسمين ولا مزيد حركة اضطرارية وحركة اختيارية وسكوناً اختيارياً وسكوناً اضطرارياً وكل ذلك حركة تحد بحد الحركة وسكون يحد بحد السكون ومن المحال أن يكون بعض الحركات مخلوقاً لله تعالى وبعضها غير مخلوق وكذلك السكون أيضاً فإن لجؤوا إلى قول معمر في أن هذه الأعراض كلها فعل ما ظهرت فيه بطباع ذلك الشيء سهل أمرهم بعون الله تعالى وذلك أنهم إن أقروا أن الله تعالى خالق المطبوعات ومرتب الطبيعة على ما هي عليه فهو تعالى خالق بل ظهر منها لأنه تعالى هو رتب كونه وظهوره على ما هو عليه رتبة لا يوجد بخلافها وهذا هو الخلق بعينه ولكنهم قوم لا يعلمون كالمتكسع في الظلمات وكما قال تعالى: " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " نعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن نوع الحركات موجود قبل خلق الناس فمن المحال البين أن يخلق المرء ما قد كان نوعه موجوداً قبله وأيضاً فإن عمدتهم في الاحتجاج على القائلين بأن العالم لم يزل إنما هي مقارنة الأعراض للجواهر وظهور الحركات ملازمة للمتحرك بها فإذا كان ذلك دليلاً باهراً على حدوث الجواهر وأن الله تعالى خلقها فما المانع أن يكون ذلك دليلاً باهراً أيضاً على حدوث الأعراض وأن الله تعالى خلقها لولا ضعف عقول القدرية وقلة علمهم نعوذ بالله مما امتحنهم به ونسأله التوفيق لا إله إلا هو وأيضاً فإن الله تعالى قال: " إذاً لذهب كل إله بما خلق " فأثبت تعالى من خلق شيئاً فهو له إله فيلزمهم بالضرورة إنهم آلهة لأفعالهم التي خلقوها وهذا كفر مجرد إن طردوه وإلا لزمهم الانقطاع وترك قولهم الفاسد وأيضاً فإن من خلق شيئاً لم يعنه غيره عليه لكن انفرد بخلقه فبالضرورة يعلم أنه يصرف ما خلق كما يفعله إذا شاء ويتركه إذا شاء ويفعله حسناً إذا شاء وقبيحاً إذا شاء فإذ هم خلقوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إلى أبصارنا حتى نراها أو نلمسها أو ليزيدوا في قدرها وليخالفوها عن رتبتها فإن قالوا لا نقدر على ذلك فليعلموا انهم كاذبون في دعاويهم خلقها لأنفسهم فإن قالوا: إنما نفعلها كما قوانا الله على فعلها فليعلموا أن الله تعالى إذاً هو المقوي على فعل الخير والشر فإن به عز وجل كان الخير والشر وإذ لولا هو لم يكن خير ولا شر وبه كانا فهو كونهما وأعان عليهما وأظهرهما واخترعهما وهذا معنى خلقه تعالى لهما وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان أن الله تعالى خالق أفعال خلقه قوله تعالى حاكياً عن سحرة فرعون مصدقاً لهم مثنياً عليهم في قلوهم: " ربنا أفرغ علينا صبراً " فصح أنه خالق ما يفرغه من الصبر الذي لو لم يفرغه على الصابر لم يكن له صبر وأيضاً فإن جنس الحركات كلها والسكون كله والمعارف كلها جنس واحد وكل ما قيل عن الكل قيل على جميع أجزائه وعلى كل بعض من أبعاضه فنسألهم عن حركات الحيوان غير الناطق وسكونه ومعرفته بما يعرف من مضاره ومنافعه في أكله وشربه وغير ذلك أكل ذلك مخلوق لله تعالى أم هو غير مخلوق فإن قالوا كل ذلك مخلوق كانوا قد نقضوا هذه المقدمات التي يشهد العقل والحس بتصديقها وظهر فساد قولهم في التفريق بين معرفتنا ومعرفة سائر الحيوان وبين حركاتنا وبين حركات سائر الحيوان وبين سكوننا وسكونهم وهذه مكابرة ظاهرة ودعوة بلا برهان وإن قالوا بل كل ذلك غير مخلوق ألزمناهم مثل ذلك في سائر الأعضاء كلها فإن تناقضوا كفونا أنفسهم وإن تمادوا لزمهم أنه تعالى لم يخلق شيئاً من الأعراض وهذا إلحاد ظاهر وإبطال للخلق وكفى بهذا إضلالاً ونعوذ بالله من الخذلان ويكفي من هذا أن الأعراض تجري على صفات الفاعل ونحن نجد الحكيم لا يقدر على الطيش والبذاء وإن الطياش البذيء لا يقدر على الحياء والصبر والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحليم لا يقدر على النزق والسخي لا يقدر على المنع والشحيح لا يقدر على الجود وقال تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " فصح أن من الناس موقى شح نفسه مفلحاً وغير موقي ولا مفلح وكذلك الزكي لا يقدر على البلادة والبليد لا يقدر على الزكا والحافظ لا يقدر على النسيان والناسي لا يقدر على ثبات الحفظ والشجاع لا يقدر على الجبن والجبان لا يقدر على الشجاعة هكذا في جميع الأخلاق التي عنها تكون الأفعال فصح ان ذلك خلق لله تعالى لا يقدر المرء على إحالة شيء من ذلك أصلاً حتى أن مخرج صوت أحدنا وصفة كلامه لا يقدر البتة على صرفه كما خلق عليه من الجهارة والخفاء أو الطيب والسماحة وكذلك خطه لا يمكنه صرفه عما رتبه الله تعالى عليه ولو جهد وهكذا جميع حركات المرء حتى وقع قدميه ومشيه فلو كان هو خالق كل ذلك لصرفه كما يشاء فإذا ليس فيه قوة على صرف شيء من ذلك عن هيئته فقد ثبت ضرورة أنه خلق الله تعالى فيمن نسب في اللغة على أنه فاعله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأكثرت المعتزلة في التولد وتحيرت فيه حيرة شديدة فقالت طائفة ما يتولد عن فعل المرء مثل القتل و الألم المتولد عن رمي السهم وما أشبه ذلك فإنه فعل الله عز وجل وقال بعضهم بل هو فعل الطبيعة وقال بعضهم بل هو فعل الذي فعل الفعل الذي عنه تولد وقال بعضهم فعل لا فاعل له وقال جميع أهل الحق أنه فعل الله عز وجل وخلقه فالبرهان في ذلك هو البرهان الذي ذكرنا في خلق الأفعال من أن الله تعالى خالق كل شيء وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في التعديل والتجوير
قال أبو محمد رحمه الله: هذا الباب هو أصل ضلالة المعتزلة نعوذ بالله من ذلك على أننا رأينا منهم من لا يرضى عن قولهم فيه.
قال أبو محمد: وذلك أن جمهورهم قالوا وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان جائراً ومن فعل الظلم كان ظالماً ومن أعان فاعلاً على فعله ثم عاقبه عليه كان جائراً عابثاً قالوا والعدل من صفات الله تعالى والظلم والجور منفيان عنه قال تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وقال تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وقال تعالى: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " وقال تعالى فما كان الله ليظلمهم " وقال تعالى " لا ظلم اليوم ".
قال أبو محمد: وقد علم المسلمون أن الله تعالى عدل لا يجور ولا يظلم ومن وصفه عز وجل بالظلم والجور فهو كافر ولكن ليس هذا على ما ظنه الجهال من أن عقولهم حاكمة على الله تعالى في أن لا يحسن منه إلا ما حسنت عقولهم وأنه يقبح منه تعالى ما قبحت عقولهم وهذا هو تشبيه مجرد لله تعالى بخلقه إذ حكموا عليه بأنه تعالى يحسن منه ما حسن منا ويقبح منه ما قبح منا ويحكم عليه في العقل بما يحكم علينا.
قال أبو محمد: وهذا مذهب يلزم كل من قال لما كان الحي في الشاهد لا يكون إلا بحياة وجب أن يكون الباري تعالى حياً بحياة وليس بين القولين فرق وكلاهما لازم لمن التزم أحدهما وكلاهما ضلال وخطأ وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله عز وجل أي شيء كان فهو منه عز وجل حق وعدل وحكمة وإن كان بعض ذلك منا جوراً وسفهاً وكل ما لم يفعله الله عز وجل فهو الظلم والباطل والعبث والتفاوت وأما أجراؤهم الحكم على البارئ تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض فضلال بين وقول سبق له أصل عند الدهرية وعند المنانية وعند البراهمة وهو أن الدهرية قالت لما وجدنا الحليم فيما بينا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة ووجدنا من فعله ما لا فائدة فيه فهو عابث هذا الشيء لا يعقل غيره قالوا ولما وجدنا في العالم ضراً وشراً وعبثاً وأقذاراً ودوداً وذباباً ومفسدين انتفى بذلك أن يكون له فاعل حكيم وقالت طائفة منهم مثل هذا سواء بسواء إلا أنهم زادوا فقالوا علمنا بذلك أن للعالم فاعلاً سفيهاً غير الباري تعالى وهو النفس وأن الباري الحكيم خلاها تفعل ذلك ليريها فساد ما تخيلته فإذا استبان ذلك لها أفسده الباري الحكيم تعالى حينئذ وأبطله ولم تعد النفس إلى فعل شيء بعدها.
قال أبو محمد: وأبطال هذا القول يثبت ما يبطل به قول المعتزلة سواء بسواء ولا فرق وقالت المنانية بمثل ما قالت الدهرية سواء بسواء إلا أنها قالت ومن خلق خلقاً ثم خلق من يضل ذلك فهو ظالم عابث ومن خلق خلقاً ثم سلط بعضهم على بعض وأغرى بين طائع خلقه فهو ظالم عابث قالوا فعلمنا أن خالق الشر وفاعله هو غير خالق الخير.
قال أبو محمد: وهذا نص قول المعتزلة إلا أنها زادت قبحاً بأن قالت أن الله تعالى لم يخلق من أفعال لا خيراً ولا شراً وأن خالق الأفعال الحسنة والقبيحة هو غير الله تعالى لكن كل أحد يخلق فعل نفسه ثم زادت تناقضاً فقالت أن خالق عنصر الشر هو إبليس ومردة الشياطين وفعله كل شر وخالق طباعهم على تضادها هو الله تعالى وقالت البراهمة أن من العبث وخلاف الحكمة ومن الجور البين أن يعرض الله تعالى لما يعلم انهم يعطبون عنده ويستحقون العذاب أن وقعوا فيه يريدون بذلك إبطال الرسالة والنبوات كلها.
قال أبو محمد: وبالضرورة تعلم أنه لا فرق بين خلق الشر وبين خلق القوة التي لا يكون الشر إلا بها ولا بين ذلك وبين خلق من علم الله عز وجل أنه لا يفعل إلا الشر وبين خلق إبليس وأنظاره إلى يوم القيامة وتسليطه على إغواء العباد وإضلالهم وتقويته على ذلك وتركهم يضلهم إلا من عصم الله منهم فإن قالوا أن خلق الله تعالى إبليس وقوى الشر وفاعل الشر خير وعدل وحسن صدقوا وتركوا أصلهم الفاسد ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه تعالى للشر والخير ولجميع أفعال عباده وتعذيبه من شاء منهم ممن لم يهده وإضلاله من أضله وهداه من هدى كل ذلك حق وعدل وحسن وإن أحكامنا غير جارية عليه لكن أحكامه جارية علينا وهذا هو الحق الذي لا يخفى إلا على من أضله الله تعالى نعوذ بالله من إضلاله لنا ولا فرق بين شيء مما ذكرناه في العقل البتة وبرهان ضروري.
قال أبو محمد: يقال لمن قال لا يجوز أن يفعل الله تعالى إلا ما هو حسن في العقل منا ولا أن يخلق ويفعل ما هو قبيح في العقل في ما بينا منا يا هؤلاء إنكم أخذتم الأمر من عند أنفسكم ثم عكستموه فمعظم غلطكم وإنما الواجب إذ أنتم مقرون بأن الله تعالى لم يزل واحداً وحده ليس معه خلق أصلاً ولا شيء موجود لا جسم ولا عرض ولا جوهر ولا عقل ولا معقول ولا سفه ولا غير ذلك ثم أقررتم بلا خلاف منكم انه خلق النفوس وأحدثها بعد ان لم تكن وخلق لها العقول وركبها في النفوس بعد ان لم تكن العقول البتة أن لا تحدثوا على الباري تعالى حكماً لازماً له من قبل بعض خلقه فليس في الجنون أفحش من هذا البتة ثم أخبرونا إذا كان الله وحده لا شيء موجود معه ففي أي شيء كانت صورة الحسن حسنة وصورة القبيح قبيحة وليس هنالك عقل أصلاً يكون فيه الحسن حسناً والقبيح قبيحاً ولا كانت هنالك نفس عاقلة أو غير عاقلة فيقبح عندها القبيح ويحسن الحسن فبأي شيء قام تحسين الحسن وتقبيح القبيح وهما عرضان لا بد لهما من حامل ولا حمل أصلاً ولا محمول ولا شيء حسن ولا شيء قبيح حتى أحدث الله تعالى النفوس وركب فيها العقول المخلوقة وقبح فيها على قولكم ما قبح وحسن فيها على قولكم ما حسن فإذ لا سبيل إلى أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيء موجود أصلاً قبيح ولا حسن ولا عقل يقبح فيه شيء أو يحسن فقد وجب يقيناً ألا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيء يحدثه لقبح فيه ووجب ألا يلزمه تعالى شيء لحسنه إذ لا قبح ولا حسن البتة فيما لم يزل فبالضرورة وجب أن ما هو الآن عندنا قبيح فإنه لم يقبح بلا أول بل كان لقبحه أول لم يكن موجوداً قبله فكيف أن يكون قبيحاً قبله وكذلك القول في الحسن ولا فرق ومن المحال الممتنع جملة أن يكون ممكناً أن يفعل الباري تعالى حينئذ شيئاً ثم يمتنع منه فعله بعد ذلك لأن هذا يوجب إما تبدل طبيعة والله تعالى منزه عن ذلك وأما حدوث حكم عليه فيكون تعالى متعبداً وهذا هو الكفر السخيف نعوذ بالله منه فإن قالوا لم يزل القبيح قبيحاً في علم الله عز وجل ولم يزل الحسن حسناً في علمه تعالى قلنا لهم هبكم أن هذا كما قلتم فعليكم في هذا حكمان مبطلان لقولكم الفاسد أحدهما أنكم جعلتم الحكم في ذلك لما في المعقول لا لما سبق في علم الله عز وجل فلم تجعلوا المنع من فعل ما هو قبيح عندكم ألا لأن العقول قبحته فأخطأتم في هذا والثاني أنه تعالى أيضاً لم يزل يعلم أن الذي يموت مؤمناً فإنه لا يكفر ولم يزل تعالى يعلم أن الذي يموت كافراً لا يؤمن فلم جوزتم قدرته على إحالة ما علم من ذلك وتبديله ولم تجوزوا قدرته تعالى على إحالة ما علم حسناً إلى القبح وإحالة ما علم قبيحاً إلى الحسن ولا فرق بين الأمرين أصلاً فإذا ثبت ضرورة أنه لا قبح لعينه ولا حسن لعينه البتة وانه لا قبيح إلا ما حكم الله تعالى بأنه قبيح ولا حسن إلا ما حكم بأنه حسن ولا مزيد وأيضاً فإن دعواكم أن القبيح لم يزل قبيحاً في علم الله تعالى ما دليلكم على هذا بل لعله تعالى لم يزل عليماً بأن أمر كذا يكون حسناً برهة من الدهر ثم يقبحه فيصير قبيحاً إذا قبحه لا قبل ذلك كما فعل تعالى بجميع الملل المنسوخة وهذا أصح من قولكم لظهور براهين هذا القول وبالله التوفيق ولم يزل سبحانه وتعالى عليماً أن عقد الكفر والقول به قبيح من العبد إذاً فعلهما معتقداً لهما لأن الله قبحهما لا لأنهما حركة أو عرض في النفس وهذا هو الحق لظهور براهين هذا أيضاً لا لأن ذلك قبيح لعينه ويقال لهم أيضاً أخبرونا من حسن الحسن في العقول ومن قبح القبح في العقول فإن قالوا الله عز وجل قلنا لهم أفكان الله تعالى قادر على عكس تلك الرتبة إذ رتبها على أن يرتبها بخلاف ما رتبها عليه فيحسن فيها القبيح ويقبح فيها الحسن فإن قالوا نعم أوجبوا أنه لم يقبح شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بقبحه ولم يحسن شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بحسنه وأنه كان له تعالى أن يفعل بخلاف ما فعل وله ذلك الآن وأبداً وبطل أن يكون تعالى متعبداً لنفسه وموجباً عليه ما يكون ظالماً مذموماً إن خالفه وإن قالوا لا يوصف تعالى بالقدرة على ذلك عجزوا ربهم تعالى ولزمهم القول بمثل قول علي الأسواري من أنه تعالى لا يقدر على غير ما فعل فحكم هذا الردي الدين والعقل بأنه أقدر من ربه تعالى وأقوى لأنه عند نفسه الخسيسة يقدر على ما فعل وعلى ما لم يفعل وربه تعالى لا يقدر إلا على ما فعل ولو علم المجنون أنه جعل ربه من الجمادات المضطرة إلى ما يبدو منها ولا يمكن أن يظهر منها غير ما يظهر لسخنت عينه ولطال عويله على عظيم مصيبته نعوذ بالله من الخذلان ومن عظم ما حل بالقدرية المتنطعين بالجهل والعمى والحمد لله على توفيقه إيانا حمداً كثيراً كما هو أهله.
قال أبو محمد: ويقال لهم هبكم شنعتم في القبيح بأنه قبيح فلم نفيتم عن الله عز وجل خلق الخير كله وخلق الحسن كله فقلتم لم يخلق الله تعالى الإيمان ولا الإسلام ولا الصلاة ولا الزكاة ولا النية الحسنة ولا اعتقاد الخير ولا إيتاء الزكاة ولا الصدقة ولا البر لأن خلق هذا قبيح أم كيف الأمر فبأن تمويهكم بذكر خلق الشر وأنتم قد استوى عندكم الخير والشر في أن الله تعالى لم قال أبو محمد: وقرأت في مسائل لأبي هشام عبد السلام ابن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي رئيس المعتزلة وابن رئيسهم كلاماً له يردد فيه كثيراً دون حياء ولا رقبة يجب على الله أن يفعل كذا كأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس فليت شعري أما كان له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول ليت شعري من أوجب على الله تعالى هذا الذي قضى بوجوبه عليه ولا بد لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة وإلا كان يكون فعلاً لا فاعل له وهذا أكفر مما أجازه فمن هذا الموجب على الله تعالى حكماً ما وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أوجبه الله عليه بعض خلقه أما العقل وأما العاقل فإن كان هذا فقد رفع القلم عنه وأف لكل عقل يقوم فيه أنه حاكم على خالقه ومحدثه بعد أن لم يكن ومرتبه على ما هو عليه ومصرفه على ما يشاء وإما أن يكون تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب له على نفسه فإن قال بهذا قيل له فقد كان غير واجب عليه حتى أوجبه فإذ هو كذلك فقد كان مباحاً له أن يعذب من لم يقدره على ترك ما عذبه عليه وعلى خلاف سائر ما ذكرت أنه أوجبه على نفسه وإذا أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن واجباً عليه فممكن له أن يسقط ذلك الوجوب عن نفسه وإما أن يكون تعالى لم يزل موجباً ذلك على نفسه فإن قال بهذا لزمته عظيمتان مخرجتان له عن الإسلام وعن جميع الشرائع وهما أن الباري تعالى لم يزل فاعلاً ولم يزل فعله معه لأن الإيجاب فعل ومن لم يزل موجباً فلم يزل فاعلاً وهذا قول أهل الدهر نفسه.
قال أبو محمد: ولا بمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون من أنه يجب على الله أن يفعل كذا ويلزمه ان يفعل كذا فأعجبوا لهذا الكفر المحض وبهذا يلوح بطلان ما يتأولونه في قول الله تعالى: " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين " وقوله تعالى: " كتب على نفسه الرحمة " وقوله علي السلام حق العباد على الله أن لا يعذبهم يعني إذا قالوا لا إله إلا الله وحق على الله أن يسقيه من طينة الخبال يعني عن شارب الخمر وإن كل هذا إنما هو أن الله تعالى قضى بذلك وجعله حتماً واجباً وكونه حقاً فوجب ذلك منه تعالى لا عليه فأبدلت من منَ على وحروف الجر يبدل بعضها من بعض ثم نقول لهم من خلق إبليس ومردة الشياطين والخمر والخنازير والحجارة المعقودة والميسر والأصنام والأزلام وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب فمن قولهم وقول كل مسلم أن الله تعالى خالق هذا كله فلنسألهم أشيء حسن هو كل ذلك أم رجس وقبيح وشر فإن قالوا بل رجس وقبيح ونجس وشر وفسق صدقوا وأقروا أنه تعالى خلق الأنجاس والرجس والشر والفسق وما ليس حسناً فإن قالوا بل هي حسان في إضافة خلقها إلى الله تعالى وهي رجس ونجس وشر وفسق تسمية الله تعالى لها بذلك قلنا صدقتم وهكذا نقول أن الكفر والمعاصي هي في أنها أعراض وحركات خلق لله تعالى حسن من خلق الله تعالى كل ذلك وهي من العصاة بإضافتها إليهم قبائح ورجس وقال عز وجل: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " وقال تعالى: " أو لحم خنزير فإنه رجس " فليخبرونا بأي ذنب كان من هذه الأشياء وجب أن يسخطها الله تعالى وأن يرجسها ويجعل غيرها طيبات هل هاهنا إلا أنه تعالى فعل ما يشاء وأي فرق بين أن يسخط ما شاء فيلعنه مما لا يعقل ويرضى عما شاء من ذلك فيعلي قدره ويأمر بتعظيمه كناقة صالح والبيت الحرام وبين أن يفعل ذلك أيضاً فيمن يعقل فيقرب بعضاً كما شاء ويبعد بعضاً كما شاء وهذا ما لا سبيل إلى وجود الفرق فيه أبداً ثم نسألهم هل حابى الله تعالى من خلقه في أرض الإسلام بحيث لا يلفي إلا داعياً إلى الدين محسناً له على من خلقه في أرض الزنج والصين والروم بحيث لا يسمع إلا ذاماً لدين المسلمين مبطلاً له وصاداً عنه وهل رأوا فظ وسمعوا بمن خرج من هذه البلاد طالباً لصحة البرهان على الدين فمن أنكر هذا كابر العيان والحس ومن أذعن لها ترك قول المعتزلة الفاسد.
قال أبو محمد: والقول الصحيح هو أن العقل الصحيح يعرف بصحته ضرورة أن الله تعالى حاكم على كل ما دونه وأنه تعالى غير محكوم عليه وأن كل ما سواه تعالى فمخلوق له عز وجل كان جوهراً حاملاً أو عرضاً محمولاً لا خالق سواه وأنه يعذب من يشاء أن يعذبه ويرحم من يشاء أن يرحمه وأنه لا يلزم أحداً إلا ما ألزمه الله عز وجل ولا قبيح إلا ما قبح الله ولا حسن إلا ما حسن الله وأنه لا يلزم لأحد على الله تعالى حق ولا حجة ولله تعالى على كل من دونه وما دونه الحق الواجب والحجة البالغة لو عذب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار مخلدين لكان ذلك له ولكان عدلاً وحقاً منه ولو نعم إبليس والكفار في الجنة مخلدين كان ذلك له وكان حقاً وعدلاً منه وإن كل ذلك إذ أباه الله تعالى وأخبر أنه لا يفعله صار باطلاً وجوراً وظلماً وأنه لا يهتدي أحد إلا من هداه الله عز وجل ولا يضل أحد إلا أضله الله عز وجل ولا يكون في العالم إلا ما أراده الله عز وجل كونه من خير أو شر وغير ذلك وما لم يرد عز وجل كونه فلا يكون البتة وبالله تعالى التوفيق ونحن نجد الحيوان لا يسمى عدوان بعضها على بعض قبيحاً ولا ظلماً ولا يلام على ذلك ولا يلام على من ربى شيئاً منها على العدوان عليها فلو كان هذا النوع قبيحاً لعينه وظلماً لعينه لقبح متى وجد فلما لم يكن كذلك صح أنه لا يقبح شيء لعينه البتة لكن إذا قبحه الله عز وجل فقط فإذا قد بطل قولهم بالبرهان الكلي الجامع لأصلهم الفاسد فلنقل بحول الله تعالى وقوته في إبطال أجزاء مسائلهم وبالله تعالى نستعين فأول ذلك أن نسألهم فنقول عرفونا ما هذا القبيح في العقل أعلى الإطلاق فقال قائلون من زعمائهم منهم الحارث بن علي الوراق البغدادي وعبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي وغيرهما أن كل شيء حسن بوجه ما قلت يمتنع وقوع مثله من الله تعالى لأنه حينئذ يكون حسناً إذ ليس قبيحاً البتة على كل حال وأما ما كان قبيحاً على كل حال فلا يحسن البتة فهذا منفي عن الله عز وجل أبداً قالوا ومن القبيح على كل حال أن تفعل بغيرك وما لا تريد أن يفعل بك وتكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه.
قال أبو محمد: وظن هؤلاء المبطلون إذ أتوا بهذه الحماقة أنهم أغربوا وقرطسوا وهم بالحقيقة وقد هذوا وهدروا وهذا عين الخطاء وإنما قبح بعض هذا النوع إذ قبحه الله عز وجل وحسن بعضه إذ حسنه الله عز وجل والعجب من مباهتتهم في دعواهم ان المحاباة ظلم ولا ندري في أي شريعة أم في أي عقل وجدوا أن المحاباة ظلم وأن الله تعالى قد أباحها إلا حيث شاء وذلك أن للرجل أن ينكح امرأتين وثلاثاً وأربعاً من الزوجات وذلك له مباح حسن وأن يطأ من إمائه أي عدد أحب وذلك له مباح حسن ولا يحل للمرأة أن تنكح غير واحد ولا يكون عبدها وهذا منه حسن وبالضرورة ندري أن في قلوبهن من الغيرة كما في قلوبنا وهذا محظور في شريعة غيرنا والنفار منه موجود في بعض الحيوان بالطبع والحر المسلم ملكه أن يستعبد أخاه المسلم ولعله عند الله تعالى خير من سيده في دينه وفي أخلاقه وقنوته ويبيعه ويهبه ويستخدمه ولا يجوز ان يستعبده هو أحد لا عبده ذلك ولا غيره وهذا منه حسن وقد أحب رسول الله ﷺ لنفسه المقدسة ما أكرمه الله تعالى به من أن لا ينكح أحد من بعده من نسائه أمهاتنا رضوان الله عليهن وأحب هو عليه السلام نكاح من نكح من النساء بعد أزواجهن وكل ذلك حسن جميل الصواب ولو أحب ذلك غيره كان مخطي الإرادة قبيحاً ظالماً ومثل هذا أن تتبع كثير جداً إذ هو فاش في العالم وفي أكثر الشريعة فبطل هذا القول الفاسد منهم وقد نص الله تعالى على إباحة ما ليس عدلاً عند المعتزلة بل على الإطلاق وعلى المحاباة حيث شاء وكل ذلك عدل منه قال عز وجل: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل " وقال تعالى: " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " فأباح تعالى لنا أن لا نعدل بين ما ملكت أيماننا وأباح لنا محاباة من شئنا منهن فصح أن لا عدل إلا ما سماه الله عدلاً فقط وإن كل شيء فعله الله فهو العدل فقط لا عدل سوى ذلك وكذلك وجدنا الله تعالى قد أعطى الابن الذكر من الميراث حظين وإن كان غنياً مكتسباً وأعطى البنت حظاً واحداً وإن كانت صغيرة فقيرة فبطل قول المعتزلة وصح أن الله تعالى يحابي من يشاء ويمنع من يشاء وإن هذا هو العدل لا ما تظنه المعتزلة عدلاً بجهلها وضعف عقولها وأما تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه فإنما قبح ذلك فيما بيننا لأن الله تعالى حرم ذلك علينا فقط وقد علمت المعتزلة كثرة عدد من يخالفهم في أن هذا لا يقبح من الله تعالى الذي لا أمر فوقه ولا يلزمه حكم عقولنا وما دعواهم على مخالفيهم في هذه المسألة أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إلا كدعوى المجسم عليهم أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إذ أجازوا وجود الفعل ممن ليس جسماً وإذ أجازوا حياً بلا حياة وعالماً لا بعلم.
قال أبو محمد: وكلتا الدعويين على العقول كاذبة وقد بينا في ما سلف من كتابنا هذا غلط من ادعى في العقل ما ليس فيه وبينا أن العقل لا يحكم به على الله الذي خلق العقل ورتبه على ما هو به ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق وقال بعض المعتزلة أن من القبيح بكل حال والمحظور في العقل بكل وجه كفر نعمة المنعم وعقوق الأب.
قال أبو محمد: وهذا غاية الخطأ لأن العاقل المميز بالأمور إذا تدبرها علم يقيناً أنه لا منعم على أحد إلا الله وحده لا شريك له الذي أوجده من عدم ثم جعل له الحواس والتمييز وسخر له ما في الأرض و كثيراً مما في السماء وخوله المال وإن كل منعم دون الله عز وجل فإن كان منعماً بمال فإنما أعطى من مال الله عز وجل فالنعمة لله عز وجل دونه وإن كان ممرضاً أو معتقاً أو خائفاً من مكروه فإنما صرف في ذلك كلما وهبه الله عز وجل من الكلام والقوة والحواس والأعضاء وإنما تصرف بكل ذلك في ملك الله عز وجل وفيما هو تعالى أولى به منه فالنعمة لله عز وجل دونه فالله تعالى هو ولي كل نعمة فإذ لا شك في ذلك فلا منعم إلا من سماه الله تعالى منعماً ولا يجب شكر منعم إلا بعد أن يوجب لله تعالى شكره فحينئذ يجب وإلا فلا ويكون حينئذ من لم يشكره عاصياً فاسقاً أتى كبيرة لخلاف أمر الله تعالى بذلك فقط ولا فرق بين تولدنا من مني أبوينا وبين تولدنا من التراب الأرضي ولا خلاف في أنه لا يلزمنا بر التراب ولا له علينا حق ليس ذلك إلا لأن الله تعالى لم يجعل له علينا حقاً وقد يرضع الصغير شاة فلا يجب لها عليه حق لأن الله تعالى لم يجعله لها وجعله للأبوين وإن كانا كافرين مجنونين ولم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عنا بلذاتهما ليس هاهنا إلا أمر الله تعالى فقط وبرهان آخر أن امرأ لو زنى بامرأة عالماً بتحريم ذلك أو غير عالم إلا أنه ممل لا يلحق به الولد المخلوق من نطفته النزلة من ذلك الوطء فإن بره لا يلزم ذلك الولد أصلاً ويلزمه بر أمه لان الله تعالى أمره بذلك لها ولم يأمره بذلك في الذي تولد من نطفته فقط ولا فرق في العقل بين الرجل والمرأة في ذلك ولا فرق في المعقول وفي الولادة تولد الجنين من نطفة الواطئ لأمه بين أولاد الزنا وأولاد الرشدة لكن لما ألزم الله تعالى أولاد الرشدة المتولدين عن عقد نكاح أو ملك يمين فاسدين أو صحيحين بر آمائهم وشكرهم وجعل عقوقهم من الكبائر لزمنا ذلك ولما لم يلزم ذلك أولاد الزنية لم يلزمهم وقد علمنا نحن وهم يقيناً أن رجلين مسلمين لو خرجا في سفر فأغار أحدهما على قرية من قرى دار الحرب فقتل كل رجل بالغ فيها وأخذ جميع أموالهم وسبى ذراريهم ثم خمسن ذلك بحكم الإمام العدل ووقع في حظه أطفال قد تولى هو قتل آبائهم وسبى أمهاتهم ووقعن أيضاً بالقسمة الصحيحة في حصته فنكحهن وصرف أولادهن في كنس حشوشه وخدمة دوابه وحرثه وحصاده ولم يكلفهم من ذلك إلا ما يطيقون وكساهم وأنفق عليهم بالمعروف كما أمر الله تعالى فإن حقه واجب عليهم بلا خلاف ولو أعتقهم فإنه منعماً عليهم وشكره فرض عليهم وكذلك لو فعل ذلك بمن اشتراه هو مسلم بعد وأغار الثاني على قرية للمسلمين فأخذ صبياناً من صبيانهم فاسترقهم فقط ولم يقتل أحداً ولا سبى لهم حرمة فربى الصبيان أحسن تربية وكانوا في قرية شقاء وجهد وتعب وشظف عيش وسوء حال فرفه معايشهم وعلمهم العلم والإسلام وخولهم المال ثم أعتقهم فلا خلاف في أنه لا حق له عليهم وإن دمه وعداوته فرض عليهم وإنه لو وطئ امرأة منهن وهو محصن وكان أحدهم قد ولي حكماً للزمه شدخ رأسه بالحجارة حتى يموت أفلا يتبين لكل ذي عقل من أهل الإسلام إنه لا محسن ولا منعم إلا الله تعالى وحده لا شريك له إلا من سماه الله تعالى محسناً أو منعماً ولا شكر لازماً لأحد على أحد إلا من ألزمه الله تعالى شكره ولا حق لأحد على أحد إلا من جعل الله تعالى له حقاً فيجب كل ذلك إذ أوجبه الله تعالى وإلا فلا وقد أجمعوا معنا على أن من أفاض إحسان الدنيا على إنسان أفاضه بوجه حرمه الله تعالى فإنه لا يلزمه شكره و إن من أحسن إلى آخر غاية الإحسان فشكره بأن أعناه في دنياه بما لا يجوز في الدين فإنه مسيء إليه ظالم فصح يقيناً أنه لا يجب شيء ولا يحسن شيء ولا يقبح شيء إلا ما أوجبه الله تعالى في الدين أو حسنه الله تعالى في الدين أو قبحه الله في الدين فقط وبالله تعالى نتأيد وقال بعضهم الكذب قبيح على كل حال.
قال أبو محمد: وهذا كالأول وقد أجمعوا معنا على بطلان هذا القول وعلى تحسين الكذب في مواضع خمسة إذ حسنه الله تعالى وذلك نحو إنسان مسلم مستتر من أمام ظالم يظلمه ويطلبه فسأل ذلك الظالم هذا الذي استتر عنده المطلوب وسأل أيضاً كل من عنده خبره وعن ماله فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه أن صدقه ودله على موضعه وعلى ماله فإنه عاص لله عز وجل فاسق ظالم فاعل فعلاً قبيحاً وإنه لو كذبه وقال له لا أدري وكان مكانه ولا مكان ماله فإنه مأجور محسن فاعل فعلاً حسناً وكذلك كذب الرجل لامرأته فيما يستجر به مودتها وحسن صحبتها والكذب في حرب المشركين فيما يوجد به السبيل إلى إهلاكهم وتخليص المسلمين منهم فصح أنه قبح الكذب حيث قبحه الله عز وجل ولولا ذلك ما كان قبيحاً بالعقل أصلاً إذ ما وجب بضرورة العقل فمحال أن يستحيل في هذا العالم البتة عما رتبه الله عز وجل في وجود العقل إياه كذلك فصح كذبهم على العقول وقال بعضهم الظلم قبيح.
قال أبو محمد: وهذا كالأول ونسألهم ما معنى الظلم فلا يجدون إلا أن يقولوا أنه قتل الناس وأخذ أموالهم وآذاهم وقتل المرء نفسه أو التشويه بها أو إباحة حرمه للناس ينكحونهن وكل هذا فليس شيء منه قبيحاً لعينه وقد أباح الله عز وجل أخذ أموال قوم بخراسان من أجل ابن عمهم قتل بالأندلس رجلاً خطأ لم يرد قتله لكن رمى صيداً مباحاً له أو رمى كافراً في الحرب فصادف المسلم السهم وهو خارج من خلف جبل فمات ووجدناه تعالى قد أباح دم من زنى وهو محصن ولم يطئ امرأة قط إلا زوجة له عجوزاً شعرها سوداء وطئها مرة ثم ماتت ولا يجد من أن ينكح ولا من أن يتسرى وهو شاب محتاج إلى النساء وحرم دم شيخ زنى وله ماية جارية كالنجوم حسناً إلا أنه لم يكن له قط زوجة وأما قتل المرء نفسه فقد حسن الله تعالى تعريض المرء نفسه للقتل في سبيل الله عز وجل وصدمة الجموع التي يوقن أنه مقتول في فعله ذلك وقد أمر عز وجل من قبلنا بقتل نفسه قال تعالى: " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم " ولو أمرنا عز وجل بمثل ذلك لكان حسناً كما كان حسناً أمره عز وجل بذلك بني إسرائيل وأما التشويه بالنفس فإن الختان والإحرام والركوع والسجود لولا أمر الله تعالى بذلك وتحسينه إياه لكان لا معنى له ولكان على أصولهم تشويهاً ودليل ذلك أن امرأ من الناس لو قام ثم وضع رأسه في الأرض في غير صلاة بحضرة الناس لكان عابثاً بلا شك مقطوعاً عليه بالهوس وكذلك لو تجرد المرء من ثيابه أمام الجموع في غير حج ولا عمرة وكشف رأسه ورمى بالحصى وطاف ببيت مهرولاً مستديراً به لكان مجنوناً بلا شك لاسيما أن امتنع من قتل قملة ومن فلا رأسه ومن قص أظافره وشاربه لكن لما أمر الله عز وجل بما أمر به من ذلك كان فرضاً واجباً وحسناً وكان تركه قبيحاً وأنكره كفراً وأما أباح المرء حرمه للنكاح فهذا أعجب ما أتوا به أما علموا أن الله تعالى خلى بين عبده وإمائه يفجر بعضه ببعض وهو قادر على منعهم من ذلك فلم يفعل بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم على ذلك بإقرار المعتزلة فهذا من الله حسن ومن عباده قبيح لأن الله قبحه ولا مزيد ولو حسنه تعالى لحسن أما شاهدوا إنكاح الرجال بناتهم من رجال ثم يطلق الرجل منهم المرأة فمن آخر ثم آخر وهكذا ما أمكنهم وكذلك إن مات عنها فأي فرق في المعقول بين إباحة وطئها بلفظ زوجتك وأو أنكحتك وبين حظر وطئها بألا طلاق عليه بلفظة قم فطاها فهل هاهنا قبيح إلا ما قبحه الله عز وجل أو حسن إلا ما حسن الله عز وجل وقال بعضهم الكفر قبيح على كل حال.
قال أبو محمد: وهذا كالأول وما قبح الكفر إلا لأن الله قبحه ونهى عنه ولولا ذلك ما قبح وقد أباح الله عز وجل كلمة الكفر عند التقية وأباح بها الدم في غير التقية ولو أن أمرؤ اعتقد أن الخمر حرام قبل أن ينزل تحريمها لكان كافراً ولكان ذلك منه كفراً إن كان عالماً بإباحة الرسول صلى الله عليه ويلم ثم صار ذلك الكفر إيمان وصار الآن من اعتقد تحليلها كافراً وصار اعتقاد تحليلها كفراً فصح أن لا كفر إلا ما سماه الله تعالى كفراً ولا إيماناً إلا ما سماه إيماناً وأن الكفر لا يقبح إلا بعد أن قبحه الله عز وجل ولا يحسن الإيمان إلا بعد أن حسنه الله عز وجل فبطل كل ما قالوه في الجور والكفر والظلم وصح أنه لا ظالم إلا ما نهى الله عنه ولا جور إلا ما كان كذلك ولا عدل إلا ما أمر الله تعالى به أو إباحة أي شيء كان وبالله تعالى التوفيق فإذ هذا كما ذكرنا فقد صح أنه لا ظلم في شيء من فعل الباري تعالى ولو أنه تعالى عذب من لم يقدره على ما أمر به من طاعته لما كان ذلك ظلماً إذ لم يسميه تعالى ظلماً وكذلك ليس ظلماٍ خلقه تعالى للأفعال التي هي من عباده عز وجل وكفر وظلم وجور لأنه لا آمر عليه تعالى ولا ناهياً بل الأمر أمره والملك ملكه وقالوا تكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه قبيح في العقول جملة لا يحسن بوجه من الوجوه فيما بيننا فلا يحسن من الباري تعالى أصلاً.
قال أبو محمد: نسي هؤلاء القوم مالا يجب أن ينسى ويقال لهم أليس قول القائل فيما بيننا اعبدوني اسجدوا لي قبحاً لا يحسن بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال فلا بد من نعم فيقال لهم أوليس هذا القول من الله تعالى حسناً وحقاً فلا بد من نعم فإن قالوا إنما قبح ذلك منا لأننا لا نستحقه قيل لهم وكذلك إنما قبح منا تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه لأننا لا نستحق هذه الصفة وأي شيء أتوا به من الفرق فهو راجع عليهم في تكليف ما لا يطاق ولا فرق وكذلك الممتن بإحسانه الجبار المتكبر ذو الكبرياء قبيح في ما بيننا على كل حال هو من الله تعالى حسن وحق وقد سمى نفسه الجبار المتكبر وأخبر أن له كبرياء وهو تعالى يمن بإحسانه فإن قالوا حسن ذلك منه لأن كل خلقه قيل لهم وكذلك حسن منه تكليف ما لا يستطيع ثم تعذيبه لأن كل خلقه وكذلك في ما بينا من عذب حيواناً بالنتف والضرب ثم أحسن علفه ورفهه فهو قبيح على كل وجه وفاعله عابث وهم يقولون أن الباري تعالى أباح ذلك الحيوان من أكلها وذبحها ثم يعوضها على ذلك وهذا منه عز وجل حسن ألا أن يلجؤا إلى أنه تعالى لا يقدر على تعويض الحيوان إلا بعد إيلامها وتعذيبها فهذا أقبح قول وأبينه كذباً وأوضحه نخبة وأتمه كفراً وأذمه للباري تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا إن إيلام الحيوان قد يحسن فيما بيننا مثل أن يسقي الإنسان من يحب ماء الأدوية الكريهة ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إلى منافع لولا هذا المكروه لم يكن ليصل إليها.
قال أبو محمد: وهذا تمويه لم ينفكوا به مما سألهم عنه أصحابنا في هذه المسألة ونحن لم نسألهم عمن لا يقدر على نفعه إلا بعد الأذى الذي هو أقل من النفع الذي يصل إليه بعد ذلك الأذى وإنما سألناهم عمن يقدر على نفعه دون أن يبتديه بالأذى ثم لا ينفعه إلا حتى يؤذيه.
قال أبو محمد: وكذلك تكليف من يدري المرء أنه لا يطيقه وأنه إذا لم يطقه عذبه قبيح فيما بيننا فقال قائل منهم إن هذا قد يحسن فيما بيننا وذلك أن يكون المرء يريد أن يقرر عند صديقه معصية عبده له فيأمره وهو يدري انه لا يطيعه فإن نهيه له حسن.
قال أبو محمد: وهذا كالأول ولا فرق ولم نسألهم عمن لم يقدر على تعريف صديقه معصية غلامه له إلا بتكليفه أمامه مالا يطيعه فيه ولا عمن لا يقدر على منع العاصي له بأكثر من النهي وإنما نسألهم عمن لا منفعة له في أن يعلم زيد معصية غلامه له وعمن يقدر على أن يعرف زيداً بذلك ويقرره عنده بغير أن يأمر من لا يطيعه وعمن يقدر على منعه من المعصية فلا يفعل ذلك إلا أن يعجزوا ربهم كما ذكرنا فهذا مع أنه كفر فهو أيضاً كذب ظاهر لأنه تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم لوردوا لعادوا لما نهوا عنه فتقرر هذا عندنا تقرراً لو رأينا ذلك عياناً ما زادنا علماً بصحته وكذلك ما شاهدنا قوماً آخرين أرادوا ضروباً من المعاصي فحال الله تعالى بينهم وبينها بضروب من ألحوايل وأطلق آخرين ولم يحل بينهم وبينها بل قوي الدواعي لها ورفع الموانع عنها جملة حتى ارتكبوها فلاح كذب المعتزلة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تعالى وشدة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وقوة جهلهم وتناقضهم نعوذ بالله من الخذلان ثم بعد هذا كله فأي منفعة لنا في تعريفنا أن فرعون يعصي ولا يؤمن وما الذي ضر الأطفال إذا ماتوا قبل أن يعرفوا من أطاع ومن عصى ونسألهم عمن أعطى آخر سيوفاً وخناجر وعتلاً للنقب وكل ذلك يصلح للجهاد ولقطع الطريق والتلصص وهو يدري أنه لا يستعمل شيئاً من ذلك في الجهاد إلا في قطع الطريق والتلصص وعمن مكن آخر من خمر وامرأة عاهرة وبغاء وأخلى له منزلاً مع كل ذلك أليس عابثاً ظالماً بلا خلاف فلا بد من نعم ونحن وهم نعلم أن الله عز وجل وهب لجميع الناس القوة التي بها عصوا وهو يدري أنهم يعصونه بها وخلق الخمر وبثها بين أيديهم ولم يحل بينهم وبينها وليس ظالماً ولا عابثاً فإن عجزوه تعالى عن المنع من ذلك بلغوا الغاية من الكفر فإن من عجز نفسه منا عن منع الخمر من شاربها وهو يقدر على ذلك لفي غاية الضعف والمهانة أو مريداً لكون ذلك كما شاء لا معقب لحكمه وهذا قولنا لا قولهم.
قال أبو محمد: فانقطعوا عند هذه ولم يكن لهم جواب إلا أن بعضهم قال إنما قبح ذلك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عن التعويض ولأن ذلك محظور وهذا محظور علينا ولو أن امرءاً له منا عبيد وقد صح عنده بأخبار النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لا يؤمنون أبداً فإن كسوتهم وإطعامهم مباح له.
قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لهم وإقراراً منهم بأنه إنما قبح ذلك منا لنه محرم علينا وكذلك كسوة العبيد الذين يوقن أنهم لا يؤمنون وإنما حسن ذلك لأننا مأمورون بالإحسان إلى العبيد وإن كانوا كفاراً ولو فعلنا بأهل دار الحرب لكنا عصاة لأننا نهينا عن ذلك ليس ها هنا شيء يقبح ولا يحسن إلا ما أمر الله تعالى فقط وأما قولهم أن ذلك قبح منا لجهلنا بالمصالح فليقنعوا بهذا فمن أجابهم بهذا بعينه في الفرق بين حسن تكليف الله تعالى ما لا يطاق وتعذيبه عليه منه وقبح ذلك منا وإنه إنما قبح منا لجهلنا بالمصالح.
قال أبو محمد: وأما نحن فكلا الجوابين عندنا فاسد ولا مصلحة فيما أدى إلى النار والخلود فيها بلا نهاية ولكنا نقول قبح منا ما نهانا الله عنه وحسن منا ما أمرنا به وكل ما فعله ربنا تعالى الذي لا آمر فوقه فهو عدل وحسن وبالله تعالى التوفيق.
وسألهم أصحابنا فقالوا إن المعهود بيننا أن الحكيم لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ومن فعل لغير ذلك فهو سفيه والباري تعالى يفعل لغير اجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة وهو حكيم.
فقالت طائفة من المعتزلة أن الباري تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم وقالت طائفة منهم لم يكن الحكيم في ما بيننا حكيماً لأنه يفعل لاجتلاب المنافع ودفع المضار لأنه قد يفعل ذلك كل ملتذ وكل متشف وإن لم يكن حكيما وإنما سمي الحكيم حكيما لإحكامه عمله.
قال أبو محمد: وكل هذا ليس بشيء لأن من الحيوان ما يحكم عمله مثل الخطاف والعنكبوت والنحل ودود القز ولا يسمى شيء من ذلك حكيما ولكن إنما سمي الحكيم حكيما على الحقيقة لالتزامه الفضائل واجتنابه الرذائل فهذا هو العقل والحكمة المسمى فاعله حكيماً عاقلاً وهكذا هو في الشريعة لأن جميع الفضائل إنما هي طاعات الله عز وجل والرذائل إنما هي معاصيه فلا حكيم إلا من أطاع الله عز وجل واجتنب معاصيه وعمل ما أمره ربه عز وجل وليس من أجل هذا يسمى الباري حكيماً إنما سمي حكيماً لأنه سمى نفسه حكيماً فقط ولو لم يسمي نفسه حكيماً ما سميناه حكيماً كما لم نسمه عاقلاً إذ لم يسم بذلك ثم نقول لهم وأما قولكم إنما سمي الله حكيماً لفعله الحكمة فأنتم مقرون أنه أعطى الكفار قوة الكفر ولا يسمى مع ذلك مقوياً على الكفر وأما من قال منهم أنه تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم فكلام فاسد إذا قيل على عمومه لأن كل مستضر يفعله في دنياه وأخراه لم يصرف الله تعالى عنه تلك المضرة وقد كان قادراً على صرفها عنه إلا أن يعجزوه عن ذلك فيكفروا وسألهم أصحابنا فقالوا إذا كان الله عز وجل لا يفعل إلا ما هو عدل بيننا فلم خلق من يدري أنه يكفر به وأنه سيخلده بين أطباق النيران أبداً فأجابوا عن هذا بأجوبة فمن أظرفها أن كثيراً منهم قالوا لو لم يخلق من يكفر به ويخلده في نار جهنم لما استحق العذاب أحد ولا دخل النار أحد.
قال أبو محمد: وتكفي من الدلالة على ضعف عقل هذا الجاهل هذا الجواب ونقول له ذلك ما كنا نبغي وهل الخير كله على ما بيننا إلا أن لا يعذب أحد بالنار وهل الحكمة المعهودة بيننا والعدل الذي لا عدل عندنا سواه إلا نجاة الناس كلهم من الأذى واجتماعهم في النعيم الدائم ولكن المعتزلة قوم لا يعقلون وأجاب بعضهم في هذا بأن قال لو كان هذا لسلم الجميع من اللوم ولكان لا شيء أوضع ولا أخس من العقل لأن الذي لا عقل له سالم من العذاب واللوم والأمم كلها مجمعة على فضل العقل.
قال أبو محمد: لو عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذا السخف لأن العقل على الحقيقة إنما هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي وما عدا هذا فليس عقلاً بل هو سخف وحمق قال الله عز وجل حكاية عن الكفار أنهم قالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " ثم صدقهم الله عز وجل في هذا فقال: " فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير " فصدق الله من عصاه أنه لا يعقل ثم نقول لهم نعم لا منزلة أخس ولا أوضع ولا أسقط من منزلة وموهبة أدت إلى الخلود في النيران عقلاً كانت أو غير عقل على قولكم في العقل لو كان كون الإنسان حشرة أو دودة أو كلباً كان أحظى له وأسلم وأفضل عاجلاً وآجلاً وأحب إلى كل ذي عقل صحيح وتمييز غير مدخول وإذا كان عند هؤلاء القوم العقل الموهوب وبالاً على صاحبه وسبباً إلى تكليفه أموراً لم يأت بها فاستحق النار فلا شك عند كل ذي حس سليم في أن عدمه خير من وجوده فإن قالوا أن التكليف لم يوجب عليه دخول النار قلنا نعم ولكنه كان سبباً إلى ذلك ولولا التكليف لم يدخل النار أصلاً وقد شهد الله عز وجل بصحة هذا القول شهادة لا تخفى على مسلم وهي قوله تعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا: " فحمد الله تعالى إباءة الجمادات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع وذم عز وجل اختيار الإنسان لتحملها وسمي ذلك منه ظلماً وجهلاً وجوراً وهذا معروف في بنية العقل والتمييز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير المؤدي إلى الهلاك أو إلى الغنم وقال بعضهم خلق الله عز وجل من يكفر ومن يعلم أنه يخلده في النار ليعظ بذلك الملائكة وحور العين.
قال أبو محمد: وهذا خبط لا عهد لنا بمثله وهذا غاية السخف والعبث والظلم فأما العبث فإن في العقول منا أن من عذب واحداً ليعظ به الآخر فغاية العبث والسخف وأما الجور فأي جور أعظم فيما بيننا من أن يخلق قوماً قد علم أنه يعذبهم ليعظ بهم آخرين من خلقه مخلدين في النعيم فهلا عذب الملائكة وحور العين ليعظ بهم الجن والإنس وهل هذا على أصولهم إلا غاية المحاباة والظلم والعبث تعالى الله عن ذلك يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وسألهم أصحابنا عن إيلام الله عز وجل الصغار والحيوان وإباحته تعالى ذبحها فوجموا عند هذه وقال بعضهم لأن الله تعالى يعوضهم على ذلك.
قال أبو محمد: وهذا غاية العبث فيما بيننا ولا شيء أتم في العبث والظلم ممن يعذب صغيراً ليحسن بعد ذلك إليه فقالوا أن تعويضه بعد العذاب بالجدري و الأمراض أتم ألذ من تنعيمه دون تعذيب.
قال أبو محمد: وفي هذا عليهم جوابان أحدهما أن يقول لهم أكان الله تعالى قادراً على أن يوفي الأطفال والحيوان ذلك النعيم دون إيلام أو كان غير قادر على ذلك فإن قالوا كان غير قادر جمعوا مع الكفر الجنون لان ضرورة العقل يعلم بها انه إذا قدر على أن يعطيهم مقداراً ما من النعيم بعد الإيلام فلا شك في أنه قادر على ذلك المقدار نفسه دون إيلام يتقدمه ليس في العقل غير هذا أصلاً إذ ليس ها هنا منزلة زائدة في القدرة ولا فعلان مختلفان وإنما هو عطاء واحد لشيء واحد في كلا الوجهين وإن قالوا أنه قادر على ذلك فقد وجب العبث على أصولهم إذ كان قادراً على أن يعطيهم دون إيلام ما لم يعطهم إلا بعد غاية الإيلام والجواب الثاني أن نريهم صبياناً وحيواناً أماتهم في خير دون إيلام وهذه محاباة وظلم للمؤلم منهم فقالوا إن المؤلم لم يزداد في نعيمه لأجل إيلامه فقلنا لهم فهذه محاباة بزيادة النعيم للمؤلم فهلا ألم الجميع ليستوي بينهم في النعيم أو هلا تستوي بينهم في النعيم بأن لا يؤلم منهم أحداً وهذا ما لا انفكاك منه البتة وقال بعضهم فعل ذلك ليعظ بهم غيرهم.
قال أبو محمد: وهذا غاية الجور بيننا ولا عبث أعظم من أن يعذب إنساناً لا ذنب له ليوعظ بذلك آخرون مذنبون وغير مذنبين والله تعالى قد أنكر هذا بقوله تعالى: " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " فقد انتفى الله عز وجل عن هذا الظلم حقاً ولقد كان على أصولهم الفاسدة تعذيبه الطغاة وإيلامه البغاة ليعظ بذلك غيرهم أدخل في العدل والحكمة من أن يؤلم طفلاً أو حيوان لا ذنب لهما ليعظ بذلك آخرين بل لعل هذا الوجه قد صار سبباً إلى كفر كثير من الناس وأجاب بعضهم في ذلك بأن قال إنما فعل ذلك عز وجل بالأطفال ليؤجر آباءهم.
قال أبو محمد: وهذا كالذي قبله في الجور بسواء ان يؤذى من لا ذنب له ليأجر بذلك مذنباً أو غير مذنب حاشا لله من هذا إلا ان في هذا مزية من التناقض لأن هذا التعليل ينقض عليهم في أولاد الكفار وأولاد الزنى ممن قد ماتت أمه وفي اليتامى من آبائهم وأمهاتهم ورب طفل قد قتل الكفار أو الفساق أباه وأمه وترك هو بدار مضيعة حتى مات هزلاً أو أكلته السباع فليت شعري من وعظ بهذا أو من أوجر به مع أن هذا مما لم يجدوه يحسن بيننا البتة بوجه من الوجوه يعني أن نؤذي إنساناً لا ذنب له لينتفع بذلك آخرون وهم يقولون أن الله تعالى فعل هذا فكان حسناً وحكمة ولجأ بعضهم إلى أن قال أن لله عز وجل في هذا سراً من الحكمة والعدل يوقن به وإن كنا لا نعلم لما هو ولا كيف هو.
قال أبو محمد: وإذ قد بلغوا ها هنا فقد قرب أمرهم بعون الله تعالى وهو أن يلزمهم تصديق من يقول لهم ولله تعالى في تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه عليه سر من الحكمة يوقن به ولا نعلمه.
قال أبو محمد: وأما نحن فلا نقول بهذا بل نقول أنه لا سر ها هنا أصلاً بل كل ذلك كما هو عدل من الله عز وجل لا من غيره ولله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
قال أبو محمد: ولجأت طائفتان منهم إلى أمرين أحدهما قول بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه قال أن الأطفال لا يألمون البتة.
قال أبو محمد: ولا ندري لعله يقول مثل ذلك في الحيوان.
قال أبو محمد: وهذا انقطاع سمج ولجاج في الباطل قبيح ودفع للعيان والحس وكل واحد منا قد كان صغيراً ويوقن أننا كنا نألم الألم الشديد الذي لا طاقة لنا بالصبر عليه والثانية عليه أحمد بن حابظ البصري والفضل الحربي وكلاهما من تلاميذ النظام فإنهما قالا أن أرواح الأطفال وأرواح الحيوان كانت في أجساد قوم عصاة فعوقبت بأن ركبت في أجساد الأطفال والحيوان لتؤلم عقوبة لها.
قال أبو محمد: ومن هرب عن الإذعان للحق أو عن الإقرار بالانقطاع إلى الكفر والخروج عن الإسلام فقد بلغ إلى حالة ما كنا نريد ان يبلغها لكن إذا آثر الكفر فإلى لعنة الله وحر سعيره ونعوذ بالله من الخذلان وإنما كلامنا هذا مع من يتقي مخالفة الإسلام فأما أهل الكفرفقد تم ولله الحمد إبطالنا لقولهم وقد أبطلنا قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله فأغنى عن إعادته وإذا بلغ خصمنا إلى مكابرة الحس أو إلى مفارقة الإسلام فقد انقطع وظهر باطل قوله ولله تعالى الحمد.
قال أبو محمد: فإن لجؤوا إلى قول معمر والجاحظ وقالوا أن آلام الأطفال هي فعل الطبيعة لا فعل الله تعالى لم يتخلصوا بذلك من الانقطاع بل نقول لهم هل الله عز وجل قادر على معارضة هذه الطبيعة المقطعة لحم هذا الصبي بالجدري والآكلة والخنازير المعدية له ووجع الحصاة واحتبس البول أو الغائط أو انطلاق البطن حتى يموت والعدو القاسي القلب يرحمه ويتقطع له لعظيم ما يرى به من التضور والأوجاع بقوة من عنده تعالى يفرجوا بها عن هذا الطفل المسكين المعذب أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا هو غير قادر على ذلك فما في العالم أعجز ممن تغلبه طبيعة هو خلقها وطبعها ووضعها فيمن هي فيه وربما غلبها طبيب ضعيف من خلقه بعقار ضعيف من خلقه فهل في الجنون والكفر أكثر من هذا القول أن يكون هو خلق الطبيعة ووضعها فيمن هي فيه ثم لا يقدر على كف عملها الذي هو وضعه فيها وإن قالوا بل هو قادر على صرف الطبيعة وكفها ولم يفعل دخل في نفس ما أنكر وأقر على ربه على أصله الفاسد بالظلم والعبث وبالضرورة ندري أن من رأى طفلاً في نار أو ماء وهو قادر على استنقاذه بلا مؤونة ولم يفعل فهو عابث ظالم ولكن الله تعالى يفعل ذلك وهو الحكم العدل في حكمه لا العابث ولا الظالم وهذا هو الذي أعظموا من ان يكون قادراً على هدي الكفار ولا يفعل ولجأ بعضهم إلى أن قال لو عاش هذا الطفل لكان طاغياً قلنا لهم لم نسألكم بعد عمن مات طفلاً إنما سألناكم عن إيلامه قبل بلوغه ثم نجيبهم عن قولهم فيمن مات من الأطفال أنه لو عاش لكان طاغياً فنقول لهم هذا أشد في الظلم أن يعذبه على ما لم يفعل بعد.
قال أبو محمد: قد وجدنا الله عز وجل قد حرم ذبح بعض الحيوان وأكله وأباح ذبح بعضه وأوجب ذبح بعضه إذا نذر الناذر ذبحه قرباناً فنقول للمعتزلة اخبرونا ما كان ذنب الذي أبيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنار وأكله وما كان ذنب الذي حرم كل ذلك فيه حتى حرم العوض الذي تدعونه وما كان بخت الذي حرم إيلامه ووجدناه عز وجل قد أباح ذبح صغار الحيوان مع ما يحدث لأمهاتها من الحنين والوله كالإبل والبقر فأي فرق بين ذبحنا لمصالحنا أو لتعوض هي وبين ما حرم من ذبح أطفالنا وصغار أولاد أعدائنا لمصالحنا أو ليعوضوا فإن طردوا دعواهم في المصلحة لربهم أن كل من له مصلحة في قتل غيره كان له قتله فإن قالوا لا يجوز ذلك إلا حيث أباحه الله عز وجل تركوا قولهم ووقفوا للحق.
قال أبو محمد: وجدناه تعالى قد حرم قتل قوم مشركين يجعلون له الصاحبة والولد ويهود ومجوس إذا أعطونا ديناراً أو أربعة دنانير في العام وهم يكفرون بالله تعالى وأباح قتل مسلم فاضل قد تاب وأصلح لزنى سلف منه وهو محصن ولم يبح لنا من استبقاء مشركي العرب من عباد الأوثان إلا بأن يسلموا ولا بد فأي فرق بين هؤلاء الكفار وبين الكفار الذين افترض علينا إبقاؤهم لذهب نأخذه منهم في العام.
قال أبو محمد: وقالوا لنا هل في أفعال الله تعالى عبث وضلال ونقص ومذموم فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أما أن يكون في أفعاله تعالى عبث يوصف به أو عيب مضاف إليه أو ضلال يوصف به أو نقص ينسب إليه أو جور منه أو ظلم منه أو مذموم منه فلا يكون ذلك أصلاً بل كل أفعاله عدل وحكمة وخير وصواب وكلها حسن منه تعالى ومحمود منه ولكن فيها على من ظهر منه ذلك الفعل وعبث منه وضلال منه وظلم منه ومذموم منه ثم نسألهم فنقول لهم هل في أفعاله تعالى سخف وجنون وفضائح ومصائب وقبح وسخام وأقذار وإنتان ونجس وسخنه للعين وسواد للوجه فإن قالوا لا أكذبهم الله عز وجل بقوله تعالى: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " وموت الأنبياء وفرعون وإبليس وكل ذلك مخلوق وإن قالوا أن الله تعالى خالق كل ذلك ولكن لا يضاف شيء منه إلى الله عز وجل على الوجه المذموم ولكن على الوجه المحمود قلنا هذا قولنا فيما سألتمونا عنه ولا فرق فإن قالوا أترضون بأفعال الله عز وجل وقضائه قلنا نعم بمعنى أننا مسلمون لفعله وقضائه ومن الرضى بفعله وقضائه أن نكره ما كره إلينا قال تعالى: " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " ثم نسألهم عن هذا بعينه فنقول لهم أترضون بفعل الله تعالى وقضائه فإن قالوا نعم لزمهم الرضى بقتل من قتل من الأنبياء وبالخمور والأنصاب والآلام وبإبليس ويلزمهم أن يرضى منهم بالخلود في النار من خلد فيها وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وسأل بعض أصحابنا بعض المعتزلة فقال إذا كان عندكم إنما خلق الله تعالى الكفار وهو يعلم انهم لا يؤمنون وأنه سيعذبهم بين أطباق النيران أبداً ليعظ بهم الملائكة وحور العين فقد كان يكفي من ذلك خلق واحد منهم فقال له المعتزلة ان المؤمنين الذين يدخلون الجنة والملائكة وحور العين وجميع من لا عذاب عليه من الأطفال أكثر من الكفار بكثير جداً.
قال أبو محمد: ولم يخرج بهذا الجواب مما ألزمه السائل لأن الموعظة كانت تتم بخلق واحد هذا لو كان يخلق من يعذب ليوعظ به آخر وجه في الحكمة بيننا وأيضاً فلولا ذكره الملائكة لكان كاذباً في ظنه إن عدد الداخلين في الجنة من الناس أكثر من الداخلين النار لأن الأمر بخلاف ذلك لأن الله عز وجل يقول: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " وقال تعالى: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى: " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " وقال تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " فليت شعري في أي حكمة وجدوا فيما بينهم أو بيننا أو في أي عدل خلق من يكون أكثرهم مخلدين في جهنم على أصول هؤلاء الجهال وأما نحن فإنه لو عذب أهل السماوات كلهم وجميع من عمر الأرض لكان عدلاً منه وحقاً له وحكمة منه ولو لم يخلق النار وأدخل كل من خلق الجنة لكان حقاً منه وعدلاً وحكمة منه لا عدل ولا حكمة ولا حق إلا ما فعل وما أمر به.
قال أبو محمد: ولجأ قوم منهم إلى أن قالوا أن الله تعالى لم يعلم من يكفر ولا من يؤمن وأقروا أنه لو علم من يموت كافراً لكان خلقه له جوراً وظلماً.
قال أبو محمد: وهؤلاء أيضاً مع عظيم ما أتوا به من الكفر في تجهيل ربهم تعالى فلم يتخلصوا مما ألزمهم أصحابنا لأنه ليس من الحكمة خلق من لا يدري أيموت كافراً فيعذبه أم لا وهذا هو التغرير بمن خلق وتعريضهم للهلكة على جهالة وهذا ليس من الحكمة ولا من العدل فيما بيننا لمن يمكنه أن لا يغرر وقد كان الباري تعالى قادراً على أن لا يخلق كما قد كان لم يزل لا يخلق ثم خلق إلا أن يلجأ إلى أنه تعالى لا يقدر على أن لا يخلق فيجعلوه مضطراً ذا طبيعة غالبة وهذا كفر مجرد محض ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وإذا أقرت المعتزلة أن أطفال بني آدم كلهم أولاد المشركين وأولاد المسلمين في الجنة دون عذاب ولا تقرير تكليف فقد نسوا قولهم الفاسد أن العقل أفضل من عدمه بل ما نرى السلامة على قولهم وضمانها والحصول على النعيم الدائم في الآخرة بلا تقرير إلا في عدم العقل فكيف فارقوا هذا الاستدلال وأما نحن فنقول إن من أسعده الله تعالى من الملائكة فلم يعرضهم لشيء من الفتن أعلى حالاً من كل خلق غيرهم ثم بعدهم الذين عصم الله تعالى من النبيين عليهم الصلاة والسلام وأمنهم من المعاصي ثم من سبقت لهم من الله تعالى الحسنى من مؤمني الجن والإنس الذين لا يدخلون النار والحور العين اللاتي خلقن لأهل الجنة على أن لهؤلاء المذكورين حاشا الحور العين حالة من الخوف طول بقائهم في الدنيا ثم يوم الحشر في هول المطلع وشنعة ذلك الموقف الذي لا يقي به شيء إلا السلامة منه ولا يهنأ معه عيش حتى يخلص منه وقد تمنى كثير من الصالحين العقلاء الفضلاء أن لو كانوا نسياً منسياً في الدنيا ولا يعرضوا لما عرضوا له على أنهم قد آمنوا بالضمان التام الذي لا ينجس ولقد أصابوا في ذلك إذ السلامة لا يعد لها شيء إلا عند عقول المعتزلة القائلين بأن الثواب والنعيم بعد الضرب بالسياط والضغط بأنواع العذاب والتعريض بكل بلية أطيب وألذ وأفضل من النعيم السالم من أن يتقدمه بلاء ثم الأطفال الذين يدخلون الجنة دون تكليف ولا عذاب ومن بلغ ولا تمييز له ثم منزلة من دخل النار ثم أخرج منها بعد أن دخل فيها على ما فيها من البلاء نعوذ بالله منه وأما من يخلد في النار فكل ذي حس سليم توقن نفسه يقين ضرورة أن الكلب والدود والقرد وجميع الحشرات أحسن حالاً في الدنيا والآخرة منه وأعلى مرتبة وأتم سعداً وأفضل صفة وأكرم عناية من عند الباري تعالى منه ويكفي من هذا إخبار الله تعالى إذ يقول: " ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً " فنص تعالى على أن حال الجمادية أحسن منه حالة فاعجبوا للمعتزلة القائلين أن الله تعالى أعطى من يتمنى يوم القيامة أن يكون تراباً أفضل عطية عنده ولم يترك في قدرته أصلح مما عمل به وأن خلقه له كان خيراً له من أن لا يخلقه ونحن نعوذ بالله لأنفسنا من أن يعمل بنا ما عمل بهم.
قال أبو محمد: ومن عجائبهم قولهم أن الله تعالى لم يخلق شيئاً لا يعتبر به أحد من المكلفين.
قال أبو محمد: فنقول لهم ما دليلكم على هذا وقد علمنا بضرورة الحس أن لله تعالى في قعور البحار وأعماق الأرض أشياء كثيرة لم يرها إنسان قط فلم يبق إلا أن يدعو عوض الملائكة والجن في عمق الجبال وقعور البحور فهذه دعوة مفتقرة إلى دليل وإلا فهي باطلة قال عز وجل: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " وأيضاً فما تبطل به دعوى هؤلاء القائلين بغير علم على الله. إن الله تعالى إذا خلق زيداً وله من الطول كذا وكذا فإنه لو خلقه على أقل من ذلك الطول بإصبع لكان الاعتبار بخلقه سواء كما هو الآن ولا مزيد وهكذا كل مقدار من المقادير فإن ادعوا أن الزيادة في العدد زيادة في العبرة لزمهم أن يلزموا ربهم تعالى أن يزيد في مقدار طول كل ما خلق لأنه كان يكون زيادة في الاعتبار وإلا فقد قصر وبالجملة فهو سهم لا يحصيه إلا الذي خلقهم نعوذ بالله مما ابتلاهم به.
قال أبو محمد: وهم مقرون أن العقول معطاة من عند الله عز وجل فنسألهم أفاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقول أم لا فإن قالوا لا كابروا الحس ولزمهم مع ذلك أن عقل النبي ﷺ وتمييزه وعقل عيسى وإبراهيم وموسى وأيوب وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتمييزهم عقل مريم بنت عمران وتمييزها بل تمييز جبريل وميكائيل وسائر الملائكة ثم تمييز أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعقولهم وتمييز أمهات المؤمنين وبنات النبي ﷺ رضوان الله على جميع من ذكرنا وعقولهن ثم تمييز سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وعقولهم ليس شيء من ذلك أفضل من العقل والتمييز المعطيين لهذا المخنث البغاء الزقان ولهذه الزانية الخليقة المتبرجة السحاقة ولهذا الشيخ الذي يلعب مع الصبيان بالكعاب في الخانات ويعجفهم إذا قدر ومن بلغ هذا المبلغ وساوى بين من أعطى الله عز وجل كل من ذكرنا من العقل والتمييز فقد كفى خصمه مؤونته وإن قالوا بل الله تعالى فاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقل والتمييز قيل لهم صدقتم وهذا هو المحاباة والجور على أصولكم ولا محاباة على الحقيقة أكثر من هذا وهي عندنا حق وعدل منه تعالى لا يسأل عما يفعل ولعمري أن فيهم لا عجباً إذ يقولون أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه إلا ما أعطى سائرهم فهلا إن كانوا صادقين ساوى جميعهم إبراهيم النظام وأبا الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر والجبائي في دقة نظرهم وقوتهم على الجدال إذ كلهم فيما منحهم الله عز وجل من ذلك سواء فإذ لا شك في عجزهم عن بلوغ ذلك فلا شك في أن كل أحد لا يقدر أن يزيد فيما منحه الله تعالى به وليس يمكنهم أصلاً أن يدعوا ها هنا أنهم كلهم قادرون على ذكاء الذهن وحدة النظر وقوة الفطنة وجودة الحفظ و البتة لدقيق الحجة وإن لم يظهروا كما ادعوا ذلك في الأعمال الصالحة فصحت المحاباة من الله تعالى يقيناً عياناً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قروا أن العقول والذكاء وقبول العلم وذكاء الخاطر ودقة الفهم غير موهوبة من الله تعالى عز وجل قلنا لهم فمن خلقها فإن قالوا هي فعل الطبيعة قلنا لهم ومن خلق الطبيعة التي فعلت العقول وكل ذلك بذاتها متفاضلة فمن قولهم ان الله تعالى خلقها فيقال لهم فهو موجب المحاباة إذ رتب الطبيعة رتبة المحاباة ولا بد وإن قالوا لم تخلق الطبيعة ولا العقول لحقوا بالدهرية وصاروا إلى ما لم يرد لهم المصير إليه وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة ندري أن من كان تمييزه أتم كان اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم وهذا هو المحاباة التي أنكروها وسموها ظلماً وجوراً.
قال أبو محمد: ومهما أمكنهم من الدفاع والقحة في شيء ما فإنه لا يمكنهم اعتراض أصلاً في أن فضل الله تعالى على المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام وعلى يحيى بن زكريا إذ جعل عيسى نبياً ناطقاً عاقلاً في المهد رسولاً حين سقوطه من بطن أمه وإذ أتى يحيى الحكم صبياً أتم وأعلا وأكثر من فضله على ولد في أقاصي بلاد الخزر والزنج حيث لم يسمع قط ذكر محمد ﷺ إلا متبعاً أقبح الذكر من التكذيب وانه كان متخيلاً وأكثر من فضله بلا شك على فرعون إذ دعا موسى عليه الصلاة والسلام فقال: " وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ".
قال أبو محمد: إن من ضل بعد هذا لضال وإن من قال أن فضل الله عز وجل وعطاءه لموسى وعيسى ويحيى ومحمد ﷺ وعصمته لهم كفضله وعطائه على فرعون وملئه وعصمته لهم الذين نص عز وجل على أنه شد على قلوبهم شداً منعهم الإيمان حتى يروا العذاب الأليم فلا ينفعهم إيمانهم حينئذ لضعيف العقل قليل العلم مهلهل اليقين ولا بيان أبين من هذه الآية في تفضيل الله عز وجل بعض خلقه على بعض واختصاص بعضهم بالهدى والرحمة دون بعض ومحاباته من شاء منهم وإضلاله من ضل منهم وأيضاً فإنهم لا يستطيعون ان الله عز وجل فضل بني آدم على كثير ممن خلق قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " وقال تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وهي المحاباة بعينها التي هي عند المعتزلة جور وظلم فيقال لهم على أصلكم الفاسد هل لا رزق الله العقل سائر الحيوان فيعرضهم بذلك للمراتب السني التي عرض لها بني آدم وهلا ساوى بين الحيوان وبيننا في أن لا يعرضنا كلنا للمهالك والفتن فهل هذا إلا محاباة مجردة وفعل لما يشاء لا معقب لحكمه لا يسأل عما يفعل.
قال أبو محمد: وقد ذكر بعضهم أن الله تعالى قبح في عقول بني آدم أكل ما يعطيهم وأكل أموال غيرهم ولم يقبح ذلك في عقول الحيوان.
قال أبو محمد: فأقر هذا الجاهل بأن الله تعالى هو المقبح والمحسن فإذ ذلك كذلك فلا قبيح إلا ما قبح الله ولا محسن إلا ما حسن وهذا قولنا ولم يقبح الله تعالى قط خلقه لما خلق وإنما قبح منا كون ذلك الذي خلق من المعاصي فينا فقط وبالله تعالى التوفيق وإن الأمر لأبين من ذلك ألم تروا أن الله خلق الحيوان فجعل بعضهم أفضل من بعض بلا عمل أصلاً ففضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق نعم وعلى نوق الأنبياء الذين هم أفضل من صالح وإنما أتينا بهذا لئلا يقولوا أنه تعالى إنما فضلها تفضيلاً لصالح عليه السلام وجعل تعالى الكلب مضروباً به المثل بالخساسة والرذالة وجعل القردة والخنازير معذباً بعضه من عصاه بتصويره في صورتها فلولا أن صورتها عذاب ونكال ما جعل القلب في صورتها أشد ما يكون من عذاب الدنيا ونكالها وجعل بعض الحيوان متقرباً إلى الله عز وجل بذبحه وبعضه محرم ذبحه وبعضه مأواه الرياض والأشجار والخضر وبعضه مأواه الحشوش والرداع والدبر وبعضه قوياً وبعضه ضعيفاً وبعضه منتفعاً به في الأودية وبعضه سماً قاتلاً وبعضه قوياً على الخلاص ممن أراد بطيرانه وعدوه أو قوته وبعضه لا مهيناً مخلص عنده وبعضه خيلاً في نواصيها الخير يجاهد عليها العدو وبعضه سباعاً ضارية مسلطة على سائر الحيوان ذاعرة لها قاتلة لها آكلة لها وجعل سائر الحيوان لا ينقصر منها وبعضها حيات عادية مهلكة وبعضها مأكولاً على كل حال فأي ذم كان لبعضه حتى سلط عليه غيره فأكله وقتله وأبيح ذبحه وقتله وإن لم يؤكل كالقمل والبراغيث والبق والوزغ وسائر الهوام ونها عن قتل النحل وعن قتل الصيد في الحرمين والأحرام وأباحه في غير الحرمين والأحرام فإن قالوا أن الله تعالى يعوض ما أباح ذبحه وقتله منها قيل له فهلا أباح ذلك فيما حرم قتله ليعوضه أيضاً وهذه محاباة لا شك فيها مع أنه في المعهود من المعقول عين العبث إلا أن يقولوا أنه تعالى لا يقدر على نعيمها إلا بتقديم الأذى فإنهم لا ينفكون بهذا من المحاباة لها على من لم يبح ذلك فيها من سائر الحيوان مع أنه تعجيز لله عز وجل ولو ويقال لهم ما لذي عجزه عن ذلك وأقدره على تنعيم من تقدم له الأذى في الدنيا أطبيعة فيه جارية على بنيتها أم فوقه وأهب له تلك القدرة ولا بد من أحد هذين القولين وكلاهما كفر مجرد وأيضاً فإن قولهم يبطل بتنعيم الله عز وجل الأطفال الذين ولدوا أحياء وماتوا من وقتهم دون ألم سلف لهم ولا تعذيب فهلا فعل بجميع الحيوان كذلك على أصولكم فقد كان عز وجل قادراً على ان يجعل غذاءنا في غير الحيوان لكن في النبات والثمار كعيش كثير من الناس في الدنيا لا يأكلون لحماً فما ضرهم ذلك في عيشهم شيئاً فهل ها هنا إلا أن الله تعالى لا يجوز الحكم على أفعاله بما يحكم به على أفعالنا لأننا مأمورون منهيون وهو تعالى آمرنا لا مأمور ولا منهي فكل ما فعله عدل وحكمة وحق وكل ما فعلناه فإنه إن وافق أمره عز وجل كان عدلاً وحقاً وإن خالف أمره عز وجل كان جوراً وظلماً.
قال أبو محمد: وأما الحيوان فإن قولنا فيه هو نص ما قاله الله عز وجل ورسوله ﷺ إذ يقول عز وجل: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " وقال عز وجل: " وإذا الوحوش حشرت " فنحن موقنون الوحوش كلها وجميع الدواب والطير تحشر كلها يوم القيامة كما شاء الله تعالى ولما شاء عز وجل و أما نحن فلا ندري لماذا والله أعلم بكل شيء وقال رسول الله ﷺ أنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء فنحن نقر بهذا وبأنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء ولا ندري ما يفعل الله بهما بعد ذلك إلا أنا ندري يقيناً أنها لا تعذب بالنار لأن الله تعالى قال: " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وبيقين ندري أن هذه الصفة ليست إلا في الجن والإنس خاصة ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى وقد أيقنا ان سائر الحيوان الذي في هذا العالم ما عدا الملائكة والحور والإنس والجن فإنه غير متعبد بشريعته وأما الجنة فإن رسول الله ﷺ قال: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة " والحيوان حاشا من ذكرنا لا يقع عليهم اسم مسلمين لأن المسلم هو المتعبد بالإسلام والحيوان المذكور غير متعبد بشرع فإن قال قائل أنكم تقولون أن أطفال المسلمين وأطفال المشركين كلهم بالجنة فهل يقع على هؤلاء اسم مسلمين فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن نقول نعم كلهم مسلمون بلا شك لقول الله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى " وقوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " ولقول رسول الله ﷺ: " كل مولود يولد على الفطرة " وروي على الملة " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه " ولقوله ﷺ عن الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالتهم الشياطين عن دينهم فصح لهم كلهم اسم الإسلام والحمد لله رب العالمين وقد نص عليه السلام على أنه رأى كل من مات طفلاً من أولاد المشركين وغيرهم في روضة مع إبراهيم خليل الله ﷺ وأما المجانين ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة نبي وقد هرم أو أصم لا يسمع فقد صح عن رسول الله ﷺ أنه تبعث لهم يوم القيامة نار موقدة ويأمرون بدخولها فمن دخلها كانت عليه برداً ودخل الجنة أو كلاماً هذا معناه فنحن نؤمن بهذا ونقر به ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى على لسان رسوله ﷺ.
قال أبو محمد: وإذا قد بلغ الكلام هاهنا فلنصله إن شاء الله تعالى راغبين في الأجر من الله عز وجل على بيان الحق فنقول وبالله تعالى نتأيد أن الله تعالى قد نص كما ذكرنا أنه آخذ من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وهذا نص جلي على أنه عز وجل خلق أنفسنا كلها من عهد آدم عليه السلام لأن الأجساد حينئذ بلا شك كانت تراباً وماء وأيضاً فإن المكلف المخاطب إنما هو النفس لا الجسد فصح يقيناً أن نفوس كل من يكون من بني آدم إلى يوم القيامة كانت موجودة مخلوقة حين خلق آدم بلا شك ولم يقل الله عز وجل أنه أفنانا بعد ذلك ونص تعالى على انه خلق الأرض والماء حينئذ بقوله تعالى إنه جعل من الماء كل شيء حي وقوله تعالى: " خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " وأخبر عز وجل أنه خلقنا من طين والطين هو التراب والماء وإنما خلق تعالى من ذلك أجسامنا فصح أن عنصر أجسامنا مخلوق منذ أول خلقه تعالى السماوات وأن أرواحنا وهي أنفسنا مخلوقة منذ أخذ الله تعالى عليها العهد وهكذا قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وثم توجب في اللغة التي بها نزل القرآن التعقيب بمهلة ثم يصور الله تعالى من الطين أجسامنا من اللحم والدم والعظام بأن يحيل أعراض التراب والماء وصفاتهما فتصير نباتاً وحباً وثماراً يتغذى بها فتستحيل فينا لحماً وعظماً ودماً وعصباً وجلداً وغضاريف وشعراً ودماغاً ونخاعاً وعروقاً وعضلاً وشحماً ومنياً ولبناً فقط وكذلك تعود أجسامنا بعد الموت تراباً ولا بد وتصعد رطوباتها المائية وأما جمع الله تعالى الأنفس إلى الأجساد فهي الحياة الأولى بعد افتراقها الذي هو الموت الأول فتبقى كذلك في عالم الدنيا الذي هو عالم الابتلاء ما شاء الله تعالى ثم ينقلنا بالموت الثاني الذي هو فراق الأنفس للأجساد ثانية إلى البرزخ الذي تقيم فيه الأنفس إلى يوم القيامة وتعود أجسامنا تراباً كما قلنا ثم يجمع الله عز وجل يوم القيامة بين أنفسنا وأجسادنا التي كانت بعد أن يعيدها وينشرها من القبور وهي المواضع التي استقرت أجزاؤها فيها لا يعلمها غيره ولا يحصيها سواه عز وجل لا إله إلا هو فهذه الحياة الثانية التي لا تبيد أبداً ويخلد الإنس والجن مؤمنهم في الجنة بلا نهاية وكافرهم بالنار بلا نهاية وأما الملائكة وحور العين فكلهم في الجنة فيها خلقوا من النور وفيها يبقون أبداً بلا نهاية ولم ينقلوا عنها قط ولا ينقلون هذا كله نص قول الله عز وجل إذ يقول: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وإذ يقول تعالى مصدقاً للقائلين: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" فلا يشذ عن هذا أحد إلا من أبانه الله تعالى بمعجزة ظهرت فيه كمن أحياه الله عز وجل آية لنبي كالمسيح عليه السلام وكالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذرروت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم فهؤلاء والذي أماته الله مائة عام ثم أحياه كلهم ماتوا ثلاث موتات وحيوا ثلاث مرات وأما من ظن أن الصعقة التي تكون يوم القيامة موت فقد أخطأ بنص القرآن الذي ذكرنا لأنها كانت تكون حينئذ لكل أحد ثلاث موتات وثلاث إحياءات وهذا كذب وباطل وخلاف للقرآن وقد بين عز وجل هذا نصاً فقال تعالى: " وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ " فبين تعالى أن تلك الصعقة إنما هي فزع لا موت وبين ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء " الآية فبين تعالى أن تلك الصعقة مستثنى منها من شاء الله عز وجل وفسر بها الآية التي ذكرنا قبل وبينت أنها فزعة لا موتة وكذلك فسرها النبي غليه الصلاة والسلام بأنه أول من يقوم فيرى موسى عليه السلام قائماً فلا يدري أكان ممن صعق فأفاق أم جوزي بصعقة الطور فسماها إفاقة ولو كانت موتة ما سماها إفاقة بل إحياء فكذلك كانت صعقة موسى عليه الصلاة والسلام يوم الطور فزعة لا موتة قال تعالى " وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك " وهذا ما لا خلاف فيه.
قال أبو محمد: فصح بما ذكرنا ان الدور سبع وهي عالمون كل علم منها قائم بذاته فأولها دار الابتداء وعالمه وهو الذي خلق عز وجل فيه الأنفس جملة واحدة وأخذ عليها العهد هكذا نص تعالى على أنها الأنفس بقوله عز وجل: " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم " وهي دار واحدة لأنهم كلهم فيها مسلمون وهي دار طويلة على آخر النفوس جداً إلا على أول المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وثانيها وهي دار الابتلاء وعالمه وهي التي نحن فيها وهي التي يرسل الله تعالى النفوس إليها من عالم الابتداء فتقيم فيه في أجسادها متعبدة ما أقامت حتى تفارقه جيلاً بعد جيل حتى تستوفي جميع الأنفس المخلوقة بسكناها الموفق لها فيه ثم ينقضي هذا العالم وهي دار قصيرة جداً على كل نفس في ذاتها لأن مدة عمر الإنسان فيها قليل ولو عمر ألف عام فكيف بأعمار جمهور الناس التي هي من ساعة إلى حدود المائة عام ثم داران اثنان للبرزخ وهما اللتان ترجع إليهما النفوس عند خروجها من هذا العالم وفراقها أجسادها وهما عند سماء الدنيا نص على ذلك رسول الله ﷺ وذكر أنه رأى ليلة أسرى به عليه الصلاة والسلام آدم في سماء الدنيا وعن يمينه أسوده وعن يساره أسوده فسأل عنها فأخبر أنها نسم بنيه وأن الذين على يمينه أرواح أهل السعادة والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء وقد نص الله تعالى على هذا نصاً فقال تعالى: " وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " وقال تعالى: " فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " وقال تعالى: " ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ".
قال أبو محمد رضي الله عنه: هكذا نص رسول الله ﷺ على أن أرواح الشهداء في الجنة وكذلك الأنبياء بلا شك فمن الباطل أن يفوز الشهداء بفضل يحرمه الأنبياء وهم المقربون الذين ذكر الله تعالى أنهم في الجنة إذ يقول تعالى: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم " فهاتان داران قائمان لم يدخل أهلهما بعد لا الجنة ولا ناراً بنص القرآن والسنة وقال تعالى: " النار يعرضون عليها غدواً وعشي ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقال تعالى حاكياً عن الكفار أنهم يقولون يوم البعث: " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " فصح أنهم لم يعذبوا في النار بعد وهكذا جاءت الأخبار كلها بأن الجميع يوم القيامة يصيرون إلى الجنة وإلى النار لا قبل ذلك حاشا الأنبياء والشهداء فقط ولا ينكر خروجهم من الجنة لحضور الحساب فقد دخل رسول الله ﷺ الجنة ثم خرج عنها قال تعالى: " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى " وهما داران طويلتان على أول النفوس جداً حاشا آخر المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وإنما ستقصرها الكفار كما قال عز وجل في القرآن لأنهم انتقلوا عنها إلى عذاب النار نعوذ بالله منها فاستقلوا تلك المدة وإن كانت طويلة حتى ظنها بعضهم لشدة ما صاروا إليه يوماً أو بعض يوم وقال بعضهم إن لبثتم إلا عشرا ثم الدار الخامسة هي عالم البعث وهو يوم القيامة وهو عالم الحساب ومقداره خمسون ألف سنة قال تعالى: " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه " فصح أنه يوم القيامة وبهذا أيضاً جاءت الأخبار الثابتة عن رسول الله ﷺ وأما الأيام التي قال الله تعالى فيها أن اليوم منها ألف سنة فهي آخر قال تعالى: " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " وقال تعالى: " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " فهي أيام أخر بنص القرآن ولا يحل إحالة نص عن ظاهره بغير نص آخر أو إجماع بيقين أو ضرورة حس ثم الدار السادسة والسابعة داران للجزاء وهما الجنة والنار وهما داران لا آخر لهما ولا فناء لهما ولا لمن فيهما نعوذ بالله من سخطه الموجب للنار ونسأله الرضى منه الموجب للجنة وما توفيقنا إلا بالله الرحيم الكريم وأما من قال أن قوله تعالى في يوم القيامة إنما هو مقداره خمسين ألف سنة لو تولى ذلك الحساب غيره فهو مكذب لربه تعالى مخالف للقرآن ولقول رسول الله ﷺ في طول ذلك اليوم وبضرورة العقل ندري أنه لو كلف جميع أهل الأرض محاسبة أهل حصر واحد فيما أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذلك ما قاموا به في ألف ألف عام فبطل هذا القول الكاذب بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإذ قد بينا بطلان قول المعتزلة في تحكمهم على ربهم و إيجابهم عليه ما أوجبوا بآرائهم السخيفة وتشبيههم إياه بأنفسهم فيما يحسن منهم ويقبح و تجويزهم إياه فيما فعل وقضى وقدر فلنبين بحول الله وقوته أنهم المجورون له على الحقيقة لا نحن ثم نذكر ما نص الله تعالى عليه مصدقاً لقولنا ومكذباً لقولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أن من المحال البين أن يقول المعتزلة أننا نجور الله تعالى ونحن نقول أنه لا يجوز البتة ولا جار قط وإن كل ما فعل أو يفعل أي شيء كان فهو العدل والحق والحكمة على الحقيقة لا شك في ذلك وأنه لا جور إلا ما سماه الله عز وجل جوراً وهو ما ظهر في عصاة عباده من الجنوالإنس مما خالف أمره تعالى وهو خالقه فيهم كما شاء فكيف يكون مجور إليه عز وجل من هذه هي مقالته وإنما المجور لربه تعالى من يقول فيما أخبر الله عز وجل أنه خلقه هذا جور وظلم فإن قائل هذا القول لا يخلو ضرورة من أحد الوجهين لا ثالث لهما إما أنه مكذب لربه عز وجل في إخباره في القرآن أنه برأ المصائب كلها وخلقها وأنه تعالى خلقنا وما نعمل وأنه خلق كل شيء بقدر محرف لكلام ربه تعالى الذي هو غاية البيان عن مواضعه مبدل له بعد ما سمعه وقد نص الله تعالى فيمن يحرف الكلم عن مواضعه ويبدله بعدما سمعه ما نص فهذا خطة كفر إن التزمها والثانية وهي تصديق الله عز وجل في إخباره بذلك وتجويزه في فعله لا بد له من ذلك وهذه أيضاً خطة كفر إن التزمها أو الانقطاع والتناقض والثبات على اعتقاد الباطل بلا حجة تقليداً للعيارين الشطار الفساق كالنظام والعلاف و بشر نخاس الرقيق ومعمر المتهم عندهم في دينه وثمامة الخليع المشهور بالقبائح والجاحظ وهو من عرف هذلاً وعيارة وانهمالاً وهذه أسلم الوجوه لهم ونعوذ بالله من مثلها ثم هم بعد هذا صنفان أصحاب اللطف وأصحاب اللطف فأما أصحاب الأصلح فإن أصحاب الأصلح يصفونهم بأنهم مجورون لله مجهولون له وأصحاب الأصلح يصفهم أصحاب اللطف بأنهم معجزون لله تعالى مشبهون له بخلقه فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقد نص الله تعالى على أنه يفعل ما يشاء بخلاف ما قالت المعتزلة فقال عز وجل: " كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء " وأمرنا عز وجل أن ندعوه فنقول: " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ".
قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أنه عز وجل له أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وأنه لو شاء ذلك لكان من حقه ولو لم يكن له ذلك لما أمرنا بالدعاء في أن لا يحملنا ذلك ولكان الدعاء بذلك كالدعاء في أن يكون إلهاً خالقاً على أصولهم ونص تعالى كما تلونا على أنه قد حمل من كان قبلنا الإصر وهو الثقل الذي لا يطاق وأمرنا أن ندعوه بأن لا يحمل ذلك علينا وأيضاً فقد أمرنا تعالى في هذه الآية أن ندعوه في أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهذا تكليف ما لا يطاق نفسه لأن النسيان لا يقدر أحد على الخلاص منه ولا يتوهم التحفظ منه ولا يمكن أحداً دفعه عن نفسه فلولا أن له تعالى أن يؤاخذنا بالنسيان من شاء من عباده لما أمرنا بالدعاء في النجاة منه وقد وجدنا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مؤاخذين بالنسيان منهم أبونا آدم ﷺ قال الله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " يريد نسيانه عداوة إبليس له الذي حذره الله تعالى منها ثم وآخذه على ذلك وأخرجه من الجنة ثم تاب عليه وهذا كله على أصول المعتزلة جور وظلم تعالى الله عن ذلك وقال عز وجل: " لو شاء الله ما أشركوا " ولو في اللغة التي بها نزل القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن ترك الشرك من المشركين ممتنع لامتناع مشيئة الله تعالى لتركه وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " ومشيئة الله هي تفسير إذن الله وقال تعالى: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله " فهذا نص جلي على انه لا يمكن أحداً أن يؤمن إلا بإذن الله عز وجل له في الإيمان فصح يقيناً أن كل من آمن فلم يؤمن إلا بإذن الله عز وجل وإنه تعالى شاء أن يؤمن وإن كل من لم يؤمن فلم يأذن الله تعالى له في الإيمان ولا شاء ان يكون منه الإيمان هذا نص هاتين الآيتين اللتين لا يحتملان تأويلاً غيره أصلاً وليس لأحد أن يقول أنه تعالى عنى الإكراه على الإيمان لأن نص الآيتين مانع من هذا التأويل الفاسد لأنه تعالى أخبر أن كل من آمن فإنما آمن بإذن الله عز وجل وإن من لم يؤمن فإن الله تعالى لم يشاء أن يؤمن فيلزمهم على هذا أن كل مؤمن في العالم فمكره على الإيمان وهذا شر من قول الجهمية وأشد فإن قالوا أن إذن الله تعالى ها هنا إنما أمره لزمهم ضرورة أحد وجهين لا بد منهما إما ان يقولوا أن الله تعالى لم يأمر الكفار بالإيمان لأن النص قد جاء بأنه تعالى لو أذن لهم لآمنوا وأما ان يقولوا أن كل من في العالم فهم مؤمنون لأنهم عندهم مأذون لهم في الإيمان إذا كان الإذن هو الأمر وكلا القولين كفر مجرد ومكابرة للعيان ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: الإذن هاهنا ومشيئته تعالى هو خلق الله تعالى للإيمان فيمن آمن وقوله لإيمانه كن فيكون وعدم إذنه تعالى وعدم مشيئته للإيمان هو أن لا يخلق في المرء الإيمان فلا يؤمن لا يجوز غير هذا البتة إذ قد صح أن الإذن ها هنا ليس هو الأمر وقال عز وجل " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " فأخبر تعالى أنه هدى بعضهم دون بعض وهذا عند المعتزلة جور وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " فنص على انه خلقهم ليدخلهم النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وأمر تعالى أن ندعوه فنقول: " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " فنص تعالى على بزيغ قلوب من لم يهدهم من الذين زاغوا إذ أزاغ الله قلوبهم وقال تعالى: " كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " فقطع تعالى على ان كلماته قد حقت على الفاسقين انهم لا يؤمنون فمن الذي حقق عليهم أن لا يؤمنوا إلا هو عز وجل وهذا جور عند المعتزلة.
قال أبو محمد: وكل آية ذكرناها في باب الاستطاعة منهن حجة عليهم في هذا الباب وكل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في باب إثبات أن الله عز وجل أراد كون الكفر والفسق بعد هذا الباب منهي أيضاً حجة عليهم في هذا الباب وكذلك كل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في إبطال قول من قال ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه الله أبا جهل وفرعون وأبا لهب مما يستدعي إلى الإيمان فإنها حجة عليهم في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واحتجت المعتزلة بقول الله تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " وبقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وبقوله تعالى: " وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " وبقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وبقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وبقوله تعالى: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ".
قال أبو محمد: وهذه حجة لنا عليهم لأنه تعالى أخبر أنه قادر على أن يسمعهم والإسماع ها هنا الهد بلا شك لأن آذانهم كانت صحاحاً ومعنى قوله تعالى: " ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " إنما معناه بلا شك لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا لأنه محال أن يهديهم الله وقد علم من قلوبهم خيراً فلا يهتدوا هذا تناقض قد تنزه كلامه عز وجل فصح أنه كما ذكرنا يقيناً.
قال أبو محمد: وسائرها لا حجة لهم في شيء منه بل هو حجة لنا عليهم وهو نص قولنا أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأفعال العباد بين السماء والأرض بلا شك فالله تعالى خلقها بالحق الذي هو اختراعه لها وكل ما فعل تعالى حق وإضلاله من أضل حق له ومنه تعالى وهداه من هدى حق منه تعالى ومحاباته من حابى بالنبوة وبالطاعة حق منه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال أن الله تعالى خلق شيئاً بغير الحق أو أنه تعالى خلق شيئاً لاعباً أو أنه تعالى ظلم أحداً بل فعله عدل وصلاح ولقد ظهر لكل ذي فهم أننا قائلون بهذه الآيات على نصها وظاهرها فأي حجة لهم علينا في هذه النصوص لو عقلوا وأما المعتزلة فيقولون أنه تعالى لم يخلق كثيراً مما بين السماوات والأرض لا سيما عباد بن سليمان منهم تلميذ هشام بن عمرو الفوطي القائل أن الله تعالى لم يخلق الجدب ولا الجوع ولا الأمراض ولا الكفار ولا الفساق ومحمد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جعفر بن حرب القائل أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا المزامير ولا الطنابير وكل ذلك ليس بخلق من خلق الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهم يقولون أن الله عز وجل لو حابى أحداً لكان ظالماً لغيره وقد صح أن الله تعالى حابى موسى وإبراهيم ويحيى ومحمداً صلوات الله عليهم دون غيرهم ودون أبي لهب وأبي جهل وفرعون والذي حاج إبراهيم في ربه فعلى قول المعتزلة يجب أن الله تعالى ظلم هؤلاء الذين حابى غيرهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم منه إلا بترك قولهم الفاسد وأما قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فهكذا نقول ما خلقهم الله تعالى إلا ليكونوا له عباداً مصرفين بحكمه فيهم منقادين لتدبيره إياهم وهذه حقيقة العبادة والطاعة أيضاً عبادة وقال تعالى حاكياً عن القائلين " أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " وقد علم كل أحد ان قوم موسى عليه السلام لم يعبدوا قط فرعون عبادة تدين لكن عبدوه عبادة تذلل فكانوا له عبيداً فهم له عابدون وكذلك قول الملائكة عليهم السلام بل كانوا يعبدون الجن وقد علم كل أحد أنهم لم يعبدوا الجن عبادة تدين لكنهم عبدوهم عبادة تصرف لأمرهم وإغوائهم فكانوا لهم بذلك عبيداً فصح القول بأنهم يعبدونهم وهذا بين وقال بعض أصحابنا معنى هذه الآية أنه تعالى خلقهم ليأمرهم بعبادته ولسنا نقول بهذا لأن فيهم من لم يأمره الله تعالى قط بعبادته كالأطفال والمجانين فصار تخصيصاً للآية بلا برهان والذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه لأنه المشاهد المتيقن العام لكل واحد منهم واما ظن المعتزلة في هذه الآية فباطل يكذبه إجماعهم معنا أن الله تعالى لم يزل يعلم أن كثيراً منهم لا يعبدونه فكيف يجوز أن يخبر أنه خلقهم لأمر قد علم أنه لا يكون منهم إلا أن يصيروا إلى قول من يقول انه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون فيتم كفر من لجأ إلى هذا ولا يخلصون مع ذلك من نسبة العبث إلى الخالق تعالى إذ غرر من خلق فيما لا يدري أيعطبون فيه أم يفوزون وتحيرت المعتزلة القائلون بالأصلح وبإبطال المحاباة في وجه العدل في ستة عشر باباً وهي العدل في إدامة العذاب العدل في إيلام الحيوان العدل في تبليغ من في المعلوم أنه يكفر العدل في المخلوق العدل في إعطاء الاستطاعة العدل في الإرادة العدل في البدل العدل في الأمر العدل في عذاب الأطفال العدل في استحقاق العذاب في إخلاف أحوال المخلوقين العدل في المعرفة العدل في اللطف العدل في الأصلح العدل في نسخ الشرائع العدل في النبوة. واراده من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه
قال أبو محمد: قالت المعتزلة أن الله تعالى لم يشأ أن يكفر الكافر ولا أن يفسق الفاسق ولا ان يشتم تعالى ولا أن يقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحتجوا بقول الله عز وجل: " ولا يرضى لعباده الكفر " وبقوله تعالى: " اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " وقالوا من فعل ما أراد الله فهو مأجور محسن فإن كان الله تعالى أراد ان يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق فقد فعلا جميعاً ما أراد الله منهما فهما محسنان مأجوران وذهب أهل السنة أن لفظة شاء وأراد لفظة مشتركة تقع إلى معنيين أحدهما الرضى والاستحسان فهذا منهي عن الله تعالى انه أراده أو شاءه في كل ما نهى عنه والثاني أن يقال أراد وشاء بمعنى أراد كونه وشاء وجوده فهذا هو الذي نخبر به عن الله عز وجل في كل موجود في العالم من خير أو شر فسلكت المعتزلة سبيل السفسطة في التعلق في الألفاظ المشتركة الواقعة على معنيين فصاعداً أو التمويه الذي يضمحل إذا فتش ويفتضح إذا بحث عنه وهذا سبيل الجهال الذي لا حيلة بأيديهم إلا المخرفة وقال أهل السنة ليس من فعل ما أراد الله تعالى وما شاء الله كان محسناً وإنما المحسن من فعل بأمر الله تعالى به ورضيه منه.
قال أبو محمد: ونسألهم فنقول لهم اخبرونا كان الله تعالى قادراً على منع الكافر من الكفر والفاسق من الفسق وعلى منع من شتمه من النطق ومن إمراره على خاطره وعلى منع من قتل من قتل من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أم كان عاجزاً عن المنع من ذلك فإن قالوا لم يكن قادراً على المنع من شيء من ذلك فقد أثبتوا له معنى العجز ضرورة وهذا كفر مجرد وإبطال لإلاهيته تعالى وقطع عليه بالضعف والنقص وتناهي القوة وانقطاع القدرة مع التناقض الفاحش لأنهم مقرون أنه تعالى هو أعطاهم القوة التي بها كان الكفر والفسق وشتمه تعالى وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن المحال المحض أن يكون تعالى لا يقدر على أن لا يعطيهم الذي أعطاهم وهذه صفة المضطر المجبر وإن قالوا بل هو قادر على منعهم من ذلك أقروا ضرورة أنهم مريد لبقائهم على الكفر وأنه المبقي للكافر والكفر وحالف الزمان الذي امتد فيه الكافر على كفره والفاسق على فسقه وهذا نفسه هو قولنا أنه أراد كون الكفر والفسق والشتم له وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يرض عن شيء من ذلك بل سخطه تعالى وغضب على فعله وقالت المعتزلة إن كان الله تعالى أراد كون كل ذلك فهو إذاً يغضب مما أراد.
قال أبو محمد: ونحن نقر أنه تعالى يغضب على فاعل ما أراد كونه منه ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم فإذا هذا عندكم منكر وأنتم مقرون به بأنه قادر على المنع منه فهو عندكم يغضب مما أقر ويسخط ما يقره ولا يغيره ويثبت ما لا يرضى وهذا هو الذي شنعوا فيه ولا يقدرون على دفعه والشناعة عليهم راجعة لأنهم أنكروا ما لزمهم وبالضرورة ندري أن من قدر على المنع من شيء فلم يفعل ولا منع منه فقد أراد وجود كونه ولو لم يرد كونه لغيره ولمنع منه ولما تركه يفعل فإن قالوا أنه حكيم وخلاهم دون منع لسر من الحكمة له في ذلك قيل له فاقنعوا بمثل هذا الجواب ممن قال لكم أنه أراد كونه لأنه حكيم كريم عزيز وله في ذلك سر من الحكمة.
قال أبو محمد: وأما نحن فنقول أنه تعالى أراد كون كل ذلك ولا سر ها هنا وأن كل ما فعل فهو حكمة وحق وأن قولهم هذا هادم لمقدمتهم الفاسدة أنه يقبح من الباري تعالى ما يقبح منا وفيما بيننا وما علم قط ذو عقل أن عن خلى منا عدوه منطلق اليد على وليه وأحب الناس إليه يقتله ويعذبه ويلطمه ويهينه ويتركه ينطلق على عبيده وإمائه يفجر بهم وبهن طوعاً وكرهاً والسيد حاضر يرى ويسمع وهو قادر على المنع من ذلك فلا يفعل بل لا يقنع بتركهم إلا حتى يعطي عدوه القوة على كل ذلك والآلات المعينة له ويمده بالقوى شيئاً بعد شيء فليس حكيماً ولا حليماً ولكنه عابث ظالم جائر فيلزمهم على أصلهم الفاسد أن يحكموا على الله تعالى بكل هذا لأنهم معترفون بأنه تعالى فعل كل هذا وهذا لا يلزمنا لأننا نقول أن الله تعالى بفعل ما يشاء وأن كل ما فعل مما ذكرنا وغيره فهو كله منه تعالى حكمة وحق وعدل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فبطل بضرورة المشاهدة قولهم أن الله تعالى لم يرد كون الكفر أو كون الفسق أو كون شتمه تعالى وقتل أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولو لم يرد كونه لمنع من ذلك كما منع من كون كل ما لم يرد أن يكون.
قال أبو محمد: ويكفي من هذا كله اجتماع الأمة على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهذا على عمومه موجب أن كل ما في العالم كان أو يكون أي شيء كان فقد شاء الله تعالى وكل ما لم يكن ولا يكون فلم يشأه الله تعالى وقد نص الله تعالى نصاً لا يحتمل تأويلاً على أنه تعالى أراد كون كل ذلك فمن ذلك قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فنص تعالى نصاً جلياً على أنه لا يشاء أحد استقامة على طاعته تعالى إلا أن شاء الله تعالى أن يستقيم فلو صح قول المعتزلة أن الله تعالى شاء أن يستقيم كل مكلف لكان بنص القرآن كل مكلف مستقيم لأن الله تعالى عندهم قد شاء ذلك وهذا تكذيب مجرد لله تعالى نعوذ بالله من مثله فصح يقيناً لا مدخل للشك في صحته أنه تعالى شاء خلاف الاستقامة منهم ولم يشأ أن يستقيموا بنص القرآن وقال تعالى: " وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ".
قال أبو محمد: وهذه الآية غاية في البيان لأن الله تعالى جعل عدة ملائكة النار فتنة للذين كفروا وليقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلاً فأخبر تعالى أراد أن يفتن الذين كفروا وأن يضلهم فيضلوا وأنه تعالى قصد إضلالهم وحكم بذلك كما قصد هدى المؤمنين وأراده وكذلك قال تعالى: " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ".
قال أبو محمد: فنص تعالى على أنه نزل القرآن هدى للمؤمنين وعمي للكفار و بيقين ندري أنه تعالى إذا نزل القرآن أراد أن يكون كما قال تعالى عمي للكفار وهدى للمؤمنين وقال تعالى: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " هكذا هي الآية كلها موصولة بعضها ببعض فنص تعالى على أنه لو شاء لأمن الناس والجن وهم أهل الأرض كلهم ولو في لغة العرب التي بها خاطبنا الله عز وجل ليفهمنا حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن الله لم يشأ أن يؤمن كل من في الأرض وإذ لا شك في ذلك فباليقين أنه شاء منهم خلاف الإيمان وهو الكفر والفسق لا بد ولو كان الله تعالى أذن للكافرين في الإيمان على قول المعتزلة لكان كل من في الأرض قد آمن لأنه تعالى قد نص على أنه لا يؤمن أحد إلا بإذنه وهذا أمر من المعتزلة يكذبه العيان فصح أن المعتزلة كذبت وأن الله تعالى صدق وأنه لم يأذن قط لمن مات كافراً في الإيمان وأن من عمي عن هذه لأعمى القلب وكيف لا يكون أعمى القلب من أعمى الله قلبه عن الهدى وبالضرورة ندري أن قول الله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " حق وإن من لم يأذن الله تعالى إلا في الإيمان فإنه تعالى لم يشأ أن يؤمن وإذ لم يشأ أن يؤمن فبلا شك أنه تعالى شاء أن يكفر هذا مالا انفكاك منه وقال تعالى: " ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله " فبين الله تعالى أتم بيان على أن الآيات لا تغني شيئاً ولا النذر وهم الرسل وإنه لا يؤمن من شيء من ذلك إلا من شاء الله عز وجل أن يؤمن فصح يقيناً أنه لا يؤمن إلا من شاء الله إيمانه ولا يكفر إلا من شاء الله كفره فقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام أنه قال: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فبالضرورة نعلم أن من صبا و جهل فإن الله تعالى لم يصرف عنه الكيد الذي صرفه برحمته عمن لم يصب ولم يجهل وإذا صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض فقد أراد تعالى إضلال من صبا وجهل وقال تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً " فليت شعري إذ قال تعالى أنه جعل قلوب الكافرين في أكنة ان يفقهوا القرآن وجعل الوقر في آذانهم أتراه أراد أن يفقهوه و أراد أن لا يفقهوه وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى أنه فعل عز وجل شيئاً لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه ولا شاء إيجاده وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل فصح يقيناً أن الله تعال أراد كون الوقر في آذانهم وكون الأكنة على قلوبهم وقال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " فنص تعالى على أنه لم يرد أن يجعلنا أمة واحدة ولكن شاء أن يضل قوماً ويهدي قوماً فصح يقيناً أنه تعالى شاء إضلال من ضل وقال تعالى مثنياً على قوم ومصدقاً لهم في قولهم " قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " فقال النبيون عليهم الصلاة والسلام واتباعهم قول الحق الذي شهد الله عز وجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم منه ولم ينج الكافرين منه وأن الله تعالى إن شاء ان يعودوا في الكفر عادوا فيه فصح يقيناً أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر وقد قالت المعتزلة في هذه الآية معنى إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة.
قال أبو محمد: هذا في غاية الفساد لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عوداً في ملة الكفر بل كان يكون ثباتاً على الإيمان وتزايداً فيها وقال تعالى: " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً " فليت شعري إذ زاد لهم الله مرضاً أتراه لم يشأ ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم وهو الشرك والكفر وكيف يفعل الله ما لا يريد أن يفعل وهل هذا إلا إلحاد مجرد ممن قاله وقال تعالى: " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد " فنص تعالى على أنه لو شاء لم يقتتلوا فوجب ضرورة أنه شاء وأراد أن يقتتلوا وفي اقتتال المقتتلين ضلال بلا شك فقد شاء الله تعالى كون الضلال ووجوده بنص كلامه تعالى وقال عز وجل: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " فنص تعالى على انه أراد فتنة المفتتنين وهم الكفار وكفرهم الذين لم يملك لهم رسول الله ﷺ من الله شيئاً فهذا نص على أن الله تعالى أراد كون الكفر من الكفار وقال تعالى: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ".
قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أنه تعالى لم يرد ان يطهر قلوبهم وبالضرورة ندري أن من يرد الله أن يطهر قلبه فقد أراد فساد دينه الذي هو ضد طهارة القلب وقال تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وهذا غاية البيان في أن الله تعالى لم يرد هدى الجميع وإذا لم يرد هداهم فقد أراد كون كفرهم الذي هو ضد الهدى وقال تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ".
قال أبو محمد: هذا غاية البيان في أنه تعالى لم يشأ هدى الكفار لكن حق قوله بأنهم لا بد من أن يكفروا فيكونوا من أهل جهنم وقال تعالى: " من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فأخبر تعالى أنه شاء أن يضل من أضله وشاء ان يهدي من جعله على صراط مستقيم وهم بلا شك غير الذين لم يجعلهم على صراط مستقيم " وأراد فتنتهم وأن لا يطهر قلوبهم وأن يكونوا من أصحاب النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فشهد الخليل عليه السلام أن من لم يهده الله تعالى ضل وصح أن من ضل فلم يهده الله عز وجل ومن لم يهده الله وهو قادر على هداه فقد أراد ضلاله وإضلاله ولم يرد هداه وقال تعالى: " ولو شاء الله ما أشركوا " فصح يقيناً لا إشكال فيه ان الله تعالى شاء أن يشركوا إذ نص على أنه لو شاء أن لا يشركوا ما أشركوا وقال تعالى: " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه " وهذا نص على انه تعالى شاء أن يفعلوه إذ أخبر أنه لو شاء أن لا يفعلوه ما فعلوه وقال تعالى: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فنص تعالى على أنه لو لم يشاء أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ما أوحوه ولو شاء أن لا يلبس بعضهم دين بعض وأن لا يقتلوا أولا دهم ما لبس عليهم دينهم ولا قتلوا أولا دهم فصح ضرورة أنه تعالى شاء أن يلبس دين من التبس دينه وأراد كون قتلهم أولادهم وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وقال تعالى: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " فصح يقيناً أنه تعالى سلط أيدي الكفار على من قتلوه من الأنبياء والصالحين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء فنص على أنه يريد هدى قوم فيهديهم ويشرح صدورهم للإيمان ويريد ضلال آخرين فيضلهم بأن يضيق صدورهم ويحرجها فكأنما كلفوا الصعود إلى السماء فيكفروا وقال تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " فنص تعالى على أن من صبر فصبره ليس إلا بالله فصح أن من صبر فإن الله أتاه الصبر ومن لم يصبر فإن الله عز وجل لم يؤته الصبر وقال تعالى: " ولا تنازعوا " فنهانا عن الاختلاف وقال تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " فنص تعالى أنه خلقهم للاختلاف إلا من رحم الله منهم ولو شاء لم يختلفوا فصح يقيناً أن الله خلقهم لما نهاهم عنه من الاختلاف وأراد كون الاختلاف منهم وقال عز وجل: " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " وقال تعالى: " بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا " إلى قوله تعالى وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة فنص تعالى على أنه أغرى الكفار وسلب المؤمنين في الملك وأنه بعث أولئك الذين دخلوا المسجد ودخلوه مسخط لله تعالى بلا شك فصح يقيناً أنه تعالى خلق كل ذلك و أراد كونه وقال عز وجل: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك " فهذا نص جلي على ان الله أتى الملك ذلك الكافر فصح يقيناً أن الله تعالى فعل تمليكه وملكه على أهل الإيمان ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك يسخط الله عز وجل ويغضبه ولا يرضاه وهو نفس الذي أنكرته المعتزلة وشنعت به.
قال أبو محمد: ونسألهم عما مضت الدنيا عليه منذ كانت من أولها إلى يومنا هذا من النصر النازل على ملوك أهل الشرك والملوك الجورة والظلم والغلبة المعطاة لهم على من ناوأهم من أهل الإسلام وأهل الفضل واحترام من أرادهم بالموت أو باضطراب الكلمة ويأت النصر لهم بوجوه الظفر الذي لا شك في أن الله تعالى فاعله من أماته أعدائهم من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى فاعله من أماته من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى أراد كونه وقال عز وجل: " ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً على أنه كره أن يخرجوا في الجهاد الذي افترض عليهم الخروج فيه مع رسول الله ﷺ فقد كره تعالى كون ما أراد ونص على أنه ثبطهم عن الخروج في الجهاد ثم عذبهم على التثبيط الذي أخبر تعالى أنه فعله ونص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا يقين ليس بأمر إلزام لأن الله تعالى لم يأمرهم بالقعود عن الجهاد مع رسوله ﷺ بل لعنهم وسخط عليهم إذ قعدوا فإذ لا شك في هذا فهو ضرورة أمر تكوين فصح ان الله تعالى خلق قعودهم المغضب له الموجب لسخطه وإذا نص تعالى على أمر فلا اعتراض لأحد عليه وقال عز وجل: " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " وهذا نص جلي على أنه عز وجل أراد أن يموتوا وهم كافرون وأنه تعالى أراد كفرهم والقاف من تزهق مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء معطوفة على ما أراد الله عز وجل من أن يعذبهم بها في الدنيا والواو تدخل المعطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى.
قال أبو محمد: فإن قال قائل فإن الله عز وجل قال في الذين قعدوا عن الخروج مع رسول الله ﷺ: " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم " فلهذا ثبطهم قلنا لا عليكم أكانوا مأمورين بالخروج معه عليه السلام متوعدين بالنار إن قعدوا لغير عذر أم كانوا غير مأمورين بذلك فإذ لا شك في أنهم كانوا مأمورين فقد ثبطهم الله عز وجل عما أمرهم به وعذبهم على ذلك وخلق قعودهم عما أمرهم به ثم نقول لهم أكان تعالى قادراً على ان يكف عن أهل الإسلام خبالهم وفتنتهم لو خرجوا معهم أم لا فإن قالوا لم يكن قادراً على ذلك عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا أنه تعالى كان قادراً على ذلك رجعوا إلى الحق وأقروا أن الله تعالى ثبطهم وكره كون ما افترض عليهم وخلق قعودهم الذي عذبهم عليه ولامهم عليه كما شاء لا معقب لحكمه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فإذ جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلاً بأنه عز وجل أراد ضلال من ضل وشاء كفر من كفر فقد علمنا ضرورة أن كلام الله تعالى لا يتعارض فلما اخبر عز وجل أنه لا يرضى لعباده الكفر فبالضرورة علمنا أن الذي نفا عز وجل هو غير الذي اثبت فإذ لا شك في ذلك فالذي نفى تعالى هو الرضى بالكفر والذي أثبت هو الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة فإن أبت المعتزلة من قبول كلام ربهم وكلام نبيهم ﷺ وكلام إبراهيم ويوسف وشعيب وسائر الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وأبت أيضاً من قبول اللغة وما أوجبته البراهين الضرورية مما شهدت به الحواس والعقول من الله تعالى لو لم يرد كون ما هو موجود كائن لمنع منه وقد قال تعالى " الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين " فشهد الله تعالى بتكذيبهم واستعاضته من ذلك بأصول المنانية أن الحكيم لا يريد كون الظلم ولا يخلقه فلبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولقد لجأ بعضهم إلى أن قال أن الله تعالى في هذه الآيات معنى ومراداً لا نعلمه.
قال أبو محمد: وهذا تجاهل ظاهر وراجع لنا عليهم سواء بسواء في خلق الله تعالى أفعال عباده ثم يعذبهم عليها ولا فرق فكيف وهذا كله لا معنى له بل الآيات كلها حق على ظاهرها لا يحل صرفها عنه لأن الله تعالى قال: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " وقال تعالى: " قرآناً عربياً " وقال تعالى: " تبياناً لكل شيء " وقال تعالى: " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " فأخبر تعالى أن القرآن تبيان لكل شيء فقالت المعتزلة أنه لا يفهمه أحد وأنه ليس بياناً نعوذ بالله من مخالفة الله عز وجل ومخالفة رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: ولا فرق بين ما تلونا من الآيات في أن الله تعالى شاء كون الكفر والضلال وبين قوله تعالى " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير " وقوله تعالى: " إن الله يفعل ما يشاء " وقال تعالى: " يجتبي من رسله من يشاء " وقوله: " يرزق من يشاء " وقوله تعالى: " يختص برحمته من يشاء " وقوله تعالى: " فعال لما يريد " فهذا العموم جامع المعاني هذه الآيات ونص القرآن وإجماع الأمة على ان الله عز وجل حكم بأن من حلف فقال إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله على أي شيء حلف فإنه إن فعل ما حلف عليه أن لا يفعله فلا حنث عليه ولا كفارة تلزمه لأن الله تعالى لو شاء لأنفذه وقال عز وجل: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ".
قال أبو محمد: فإن اعترضوا بقول الله عز وجل وقالوا: " لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون " فلا حجة لهم في هذه الآية لأن الله عز وجل لا يتناقض كلامه بل يصدق بعضهم بعضاً وقد أخبر تعالى أنه لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وأنه لو لم يشاء أن يشركوا ما أشركوا وأنه شاء إضلالهم وأنه لا يريد أن يطهر قلوبهم فمن المحال الممتنع أن يكذب الله عز وجل قوله الذي أخبر به وصدقه فإذ لا شك في هذا فإن في الآية التي ذكروا بيان نقض اعتراضهم بها بأوضح برهان وهو أنه لم يقل تعالى أنهم كذبوا في قولهم: " لو شاء الرحمن ما عبدناهم " فكان يكون لهم حينئذ في الآية متعلق وإنما أخبر تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم عندهم لكن تخرصاً ليس في هذه الآية معنى غير هذا أصلاً وهذا حق وهو قولنا أن الله تعالى لم ينكر قط فيها ولا في غيرها معنى قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم بل صدقه في الآيات الأخر وإنما أنكر عز وجل أن قالوا ذلك بغير علم لكن بالتخرص وقد أكذب الله عز وجل من قال الحق الذي لا حق أحق منه إذ قاله غير معتقد له قال عز وجل: " إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ".
قال أبو محمد: فلما قالوا أصدق الكلام وهو الشهادة لمحمد ﷺ بأنه رسول غير معتقدين لذلك سماهم الله تعالى كاذبين وهكذا فعل عز وجل في قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم قالوا هذا الكلام الذي هو الحق غير عالمين بصحته أنكر تعالى عليهم أن يقولوه متخرصين وبرهان هذا قول الله تعالى أثر هذه الآية نفسها: " أم أتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون " " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون " فبين تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم من كتاب أتاهم وأن الذين قالوا معتقدين له إنما هو أنهم اهتدوا باتباع آثار آبائهم فهذا هو الذي عقدوا عليه وهذا أنكر تعالى عليهم لا قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلاً والحمد لله رب العالمين فإن اعترضوا بقول الله عز وجل: " وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ".
قال أبو محمد: فإن سكتوا ها هنا لم يهنهم التمويه وقلنا لهم صلوا القراءة وأتموا معنى الآية فإن بعد قوله تعالى: " فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " متصلاً به: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ".
قال أبو محمد: فآخر هذه الآية يبين أولها وذلك أن الله تعالى أيضاً لم يكذبهم فيما قالوه من ذلك بل حكى عز وجل انهم قالوا: " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء " ولم يكذبهم في ذلك أصلاً بل حكى هذا القول عنهم كما حكى تعالى أيضاً قولهم: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " ولو أنكر عز وجل قولهم ذلك لأكذبهم فإذ لم يكذبهم فلقد صدقهم في ذلك والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإن اعترضوا بقول الله عز وجل: " سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ".
قال أبو محمد: إنما تلونا جميع الآيات على نسقها في القرآن واتصالها خوف أن يعترضوا بالآية ويسكتوا عند قوله يخرصون فكثيراً ما احتجنا إلى بيان مثل هذا من الاقتصار على بعض الآية دون بعضها من تمويه من لا يتقي الله عز وجل.
قال أبو محمد: وهذه الآية من أعظم حجة على القدرية لأنه تعالى لم ينكر عليهم قولهم: " ولو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء " ولو أنكره لكذبهم فيه وإنما أنكر تعالى قولهم ذلك بغير علم وإن وافقوا الصدق والحق كما قدمنا آنفاً وقد بين تعالى أنه إنما أنكر عليهم ذلك بقوله عز وجل في الآية نفسها " إن تتبعون إلا الظن وإن انتم إلا تخرصون " ثم لم يدعنا تعالى في لبس من ذلك بل واتبع ذلك نسقاً واحداً بأن قال: " فلله الحجة البالغة فلو شاء لهديكم أجمعين " فصدقهم عز وجل في قولهم إنه لو شاء ما أشركوا ولا آباؤهم ولا حرموا ما حرموا وأخبر تعالى أنه لو شاء لهداهم فاهتدوا وبين تعالى أن له الحجة عليهم في ذلك ولا حجة لأحد عليه تعالى وأنكر عز وجل أن اخرجوا ذلك فخرج العذر لأنفسهم أو فخرج الاحتجاج على الرسل عليهم السلام كما تفعل المعتزلة ثم بين تعالى أنه إنما أنكر أيضاً تكذيبهم رسله بقوله تعالى: " كذلك كذب الذين من قبلهم " بالذال المشددة بلا خلاف من القراء ودعواهم أن الله تعالى حرم ما ادعوا تحريمه وهم كاذبون بقوله تعالى: " قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا " فوضح بكل ما ذكرنا بطلان قول المعتزلة الجهال وبأن صحة قولنا أن الله تعالى شاء كون كل ما في العالم من إيمان وشرك وهدى وضلال وإن الله تعالى أراد كون ذلك كله وكيف يمكن أن ينكر تعالى قولهم لو شاء الله ما أشركنا وقد أخبرنا عز وجل بهذا نصاً في قوله في السورة نفسها: " اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو واعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا " فلا ح يقيناً صدق ما قلنا من انه تعالى لم يكذبهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وهذا مثل ما ذكر الله تعالى من قولهم: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " فلم يورد الله عز وجل قولهم هذا تكذيباً بل صدقوا في ذلك بلا شك ولو شاء الله لأطعم الفقراء والمجاويع وما أرى المعتزلة تنكر هذا وإنما أورد الله تعالى قولهم هذا لاحتجاجهم به في الامتناع من الصدقة وإطعام الجائع وبهذا نفسه احتجت المعتزلة على ربها إذ قالت يكلفنا ما لا يقدرنا عليه ثم يعذبنا بعد ذلك على ما أراد كونه منا فسلكوا مسلك القائلين لم كلفنا الله عز وجل إطعام هذا الجائع ولو أراد إطعامه لأطعمه.
قال أبو محمد: تباً لمن عارض أمر ربه تعالى واحتج عليه بل لله الحجة البالغة ولو شاء لأطعم من ألزمنا إطعامه ولو شاء لهدى الكافرين فآمنوا ولكنه تعالى لم يرد ذلك بل أراد أن يعذب من لا يطعم المسكين ومن أضله من الكافرين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وحسبنا الله ونعم الوكيل وقالت المعتزلة معنى قوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض " وسائر الآيات التي تلوتهم إنما هو لو شاء عز وجل لاضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين فكانوا لا يستحقون الجزاء بالجنة.
قال أبو محمد: وهذا تأويل جمعوا فيه بلايا جمة أولها أنه قول بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو ساقط ويقال لهم ما صفة الإيمان الضروري الذي لا يستحق عليه الثواب عندكم وما صفة الإيمان غير الضروري الذي يستحق به الثواب عندكم فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً إلا أن يقولوا هو مثل ما قال الله عز وجل إذ يقول تعالى: " يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا " ومثل قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون " ومثل حالة المحتضر عند المعاينة التي لا يقبل فيها إيمانه وكما قيل لفرعون: " الآن وقد عصيت قبل ".
قال أبو محمد: فيقال لهم كل هذه الآيات حق وقد شاهدت الملائكة تلك الآيات وتلك الأحوال ولم يبطل بذلك قبول إيمانهم فهلا على أصولكم صار إيمانهم إيمان اضطرار لا يستحقون عليه جزاء في الجنة أما صار جزاؤهم عليه أفضل من جزاء كل مؤمن دونهم وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً ثم نقول لهم أخبرونا عن إيمان المؤمنين إذ صح عندهم صدق النبي بمشاهدة المعجزات من شق القمر وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير ونبعان الماء الغزير من بين الأصابع وشق البحر وإحياء الموتى وأوضح كل ذلك بنقل التواتر الذي به صح ما كان قبلنا من الوقائع والملوك وغير ذلك مما يصير فيه من بلغه كمن شاهده ولا فرق في صحة اليقين لكونهم هل إيمانهم إلا إيمان يقين قد صح عندهم وأنه حق ولم يتخالجهم فيه شك فإن علمهم به كعلمهم أن ثلاثة أكثر من اثنين وكعلمهم ما شاهدوه بحواسهم في أنه كله حق وعلموه ضرورة أم إيمانهم ذلك ليس يقيناً مقطعوعاً بصحة ما آمنوا به عنده كقطعهم على صحة ما علموه بحواسهم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا بل هو الآن يقين قد صح علمهم بأنه حق لا مدخل للشك فيه عندهم كتيقنهم صحة ما علموه بمشاهدة حواسهم قلنا لهم نعم هذا هو الإيمان الاضطراري بعينه وإلا ففرقوا وهذا الذي موهتم بأنه لا يستحق عليه من الجزاء كالذي يستحق على غيره وبكل تمويهكم بحمد الله تعالى إذ قلتم ان معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إنه كان يضطرهم إلى الإيمان فإن قالوا بل ليس إيمان المؤمنين هكذا ولا علمهم بصحة التوحيد والنبوة على يقين وضرورة قيل لهم قد أوجبتم أن المؤمنين على شك في إيمانهم وعلى عدم يقين في اعتقادهم وليس هذا إيماناً بل كفر مجرد ممن كان دينه هكذا فإن كان هذا صفة إيمان المعتزلة فهم أعلم بأنفسهم وأما نحن فإيمانناولله الحمد إيمان ضروري لا مدخل للشك فيه كعلمنا أن ثلاثة أكبر من اثنين وأن كل بناء فمبني وكل من أتى بمعجزة فمحق في نبوته ولا نبالي إن كان ابتداء علمنا استدلالاً أم مدركاً بالحواس إذ كانت نتيجة كل ذلك سواء في تيقن صحة الشيء المعتقد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم عن الذين يرون بعض آيات ربنا يوم لا ينفع نفساً إيمانها أكان الله تعالى قادراً على أن ينفعهم بذلك الإيمان ويجزيهم عليه جزاءه لسائر المؤمنين أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا بل هو قادر على ذلك رجعوا إلى الحق والتسليم لله عز وجل وأنه تعالى منع من شاء وأعطى من شاء وأنه تعالى أبطل إيمان بعض من آمن عند رؤية آية من آياته ولم يبطل إيمان من آمن عند رؤية آية أخرى وكلها سواء في باب الإعجاز وهذا هو المحاباة المحضة والجور البين عند المعتزلة فإن عجزوا ربهم تعالى عن ذلك أحالوا وكفروا وجعلوه تعالى مضطراً مطبوعاً محكوماً عليه تعالى الله عن ذلك.
قال أبو محمد: وقد قال عز وجل: " فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ " فهؤلاء قوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فقبل الله عز وجل إيمانهم وآمن فرعون وسائر الأمم المعذبة لما رأوا العذاب فلم يقبل الله عز وجل منهم ففعل الله تعالى ما شاء لا معقب لحكمه فظهر فساد قولهم في أن الإيمان الاضطراري لا يستحق عليه جزاء جملة وصح أن الله تعالى يقبل إيمان من شاء ولا يقبل إيمان من شاء ولا مزيد ثم يقال لهم وبالله تعالى التوفيق هبكم لو صح لكم هذا الباطل الغث الذي هديتم به من أن معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى إنما هو لاضطرهم إلى الإيمان فأخبرونا لو كان ذلك فأي ضرر كان يكون في ذلك على الناس والجن بل كان يكون في ذلك الخير كله وماذا ضر الأطفال إذ لم يكن لهم إيمان اختياري كما تزعمون وقد حصلوا على أفضل المواهب من السلامة من النار بالجملة ومن هول المطلع وصعوبة الحساب وفظاعة تلك المواقف كلها ودخل الجنة جميعهم بسلام آمنين منعمين لم يروا فزعاً رآه غيرهم وأيضاً فإن دعواهم هذه التي كذبوا فيها على الله عز وجل إذ وصفوا عن مراد الله تعالى ما لم يقله تعالى فقد خالفوا فيها القرآن واللغة لأن اسم الهدى والإيمان لا يقعان البتة على معنى غير المعنى المعهود في القرآن واللغة وهما طاعات الله عز وجل والعمل بها والقول بها والتصديق بجميعها الموجب كل ذلك بنص القرآن رضي الله عز وجل وجنته ولا يسمى الجماد والحيوان غير الناطق ولا المجنون ولا الطفل مؤمناً ولا مهتدياً إلا على معنى جرى أحكام الإيمان على المجنون والطفل خاصة وبرهان ما قلنا قول الله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فصح أن الهدى الذي لو أراد الله تعالى جمع الناس عليه وهو المنقذ من النار والذي لا يملأ جهنم من أهله وكذلك قوله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فصح أن الإيمان جملة شيء واحد هو المنقذ من النار الموجب للجنة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول: " مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا " ويقول: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " ويقول تعالى: " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " فهذه الآيات مبنية أن الهدى المذكور هو الاختياري عند المعتزلة لأنه تعالى يقول لنبيه ﷺ: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " وقال تعالى: " لا إكراه في الدين " فصح يقيناً أن الله تعالى لم يرد قط بقوله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إيماناً فيه إكراه فبطل هذرهم والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لنا فإذا أراد الله تعالى كون الكفر والضلال فأريدوا ما أراد الله تعالى من ذلك قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق ليس لنا أن نفعل ما لم نؤمر به ولا يحل لنا أن نريد ما لم يأمرنا الله تعالى بإرادته وإنما علينا ما أمرنا به فنكره ما أمرنا بكراهيته ونحب ما أمرنا بمحبته ونريد ما أمرنا بإرادته ثم نسألهم هل أراد الله تعالى إمراض النبي ﷺ إذ أمرضه وموته ﷺ إذ أماته وموت إبراهيم ابنه إذ أماته أولم يرد الله تعالى شيئاً من ذلك فلا بد من أن الله تعالى أراد كون كل ذلك فيلزم أن يريدوا موت النبي ﷺ ومرضه وموت ابنه إبراهيم لأن الله تعالى أراد كل ذلك فإن أجابوا إلى ذلك ألحدوا بلا خلاف وعصوا الله ورسوله وإن أبوا من ذلك بطل ما أرادوا إلزامنا إياه إلا أنه لازم لهم على أصولهم الفاسدة لا لنا لأنهم صححوا هذه المسألة ونحن لم نصححها ومن صحح شيئاً لزمه ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق لسنا ننكر في حال ما يباح لنا فيه إرادة الكفر من بعض الناس فقد أثنى الله عز وجل على ابن آدم في قوله لأخيه: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " فهذا ابن آدم الفاضل فقد أراد أن يكون أخوه من أصحاب النار وأن يبوء بإثمه مع إثم نفسه وقد صوب الله عز وجل قول موسى وهارون عليهما السلام: " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما " فهذا موسى وهارون عليهما السلام قد أرادا وأحبا أن لا يؤمن فرعون وأن يموت كافراً إلى النار وقد جاء عن رسول الله ﷺ إنه دعا على عتبة بن أبي وقاص أن يموت كافراً إلى النار فكان كذلك.
قال أبو محمد: وأصدق الله عز وجل أنا عن نفسي التي هو أعلم بما فيها مني أن الله تعالى يعلم أني لأسر بموت عقبة بن أبي معيط كافراً وكذلك أمر أبي لهب لأذاهما رسول الله ﷺ ولتتم كلمة العذاب عليهما وأن المرء ليسر بموت من استبلغ في أذاه ظلماً بأن يموت على أقبح طريقة وقد روينا هذا عن بعض الصالحين في بعض الظلمة ولا حرج على من ائتسى بمحمد وبموسى وبأفضل ابني آدم ﷺ وليت شعري أي فرق بين لعن الكافر والظالم والدعاء عليه بالعذاب في النار وبين الدعاء عليه بأن يموت غير متوب عليه والمسرة بكلا الأمرين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال عز وجل: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " وقال تعالى: " وما النصر إلا من عند الله " وقال تعالى: " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم " وقال تعالى: " هو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " فصح يقيناً أن الله تعالى سلط الكفار على من سلطهم عليهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة ويوم أحد ونصرهم إملاء لهم وابتلاء للمؤمنين وإلا فيقال لمن أنكر هذا أتراه تعالى كان عاجزاً عن منعهم فإن قالوا نعم كفروا وناقضوا لأن الله تعالى قد نص على أنه كف أيدي الكفار عن المؤمنين إذ شاء وسلط أيديهم على المؤمنين ولم يكفها إذ شاء.
قال أبو محمد: وقال بعض شيوخ المعتزلة أن إسلام الله تعالى من أسلم من الأنبياء إلى أعدائه فقتلوهم وجرحوهم وإسلام من أسلم من الصبيان إلى أعدائه يحضونهم ويغلبونهم على أنفسهم بركوب الفاحشة إذا كان ليعوضهم أفضل الثواب فليس خذلاناً فقلنا دعونا من لفظة الخذلان فلسنا نجيزها لأن الله تعالى لم يذكرها في هذا الباب لكنا نقول لكم إذا كان قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم ما يكون من الكفر وكان الله عز وجل بقولكم قد أسلم أنبياؤه صلوات الله عليهم إلى أعدائه ليعوضهم أجل عوض فقد أقررتم بزعمكم أن الله عز وجل أراد إسلامهم إلى أعدائهم وإذا أراد الله عز وجل ذلك بإقراركم فقد أراد بإقراركم كون أعظم ما يكون من الكفر وشاء وقوع أعظم الضلال ورضي ذلك لأنبيائه عليهم السلام على الوجه الذي تقولونه كائناً ما كان وهذا لا مخلص لهم منه وأيضاً فنقول لهذا القائل إذا كان إسلام الأنبياء إلى أعداء الله عز وجل يقتلونهم ليس ظلماً أو عبثاً على توجيهكم المناقض لأصولكم في أنه أدى إلى أجزل الجزاء فليس خذلاناً وكذلك إسلام المسلم إلى عدوه يحضه ويرتكب فيه الفاحشة فهو على أصولكم خير وعدل فيلزمكم أن تتمنوا ذلك وأن تسروا بما نيل من الأنبياء عليهم السلام في ذلك وأن تدعوا فيه إلى الله تعالى وهذا خلاف قولكم وخلاف إجماع أهل الإسلام وهذا لا مخلص لهم منه ولا يلزمنا نحن ذلك لأننا لا نسر إلا بما أمرنا الله تعالى بالسرور به ولا نتمنى إلا ما قد أباح لنا تعالى أن ندعوه فيه وكل فعله عز وجل وإن كان عدلاً منه وخيراً فقد افترض تعالى علينا أن ننكر من ذلك ما سماه من غيره ظلماً وأن نبرأ منه ولا نتمناه لمسلم فإنما نتبع ما جاءت به النصوص فقط وبالله تعالى التوفيق وقال قائل من المعتزلة إذا حملتم قول تعالى: " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " فما يدريكم لعله عليكم عمى.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى قد نص على انه لا يكون عمى إلا على الذين لا يؤمنون ونحن مؤمنون ولله تعالى الحمد فقد أمنا ذلك وقد ذم الله تعالى قوماً حملوا القرآن على غير ظاهره فقال تعالى: " يحرفون الكلم عن مواضعه " فهذه صفتكم على الحقيقة الموجودة فيكم حساً فمن حمل القرآن على ما خوطب به من اللغة العربية واتبع بيان الرسول ﷺ فالقرآن له هدى وشفاء ومن بدل كلنه عن مواضعه وادعى فيه دعاوى برأيه وكهانات بطنه وأسراراً وأعرض عن بيان الرسول ﷺ المبين عن الله تعالى بأمره ومال إلى قول المنانية فهو الذي عليه القرآن عمى وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومن نوادر المعتزلة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أنهم قالوا أن الشهادة التي غبط الله تعالى بها الشهداء وأوجب لهم بها أفضل الجزاء وتمناها رسول الله ﷺ وأصحابه وفضلاء المسلمين ليس هي قتل الكافر للمؤمن ولا قتل الظالم للمسلم البريء. قال أبو محمد: وجنون المعتزلة وجهلهم و إهذارهم ووساوسهم لا قياس عليها وحق لمن استغنى عن الله عز وجل وقال أنه يقدر على ما لا يقدر عليه ربه تعالى وقال أن عقله كعقول الأنبياء عليهم السلام سواء بسواء أن يخذله الله عز وجل مثل هذا الخذلان نعوذ بالله من خذلانه ونسأله العصمة فلا عاصم سواء أما سمعوا قول الله عز وجل: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً " وقوله تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ثم إنهم فسروا الشهادة بعقولهم فقالوا إنما الشهادة الصبر على الجراح المؤدي إلى القتل والعزم على التقدم إلى الحرب.
قال أبو محمد: وفي هذا الكلام من الجنون ثلاثة أضرب أحدها أنه كلام مبتدع لم يقبله أحد قبل متأخريهم المنسلخين من الخير جملة والثاني أنه لو وضح ما ذكروا لكانت الشهادة في الحياة لا بالموت لأن الصبر على الجراح والعزم على التقدم لا يكونان إلا في الحياة والشهادة في سبيل الله لا تكون بنص القرآن وصحيح الأخبار وإجماع الأمة إلا بالقتل والثالث أن الذي منه هربوا فيه وقعوا بعينيه وهو أن الشهادة التي تمنى المسلمون بها أن كانت العزم على التقدم إلى الحرب والصبر على الجراح المؤدية إلى القتل فقد حصل تمني قتل الكفار للمسلمين وتمني أن يجرحوا المسلمين جراحاً تؤدي إلى القتل وتمني ثبات الكفار على الكفر حتى يجرحوا أهل الإسلام جراحاً قاتلة وحرب الكفار للمسلمين للمسلمين وثباتهم لهم وجراحهم إياهم معاص وكفر بلا شك فقد حصلوا على تمني المعاصي وهو الذي به شنعوا وبالله تعالى التوفيق فبطل كل ما شنعت به المعتزلة والحمد لله رب العالمين كثيراً.
قال أبو محمد: وضل جمهور المعتزلة في فصل من القدر ضلالاً بعيداً فقالوا بأجمعهم حاشا ضرار بن عمرو وحفصاً الفرد وبشر بن المعتمر ويسيراً ممن اتبعهم أنه ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه جميع الناس كافرهم ومؤمنهم ولا عنده هدي أهدى مما قد هدى به الكافر والمؤمن هداً مستويا وأنه ليس يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بالكفار والمؤمنين ثم اختلف هؤلاء فقال جمهورهم أنه تعالى قادر على أمثال ما فعل من الصلاح بلا نهاية وقال الأقل منهم وهم عباد ومن وافقه هذا باطل لأنه لا يجوز أن يترك الله تعالى شيئاً يقدر عليه من الصلاح من أجل فعله لصلاح ما وحجتهم في هذا الكفر الذي أتوا به أنه لو كان عنده أصلح أو أفضل مما فعل بالناس ومنعهم إياه لكان بخيلاً ظالماً لهم ولو أعطى شيئاً من فضله بعض الناس دون بعض لكان محابياً ظالماً والمحاباة جور ولو كان عنده ما يؤمن به الكفار إذاً أعطاهم إياه ثم منعهم إياه لكان ظالماً لهم غاية الظلم قالوا وقد علمنا أن إنساناً لو ملك أموالاً عظيمة تفضل عنه ولا يحتاج إليها فقصده جار فقير له تحل له الصدقة فسأله درهماً يحيي به نفسه وهو يعلم فقره إليه ويعلم أنه يتدارك به رمقه فمنعه لا لمعنى فإنه بخيل قالوا فلو علم أنه إذا أعطاه الدرهم سهلت عليه أفعال كلفه إياها فمنعه من ذلك لكان بخيلاً ظالماً فلو علم أنه لا يصل إلى ما كلفه إلا بذلك الدرهم فمنعه لكان بخيلاً ظالماً سفيهاً فهذا كل ما احتجوا به لا حجة لهم غير هذه البتة وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد وبشر بن المعتمر ومن وافقهم وهم قليل منهم إلى أن عند الله عز وجل ألطافاً كثيرة لا نهاية لها لو أعطاها الكفار لآمنوا إيماناً اختياريا يستحقون به الثواب بالجنة وقد أشار إلى نحو هذا ولم يحققه أبو علي الجباي وابنه أبو هاشم وكان بشر بن المعتمر يكفر من قال بالأصلح والمعتزلة اليوم تدعي أن بشراً تاب عن القول باللطف ورجع إلى القول بالأصلح.
قال أبو محمد: وحجة هؤلاء أنه تعالى قد فعل بهم ما يؤمنون عنده لو شاؤوا فليس لهم عليه غير ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك فعارضهم أصحاب الأصلح بأن قالوا أن الاختيار هو ما يمكن فعله ويمكن تركه فلو كان الكفار عند إتيان الله تعالى بتلك الألطاف يختارون الإيمان لأمكن أن يفعلوه وأن لا يفعلوه أيضاً فعادت الحال إلى ما هي عليه إلا أن يقولوا أنهم كانوا يؤمنون ولا بد فهذا اضطرار من الله تعالى لهم إلى الإيمان لا اختيار قالوا ونحن لا ننكر هذا بل الله تعالى قادر على أن يضطرهم إلى الإيمان كما قال تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " قالوا فالذي فعل الله تعالى بهم أفضل وأصلح.
قال أبو محمد: هذا لازم لمن لم يقل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لزوماً لا ينفكون عنه وأما نحن فلا يلزمنا وإنما سألناهم هل الله تعالى قادر على أن يأتي الكفار بألطاف يكون منهم قال أبو محمد: كأن أصحاب الأصلح غيب عن هذا العالم أو كأنهم إذا حضروا فيه سلبت عقولهم وطمست حواسهم وصدق الله فقد نبه على مثل هذا إذ يقول تعالى: " وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ " أترى هؤلاء القوم ما شاهدوا أن الله عز وجل منع الأموال قوماً وأعطاها آخرين ونبأ قوماً وأرسلهم إلى عباده وخلق قوماً آخرين في أقاصي أرض الزنج يعبدون الأوثان وأمات قوماً من أوليائه ومن أعدائه عطشاً وعنده مجادح السماوات وسقى آخرين الماء العذب أما هذه محاباة ظاهرة فإن قالوا أن كل ما فعل من ذلك فهو أصلح بمن فعله به سألناهم عن إماتته تعالى الكفار وهم يصيرون إلى النار وإعطائه تعالى قوماً مالاً ورياسة فبطروا وهلكوا وكانوا مع القلة والخمول صالحين وأفقر أقواماً فسرقوا وقتلوا وكانوا في حال الغنى صالحين وأصح أقواماً وجمل صورهم فكان ذلك سبباً لكون المعاصي منهم وتركوها إذ أسنوا وأمرض أقواماً فتركوا الصلاة عمداً وضجروا وثربوا وتكلموا بما هو الكفر أو قريب منه وكانوا في صحتهم شاكرين لله يصلون ويصومون أهذا الذي فعل الله بهم كان أصلح لهم فإن قالوا نعم كابروا المحسوس وإن قالوا لو عاشوا لزادوا قلنا لهم فإنما كان أصلح لهم أن يخترمهم الله عز وجل قبل البلوغ أو يطيل أعمارهم في الكفر ويملكهم الجيوش فيهلك بها أرض الإسلام ويقوي أجسادهم وأذهانهم فيضل بهم جماعة كما فعل لسعيد الفيومي اليهودي وأباريطا اليعقوبي النصراني والمتحققين بالكلام من اليهودي والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية أما كان أصلح لهم ولمن ضل منهم أن يميتهم صغاراً.
قال أبو محمد: فانقطعوا فلجأ بعضهم إلى أن قال لعله قد سبق في علم الله تعالى أنه لو أماتهم صغاراً لكفر خلق من المؤمنين.
قال أبو محمد: وفي هذا الجواب من السخافة وجوه جمة أولها أنه دعوى بالدليل والثاني أنهم لا ينفكون به مما ألزمناهم ونقول لهم كان الله عز وجل قادراً على أن يميتهم ولا يوجب موتهم كفر أحد فإن قالوا لا عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا بل كان قادراً على ذلك ألزموه الجور والظلم على أصولهم ولا بد من أحد الأمرين والثالث أنه ما يسمع في العالم بأسخف من قول من قال أن إنساناً مؤمناً يكفر من أجل صغير مات فهذا أمر ما شوهد قط في العالم ولا توهم ولا يدخل في الإمكان ولا في العقل وكم طفل يموت كل يوم منذ خلق الله تعالى الدنيا إلى يوم القيامة فهل كفر أحد قط من أجل موت ذلك الطفل وإنما عهدنا الناس يكفرون عندما يقع لهم من الغضب الذي يخلقه الله عز وجل في طبائعهم وبالعصبية التي آتاهم الله عز وجل أسبابها وبالملك الذي أتاهم الله إياه إذا عارضهم فيه عارض والرابع أنه ليس في الجور ولا في العبث ولا في الظلم ولا في المحاباة أعظم من أن يبقي طفلاً حتى يكفر فيستحق الخلود في النار ولا يميته طفلاً فينجو من النار من أجل صلاح قوم لولا كفر هذا المنحوس لكفر أولئك وما في الظلم والمحاباة أقبح من هذا وهل هذا إلا كمن وقف إنساناً للقتل فأخذ هو آخر من عرض الطريق فقتله مكانه فظهر فساد هذا القول السخيف الملعون.
قال أبو محمد: وقال بعضهم قد يخرج من صلبه مؤمنون.
قال أبو محمد: وقد يموت الكافر عن غير عقب وقد يلد الكافر كفاراً أضر على الإسلام منه ومع هذا فكل ما ذكرنا يلزم أيضاً في هذا الجواب السخيف وأيضاً فقد يخرج من صلب المؤمن كافر طاغ وظالم باغ يفسد الحرث والنسل ويثير الظلم ويميت الحق ويؤسس القتالات والمنكرات حتى يضل بها خلق كثير حتى يظنوا أنها حق وسنة فأي وجه لخلق هؤلاء على أصول المعتزلة الضلال نعم وأي معنى وأي إصلاح في خلق إبليس ومردة الشياطين وإعطائهم القوة على إضلال الناس من الحكمة المعهودة بيننا وبالضرورة نعلم أن من نصب المصائد للناس في الطرقات وطرح الشوك في ممشاهم فإنه عائب سفيه فيما بيننا والله تعالى خلق كل ما ذكرنا بإقرارهم وهم الحكيم العليم ثم وجدناه تعالى قد شهد للذين بايعوا تحت الشجرة بأنه علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ثم أمات منهم من ولي منهم أمور المسلمين سريعاً ووهن قوي بعضهم وملك عليهم زياداً والحجاج وبغاة الخوارج فأي مصلحة في هذا للحجاج ولقطري أو لسائر المسلمين لو عقلت المعتزلة ولكن الحق هو قولنا وهو أن كل ذلك عدل من الله وحق وحكمة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج المسلط ولقطري ونظايرهما أراد الله تعالى بذلك هلاكهم في الآخرة ونعوذ بالله من الخذلان ثم نسألهم ماذا تقولون إذا أمر الله عز وجل بجلد الحرة في الزنا ماية جلدة ويجلد الأمة نصف ذلك أليس هذا محاباة للأمة وإذا خول الله عز وجل قوماً أموالاً جمة فعاثوا فيها وحرم آخرين أما هذا عين المحاباة والجور على أصلهم الفاسد فيمن منع جاره الفقير إلا أن يطردوا قولهم فيصير إلى قول من ذكر أن الواجب يواسي الناس في الأموال والنساء على السوا وبالجملة فإن القوم يدعون نفي التشبيه ويكفرون من شبه الله تعالى بخلقه ثم لا نعلم أحداً أشد تشبيهاً لله تعالى بخلقه منه فيلزمونه الحكم ويحرون عليه لأمر والنهي ويشبهونه بخلقه تعالى فيما يحسن منه ويقبح ثم نقضوا أصولهم إذ من قولهم أن ما صلح بيننا بوجه من الوجوه فلسنا نبعده عن الباري تعالى ونحن نجد فيما بيننا يحابي أحد عبيده على الآخر فيجعل أحدهم مشرفاً على ماله وعياله وحاضناً لولده ويرتضيه لذلك من صغره بأن يعلمه الكتاب والحساب ويجعل الآخر رائضاً لدابته وجامعاً للزبل لبستانه ومنقياً لحشه ويرتضيه لذلك من صغره وكذلك الإماء فيجعل إحداهن محل إزاره ومطلباً لولده ويجعل الثانية خادماً لهذه في الطبخ والغسل وهذا عدل بإجماع المسلمين كلهم فلم أنكروا أن يحابى الباري من شاء من عباده بما أحب من التفضيل ووجدوا في الشاهد من يعطي المحاويج من ماله فيعطي أحدهم ما يغنيه ويخرجه عن الفقر وذلك نحو ألف دينار ثم يعطي آخر مثله ألف دينار ويزيد هألف دينار فإنه وإن حابى فمحسن غير ملوم فلم منعوا ربهم من ذلك وجوروه إذا فعله وهو تعالى بلا شك أتم ملكاً لكل ما في العالم من أحدنا لما خوله عز وجل من الأملاك ونقضوا أصلهم في أن ما حسن في الشاهد بوجه من الوجوه لم يمنعوا وقوعه من الباري جل وعز ووجدوا في الشاهد من يدخر أموالاً عظيمة فيؤدي جميع الحقوق اللازمة له حتى لا يبقى بحضرته محتاج ثم يمنع سائر ذلك فلا يسمى بخيلاً فلأي شيء منعوا ربهم جل وعز من مثل ذلك وجوروه وبخلوه إذا لم يعط أفضل ما عنده وهذا كله بين لا إشكال فيه.
قال أبو محمد: ونسألهم عن قول لهم عجيب وهو أنهم أجازوا أن يخلق الله عز وجل أضعف الأشياء ثم لا يكون قادراً على أضعف منه فهكذا هو قادر فاعل أصلح الأشياء ثم لا يكون قادر على أصلح منه وعلى أصغر الأشياء وهو الجزء الذي لا يتجزأ ولا يقدر على أصغر منه.
قال أبو محمد: هذا إيجاب منهم لتناهي قدرة الله عز وجل وتعجيز له تعالى وإيجاب لحدوثه وإبطال إلاهيته إذ التناهي في القوة صفة المحدث المخلوق لا صفة الخالق الذي لم يزل وهذا خلاف القرآن وإجماع المسلمين وتشبيه الله تعالى بخلقه في تناهي قدرتهم. قال أبو محمد: ولكنه لازم لكل من قال بالجزء الذي لا يتجزأ وبالقياس لزوماً صحيحاً لا انفكاك لهم منه ونعوذ بالله من هذه المقالات المهلكة بل نقول أن الله تعالى كل ما خلق شيئاً صغيراً أو ضعيفاً أو كبيراً أو قوياً أو مصلحة فإنه أبداً بلا نهاية قادر على خلق أصغر منه وأضعف وأقوى وأصلح.
قال أبو محمد: ونسألهم أيقدر الله تعالى على ما لو فعله لكفر الناس كلهم فإن قالوا لا لحقوا بعلي الأسواري وهم لا يقولون بهذا ولو قالوه لأكذبهم الله تعالى إذ يقول: " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " وبقوله تعالى: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة " وإن قالوا نعم هو قادر على ذلك قلنا لهم فقد قطعتم بأنه تعالى يقدر على الشر ولا يقدر على الخير هذه مصيبة على أصولهم ولزمهم أيضاً فساد أصلهم في قولهم أن من قدر على شيء قدر على ضده لأنهم يقولون أن الله تعالى يقدر على ما يكفر الناس كلهم عنده ولا يقدر على مل يؤمن جميعهم عنده.
قال أبو محمد: ونسأل من قال منهم أنه تعالى يقدر على مثل ما فعل من الصلاح بلا نهاية لا على أكثر من ذلك فنقول لهم أن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الباري جل وعز لأن بضرورة الحس ندري إذا استضافت المصالح بعضها إلى بعض كانت أصلح من انفراد كل مصلحة على الأخرى فإذا هو قادر عندكم على ذلك ولم يفعله بعباده فقد لزمه ما ألزمتموه لو كان قادراً على أصلح مما فعل ولم يفعله فقالوا هذا كالدواء والطعام والشراب لكل ذلك مقدار يصلح به من أعطيه فإذا استضافت إليه أمثاله كان ضرراً قال علي رضي الله عنه ولم يقل قط ذو عقل ومعرفة بحقايق الأمور إن غفار كذا مصلحة جملة وعلى كل حال ولا أن الأكل مصلحة أبداً وعلى الجملة ولا أن الشراب مصلحة بكل وجه أبداً وإنما الحق أن مقداراً من الدواء مصلحة لعلة كذا فقط فإن زاد أو نقص أو تعدى به تلك لعلة كان ضرراً وكذلك الطعام والشراب هما مصلحة في حال ما وبقدر ما فما زاد أو تعدى به وقته كان ضرراً ليس إطلاق اسم الصلاح في شيء من ذلك أولى من إطلاق اسم الضرر لأن كلا الأمرين موجود في ذلك كما ذكرنا وليس الصلاح من الله عز وجل للعبد والهدى له والخير من قبله عز وجل كذلك بل على الإطلاق والجملة وعلى كل حال بل كلما زاد الصلاح وكثر الهدى وكبر وزاد الخير وكبر فهو أفضل فإن قالوا نجد الصلاة والصيام إثماً في وقت ما وأجراً في آخر قلنا ما كان من هذا منهياً عنه فليس صلاحاً البتة ولا هو هدى ولا خير بل هو إثم وخذلان وضلال وليس في هذا كلمنا كم لكن فيما هو صلاح حقيقة وهدى حقيقة وخير حقيقة وهذا ما لا مخلص منه.
قال أبو محمد: وقال أصحاب الأصلح منهم أن من علم الله تعالى أنه يؤمن من الأطفال إن عاش أو يسلم من الكفار إن عاش أو يتوب من الفساق إن عاش فإنه لا يجوز البتة أن يميته الله قبل ذلك قالوا وكذلك من علم الله تعالى أنه إن عاش فعل خيرا فلا يجوز البتة أن يميته الله قبل فعله قالوا ولا يميت الله تعالى أحداً إلا وهو يدري أنه إن أبقاه طرفة عين فما زاد فإنه لا شيئاً من الخير أصلاً بل يكفر أو يفسق ولا بد.
قال أبو محمد: وهذا من طوامهم التي جمعت الكفر والسحق ولم ينفكوا بها فما فروا عنه من تجوير الباري تعالى بزعمهم وأما الكفر فإنه يلزمهم أن إبراهيم بن رسول الله ﷺ لو بلغ لكفر أو فسق وليت شعري إذ هذا عندهم كما زعموا فلم أمات بعضهم أثر ولادته ثم آخر بعد ساعة ثم يوم ثم يومين وهكذا شهراً بعد شهر وعاماً بعد عام إلى أن أمات بعضهم قبل بلوغه بيسير وكلهم عندهم سواء في أنهم لو عاشوا لكفروا أو فسقوا كلهم وإذ عنى بهم هذه العناية فلم أبقى من الأطفال من درى أنه يكفر ويفسق نعم ويؤتيهم القوى والتدقيق في الفهم كالفيومي سعيد بن يوسف والمعمس داود بن قزوان وإبراهيم البغدادي وأبي كثير الطبراني متكلمي اليهود وأبي ربطه اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النصارى وقردان بخت المثاني حتى أضلوا كثيراً يشبههم وتمويهاتهم ومخارفتهم ولا سبيل إلى وجود فرق أصلاً وهذا محاباة وجور على أصولهم ثم نجده تعالى قد عذب بعض هؤلاء الأطفال باليتم والقمل والعرى والبرد والجوع وسوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حتى يموتوا كذلك وبعضهم مرفه مخدوم منعم حتى يموت كذلك ولعلهما لأب وأم وكذلك يلزمهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسائر الصحابة رضي الله عنهم نعم ومحمد ﷺ وموسى وعيسى وإبراهيم وسائر الرسل عليهم الصلوة والسلام أن كل واحد منهم لو عاش طرفة عين على الوقت الذي مات فيه لكفر أو فسق ولزمهم مثل هذا في جبريل وميكائيل وحملة العرش عليهم السلام إن كانوا يقولون بأنهم يموتون فإن تمادوا على هذا كفروا وقد صرح بعضهم بذلك جهارا وإن أبوا تناقضوا ولزمهم أن الله تعالى يميت من يدري أنه يزداد خيراً ويبقي من يدري أنه يكفر وهذا عندهم على أصولهم عين الظلم والعبث.
قال أبو محمد: وأجاب بعضهم في هذا السؤال بأن قال أن النبي ﷺ امتحنه الله عز وجل قبل موته بما بلغ ثوابه على طاعته فيه مبلغ ثوابه على كل طاعة تكون منه لو عاش إلى يوم القيامة.
قال أبو محمد: وهذا جنون ناهيك به لوجوده أولها أنه محاباة مجردة له عليه السلام على غيره وهلا فعل ذلك بغيره وعجل راحتهم من الدنيا ونكدها وثانيها أن هذا القول كذب بحت وذلك أن المحن في العالم معروفة وهي إما في الجسم بالعلل وأما في المال بالإتلاف وأمل في النفوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة والقطع دون الأمل لا محنة في العالم تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدين فقط نعوذ بالله من ذلك فأما المحنة في الجسم فكذبوا وما مات عليه السلام إلا سليم الأعضاء سويها معافى من مثل محنة أيوب عليه السلام وسائر أهل البلاء نعوذ بالله منه وأما في المال فما شغله الله عز وجل منه بما يقتضي محنته في فضوله ولا أحوجه إلى أحد بل أقامه على حد الغنى بالقوت ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقر به من ربه عز وجل له: " وأما النفس فأي محنة لمن قال الله عز وجل له والله يعصمك من الناس " ولمن رفع له ذكره وضمن له إظهار دينه على الدين كله ولو كره أعداؤه وجعل شانئه الأبتر وأعزه بالنصر على كل عدو فأي خوف وأي هوان يتوقعه عليه السلام وأما أهله وأحبته فاخترم بعضهم فأجره فيهم كإبراهيم ابنه وخديجة وحمزة وجعفر وزينب وأم كلثوم ورقية بناته رضي الله عنهم وأقر عينه ببقاء بعضهم وصلاحه كعائشة وسائر أمهات المؤمنين وفاطمة ابنته وعلي والعباس والحسن والحسين وأولاد العباس وعبد الله بن جعفر وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عن جميعهم فأي محنة ها هنا أليس قد أعاد الله تعالى من مثل محنة حبيب بن عدي سمية أم عمار رضي الله عنهم أليس من قتل من الأنبياء عليهم السلام ومن أنشر بالمنشار وأحرق بالنيران أعظم محنة ومن خالفه قومه فلم يتبعه منهم إلا اليسير وعذب الجمهور كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم اعظم محنة وهل هذه إلا مكابرة وحماقة وقحة وأي محنة تكون لمن أوجب الله عز وجل على الجن والإنس طاعته وأكرمه برسالته وأمنه من كل الناس و أكب عدوه لوجهه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهل هذه إلا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مجردة له على جميع الإنس والجن وهل استحق عليه السلام هذا قط على ربه تعالى حتى ابتدأه بهذه النعمة الجليلة وقد تحنث قبله زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي العدوي وقيس بن ساعدة الأبادي وغيرهما فما أكرموا بشيء من هذا ولكن نوك المعتزلة ليس عليه قياس.
قال أبو محمد: ومما سئلوا عنه أن قيل لهم أليس قد علم الله تعالى أن فرعون والكفار إن أعاشهم كفروا فمن قولهم نعم فيقال لهم فلم أبقاهم حتى كفروا واخترم على قولكم من علم أنه إن عاش كفر وهذا تخليط لا يعقل ونقول لهم أيضاً أيما كان أصلح للجميع لا سيما لأهل النار خاصة أن يخترعنا الله تعالى كلنا في الجنة كما فعل بالملائكة وحور العين أم ما فعل بنا من خلقنا في الدنيا والتعريض للبلاء فيها وللخلود في النار.
قال أبو محمد: فلحوا عند هذه فقال بعضهم لم يخلق الجنة بعد فقلنا لهم هبكم أن الأمر كما قلتم فإنما كان أصلح للجميع أن يجعل الله عز وجل خلقها ثم يخلقنا فيها أو يؤخر خلقنا حتى يخلقها ثم يخلقنا منها أما خلقه لنا حيث خلقنا فإن عجزوا ربهم جعلوه ذا طبيعة متناهي القدرة وشبهاً لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه محيزاً ضعيفاً وهذا كفر مجرد ونفي السؤال أيضاً مع ذلك بحسبه أن يجعلنا كالملائكة وأن يجعلنا كلنا أنبياء كما فعل بعيسى ويحيى عليهما السلام وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقال بعضهم ليس جهلنا بوجه المصلحة في ذلك مما يخرج هذا الأمر عن الحكمة فقلنا لهم فاقنعوا بمثل هذا بعينه فمن قال لكم ليس جهلنا بوجه المصلحة والحكمة في خلق الله تعالى لأفعال عباده وفي تكليفه الكافر والفاسق ما لا يطيق ثم يعذبهما على ذلك مما يخرجه عن الحكمة وهذا لا مخلص لهم منه.
قال أبو محمد: وأما نحن فلا نرضى بهذا بل ما جهلنا ذلك لكن نقطع على أن كل ما فعله الله تعالى فهو عين الحكمة والعدل وأن من أراد إجراء أفعاله تعالى على الحكمة المعهودة بيننا فقد ألحدوا حظاً وضل وشبه الله عز وجل بخلقه لأن الحكمة والعدل بيننا إنما هما طاعة الله عز وجل فقط لا حكمة ولا عدل غير ذلك إلا ما امرنا به أي شيء كان فقط وأما الله تعالى فلا طاعة لأحد عليه فبطل أن تكون أفعاله جارية على أحكام العبيد المأمورين المربويين المسؤولين ما يفعلون لكن أفعاله تعالى جارية على العزة والقوة والجبروت والكبرياء والتسليم له وأن لا يسأل عما يفعل ولا مزيد كما قال تعالى وقد خاب من خالف ما قال الله عز وجل ومع هذا كله فلم يتخلصوا من رجوع وجوب التجوير والعبث على أصولهم على ربهم تعالى عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلن مقدار النعمة علينا عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك وكنا أيضاً نكون غير مستحقين لذلك النعيم بعمل عملناه وإدخالنا الجنة بعد استحقاقنا لها أتم في النعمة وأبلغ في اللذة وأيضاً فلو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد على ما حظر علينا وليست الجنة دار توعد وأيضاً فإن الله تعالى قد علم أن بعضهم كان يكفر فيجب عليه الخروج من الجنة.
قال أبو محمد: هذا كل ما قدروا عليه من السخف وهذا كله عائد عليهم بحول الله تعالى وقوته وعونه لنا فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك فإننا نقول وبالله تعالى نتأيد أكان الله تعالى قادراً على أن يخلقنا فيها ويخلق فينا قوة وطبيعة نعلم بها قدرة النعمة علينا في ذلك أكثر من علمنا بذلك بعد دخولنا فيها يوم القيامة أو كعلمنا ذلك أم كان غير قادر على ذلك فإن قالوا أكان غير قادر على ذلك عجزوا ربهم تعالى وجعلوا قوته متناهية يقدر على أمرنا ولا يقدر على غيره وهذا لا يكون إلا لعرض داخل أو لبنية متناهية القوة وهذا كفر مجرد وإن قالوا كان الله قادراً على ذلك أقروا بأنه عز وجل لم يفعل بهم أصلح ما عنده وأن عنده أصلح مما فعل بهم وأيضاً فإن كانوا أرادوا بذلك أن اللذة تعقب البلاء و التعب أشد سروراً وأبلغ لزمهم أن يبطلوا نعم الجنة جملة لأنه ليس نعيمها البتة كان الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ولم يفتقر يوماً إذا ما تمولا فلزم على هذا الأصل أن يحدد الله عز وجل لأهل الجنة آلاماً فيها ليتجدد لهم بذاك وجود اللذة وهذا خروج عن الإسلام ويلزمهم أيضاً أن يدخل النبيين والصالحين النار ثم يخرجهم منها إلى الجنة فتضاعف اللذة والسرور أضعافاً بذلك ويقال لهم كنا نكون كالملائكة والحور العين فإن كانوا عالمين بمقدار ما هم فيه من نعيم ولذة فكنا نحن كذلك وإن كانوا غير عالمين بمقدار ما هم فيه من اللذة والنعيم فهلا أعطاهم هذه المصلحة ولأي شيء منعهم هذه الفضيلة التي أعطاها لنا وهم أهل طاعته التي لم تشب بمعصية فإن قالوا أإن الملائكة وحور العين قد شاهدوا عذاب الكفار في النار فقام لهم مقام الترهيب قلنا لهم هل المحاباة والجور إلا أن يعرض قوماً للمعطب ويبقيهم حتى يكفروا فيخلدوا في النار ليوعظ بهم قوم آخرون خلقوا في الجنة والرفاهية سرمداً أبداً لا بد وهل عين الظلم إلا هذا فيما بيننا على أصول المعتزلة وكمن يقول من الطغاة قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح وهل في الشاهد عبث وسفه أعظم من عبث من يقول لآخر هات أضربك بالسياط وأردك من جبل وأصفع في قفاك وأنتف سبالك وأمشيك في طريق ذات شوك دون راحة في ذلك ولا منفعة ولكن لا أعطيك بعد ذلك ملكاً عظيماً ولعلك في خلال ضربي إياك أن تتضرر فتقع في بئر منتنة لا خرج منها أبداً فأي مصلحة عند ذي عقل في هذا الحال لا سيما وهو قادر على أن يعطيه ذلك الملك دون أن يعرضه لشيء من هذا البلاء فهذه صفة الله عز وجل عند المعتزلة لا يستحقون من أن يصفوا أنفسهم بأن يصفوا الله تعالى بالعدل والحكمة.
قال أبو محمد: وأما نحن فنقول لو أن الله تعالى أخبرنا أنه يفعل هذا كان بعينه ما أنكرناه ولعلمنا أنه منه تعالى حق وعدل وحكمة.
قال أبو محمد: ومن العجب أن يكون الله تعالى يخلقنا يوم القيامة خلقاً لا نجوع فيه أبداً ولا نعطش ولا نبول ولا نمرض ولا نموت وينزع ما في صدورنا من غل ثم لا يقدر على أن يخلقنا فيها ولا على أن يخلقنا خلقاً نلتذ معه بابتدائنا كالتذاذنا بدخولها بعد طول النكد فهل يفرق بين شيء من هذا إلا من لا عقل له أو مستخف بالباري تعالى وبالدين وأما قولهم لو خلقنا الله تعالى في الجنة لكنا غير مستحقين لذلك النعيم فإنا نقول لهم أخبرونا عن الأعمال التي استحققتم بها الجنة عند أنفسكم أفبضرورة العقل علمتم أن من عملها فقد استحق الجنة ديناً واجباً على ربه تعالى أم لم تعلموا ذلك ولا وجب ذلك إلا حتى أعلمنا الله عز وجل أنه يفعل وجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال فإن قالوا بالعقل عرفنا استحقاق الجنة على هذه الأعمال كابروا وكذبوا على العقل وكفروا لأنهم بهذا القول يوجبون الاستغناء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام ولزمهم أن الله تعالى لم يجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال لكن وجب ذلك عليه حتماً لا باختياره ولا بأنه لو شاء غير ذلك لكان له وهذا كفر مجرد وأيضاً فإن شريعة موسى عليه السلام في السبت وتحريم الشحوم وغير ذلك فقد كان الجنة جزاء على العمل بها ثم صارت الآن جهنم جزاء على العمل بها فهل ها هنا إلا أن الله تعالى أراد ذلك فقط ولو لم يرد ذلك لم يجب من ذلك شيء فإن قالوا بل ما علمنا استحقاق الجنة بذلك إلا بخبر الله تعالى أنه حكم بذلك فقط قيل لهم فقد كان الله تعالى قادراً على أن يخبرنا أنه جعل الجنة حقاً لنا يخترعنا فيها كما فعل بالملائكة وحور العين و أيضاً فقد كذبوا في دعواهم استحقاق الجنة بأعمالهم فإن رسول الله ﷺ قال ما من أحد ينجيه عمله أو يدخله الجنة عمله ولا أنت يا رسول الله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه أو كلاماً هذا معناه و أيضاً فبضرورة العقل ندري أن ما زاد على المماثلة في الجزاء فيما بيننا فإنه تفضل مجرد في الإحسان وجور في الإساءة هذا حكم المعهود في العقل فعل أصول المعتزلة يلزمهم أن بقاء أحدنا في الجنة أو في النار أكثر من مثل مدة إحسانه أو إساءته جزاء على ما سلف منه فضل مجرد وعقاب زايد على مقدار الجرم وقد فعله الله عز وجل بلا شك وهو عدل منه وحكمة وحق.
قال أبو محمد: وأما قولهم أن دخول الجنة على وجه الجزاء على العمل أعلى درجة وأسنى رتبة من دخولها بالتفضل المجرد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق هذا خطأ محض لأننا قد علمنا أن هذا الحكم إنما يقع بين الأكفاء والمتماثلين وأما الله فليس له كفواً أحد ومن كان عبداً لآخر فإن إقبال السيد عليه بالتفضل عليه المجرد والاختصاص والمحاباة أسنى له وأعلى وأشرف لرتبته وأرفع لدرجته من أن لا يعطيه شيئاً بمقدار ما يستحقه لخدمته ويستخبره إياه هذا ما لا ينكره إلا معاند فكيف وليس لأحد على الله حق وحينئذ كل ما وهبه الله تعالى لأحد من أنبيائه وملائكته عليهم السلام وكل ما أخبر تعالى أنه أوجبه وكتبه على نفسه وجعله حقاً لعباده فكل ذلك تفضل مجرد من الله عز وجل واختصاص مبتدأ لو لم ينعم به عز وجل لم يجب عليه شيء منه لا يقول غير هذا إلا مدخول الدين فاسد العقل.
قال أبو محمد: وهم يقرون أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم جميعهم السلام وصدقوا في هذا ثم نقضوا هذا الأصل بأصلهم هذا السخيف من قولهم أن من دخل الجنة بعد التعريض للبلاء فهو أفضل من ابتداء النعمة والتقريب فنحن على قولهم أفضل من الملائكة على جميعهم السلام وقد قالوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فعلى هذا التقرير يجب أن يكون نحن أفضل من الملائكة بدرجة وأفضل من النبيين بدرجتين وهذا كفر مجرد وتناقض ظاهر وأما قولهم أننا لو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد والتحذر فإننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق حتى لو كان ما يقولون لما منع من ذلك أن يخلقوا في الجنة ثم يطلعوا منها فيروا النار ويعاينوا وحشتها وهولها وقبحها ونفار النفوس عنها كالذي يعرض لنا عند الاطلاع على الغير أن العميقة المظلمة وإن كنا قط لم نقع فيها ولا شاهدنا من وقع فيها بل ذلك كان يكون أبلغ في التحذير من وصفها دون رؤية لكن كما فعل بالملائكة وحور العين فيكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر والحمد والاغتباط بمكانهم واجتناب ما نهوا عنه خوف مفارقة ما قد حصلوا عليه ثم نقول لهم أيضاً قولوا هذا فهم بعد دخولهم الجنة أمباح لهم الكفر والشتم والضرب فيما بينهم أم محظور عليهم لزمهم تمادي التوعد والتحذير هنالك قلنا نكون لو اخترعنا فيها على الحال التي تكون فيها يوم القيامة ولا فرق وكان يكون أصلح لجميعنا بلا شك فإن قالوا قد سبقت الطاعة في الدنيا قيل لهم وكذلك كانت تسبق منهم في الجنة كالملائكة سواء بسواء وهم لا يقولون أن المعاصي والتضارب والتلاطم والتراكض والتشاتم مباح لهم في الجنة ولا يقولون هذا أحد فيحتاج إلى كسر هذا القول فإن لجؤوا إلى قول أبي الهذيل أن أهل الجنة مضطرون لا مختارون قيل لهم وكنا نكون فيها كذلك أيضاً كما نكون يوم القيامة فيها فهذا كان أصلح للجميع بلا شك وهذا ما لا انفكاك لهم منه.
قال أبو محمد: وأما قولهم أن الله علم أن بعضهم يكفر ولا بد فيجب عليه الخروج من الجنة قلنا لهم أيقدر الله على خلاف ما علم أم لا فإن قالوا نعم يقدر ولكن لا يفعل أقروا أنه فعل من ترك ابتداءنا في الجنة إمضاء لما سبق في علمه غير ما كان أصلح لنا بلا شك ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا أنه تعالى فعل ما سبق في علمه من تكليف ما لا يطاق ومن خلقه تعالى الكفر والظلم وإنعامه على من شاء وحده لا شريك له وتركوا قولهم في الأصلح وإن قالوا لا يقدر على غير ما علم أن يفعله جعلوه محيراً مضطراً عاجزاً متناهي القوة ضعيف القدرة محدثاً في أسوأ حالة منهم وهذا كفر وخلاف للقرآن ولإجماع المسلمين ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: ونسألهم أي مصلحة للحشرات والكلاب والبق والدود في خلقها حشرات ولم يخلقها ناساً مكلفين معرضين لدخول الجنة فإن قالوا لو جعلنا ناساً لكفروا قيل لهم فقد جعل الكفار ناساً فكفروا فهلا نظر لهم كما نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لئلا يكفروا فكان أصلح لهم على قولكم وهذا ما لا مخلص منه.
قال أبو محمد: ونسألهم فنقول لهم إذا قلتم أن الله تعالى لا يقدر على لطف لو أتى به الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الجنة لكنه قادر على أن لا يضطرهم إلى الإيمان أخبرونا عن إيمانكم تستحقون به الثواب هل يشوبه عندكم شك أم يمكن بوجه من الوجوه أن يكون عندكم باطلاً فإن قالوا نعم يشوبه شك ويمكن أن يكون باطلاً أقروا على أنفسهم بالكفر وكفونا مؤنتهم وإن قالوا لا يشوبه شك ولا يمكن البتة أن يكون باطلاً قلنا لهم هذا هو الاضطرار بعينه ليست الضرورة في العلم شيئاً غير هذا إنما هو معرفة لا يشوبها شك لا يمكن اختلاف ما عرف بها فهذا هو علم الضرورة نفسه وما عدا هذا فهو ظن وشك فإن قالوا أن الاضطرار ما علم بالحواس أو بأول العقل وما عداه فهو ما عرف بالاستدلال قلنا هذه دعوى فاسدة لأنها بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل وتقسيمنا هو الحق الذي يعرف ضرورة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ونسألهم أيما كان أصلح للعالم أن يكون برياً من السباع والأفاعي والدواب العادية أو أن يكون فيه كما هي مسلطة على الناس وعلى سائر الحيوان وعلى الأطفال فإن قالوا خلق الله الأفاعي والسباع كخلق الحفر والحرث ومزجرة للكفار.
قال أبو محمد: وهذا من ظريف الجنون ولقد ضل بخلقتها جموع من المخذولين ممن جرى مجرى المعتزلة في أن يتعقبوا على الله عز وجل فعله كالمنانية والمجوس اللذين جعلوا إلهاً خالقاً غير الحكيم العدل ثم نقول للمعتزلة إن كانت كما تقولون مصلحة فكان الاستكثار من المصلحة أصلح وأبلغ في الزجر والتحريف وكل هذه الدعاوي منهم حماقات ومكابرات بلا برهان ليست أجوبتهم فيها بأصح من أجوبة المنانية والمجوس وأصحاب التناسخ بل كلها جارية في ميدان واحد من أنها كلها دعاوى فاسدة بلا برهان ينقضها وكلها راجعة إلى أصل واحد وهو تعليل أفعال الله عز وجل الذي لا علة لها أصلاً والحكم عليه بمثل الحكم على خلقه فيم يحسن منه ويقبح تعالى الله عن ذلك.
قال أبو محمد: ويقال لأصحاب الأصلح خاصة ما معنى دعائكم في العصمة وأنتم تقولون أن الله تعالى قد عصم الكفار كما عصم المؤمنين فلم يعتصموا وما معنى دعائكم في الإعادة من الخذلان وفي الرغبة في التوفيق وأنتم تقولون أنه ليس عنده أفضل مما قد أعطاكموه ولا في قدرته زيادة على ما قد فعله بكم وأي معنى لدعائكم في التوبة وأنتم تقطعون على أنه لا يقدر على أن يعينكم في ذلك بمقدار شعرة زائدة على ما قد أعطاكموه فهل دعاؤكم في ذلك الإضلال وهزل وهزء كمن دعا إلى الله أن يجعله من بني آدم أو أن يجعل النبي نبياً والحجر حجراً وهل بين الأمرين فرق فإن قالوا أن الدعا عمل أمرنا الله تعالى به فقيل لهم إن أوامره تعالى من جملة أفعاله بلا شك وأفعاله عندكم تجري على ما يحسن في العقل ويقبح فيه في المعهود وفيما بيننا وعلى الحكمة عندكم وقد علمنا أنه لا يحسن في الشاهد بوجه من الوجوه أن يأمر أحداً يرغب إليه فيما ليس بيده ولا فيما قد أعطاه إياه وكلا هذين الوجهين عبث وسفه وهم مقرون بأجمعهم أن الله تعالى حكم بهذا وفعله وهو أمره لهم بالدعاء إليه أما فيما لا يوصف عندهم بالقدرة عليه وأما فيما قد أعطاهم إياه وهو عندهم عدل وحكمة فنقضوا أصلهم الفاسد بلا شك وأما نحن فإننا نقول أن الدعاء عمل أمرنا الله عز وجل به فيما يقدر عليه ثم إن شاء أعطانا ما سألناه وإن شاء منعنا إياه لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.
قال أبو محمد: وإن في ابتداء الله عز وجل كتابه المنزل إلينا بقوله تعالى آمراً لنا أن نقوله راضياً منا أن نقوله: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ثم ختمه تعالى كتابه آمراً لنا أن نقوله راضياً بقوله: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " لا بين بيان في تكذيب القائلين بأن ليس عند الله تعالى أصلح مما فعل وإنه غير قادر على كف وسوسة الشيطان ولا على هدى الكفار هدى يستحقون به الثواب كما وعد المهتدين لأنه عز وجل نص على أنه هو المطلوب منه العون لنا والهدى على صراط من خصه بالنعمة عليه لا إلى الصراط من غضب عليه تعالى وضل ولولا أنه تعالى قادر على الهدى المذكور وإن عنده عنواناً على ذلك لا يؤتيه إلا من شاء دون من لم يشأ وإنه تعالى أنعم على قوم بالهدى ولم ينعم به على آخرين لما أمرنا أن نسأله من ذلك ما ليس بقدر عليه أو ما قد أعطاه إياه ونص تعال على أنه قادر على صرف وسوسة الشيطان فلولا أنه تعالى يصرفها عمن يشاء لما أمرنا عز وجل أن نستعيذ مما لا يقدر على الإعاذة منه أو مما قد أعاذنا بعد منه.
قال أبو محمد: ولا مخلص لهم من هذا أصلاً ثم نسألهم أي مصلحة للعصاة في أن جعل بعض حركاتهم وسكونها كبائر يستحقون عليها النار وبعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة ولقد كان أصلح من أن يجعلها كلها صغائر مغفورة فإن قالوا هذا أزجر عن المعاصي وأصلح قيل لهم فهلا إذ هو كما تقولون جعلها جميعها كبائر زاجرة فهو أبلغ في الزجر.
قال أبو محمد: وقد نص الله تعالى في القرآن آيات كثيرة لا يحتمل تأويلاً بتكذيب المعجزين لربهم تعالى وليس يمكنهم وجود أي آية ولا سنة يتعلقون بها أصلاً فمنها قوله تعالى: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " أفلم يكن عنده أصلح من فتنة يضل بها بعض خلقه حاشا لله من هذا الكفر والتعجيز وقال تعالى حاكياً عن الذين أثنى عليهم من مؤمني الجن انهم قالوا: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ".
قال أبو محمد: وصدقهم الله عز وجل في ذلك إذ لو أنكره لما أورده مثنياً عليهم بذلك وهذا في غاية البيان الذي قد هلك من خالفه وبطل به قول الضلال الملحدين القائلين أن الله تعالى أراد رشد فرعون وإبليس وأنه ليس عنده أصلح ولا يقدر لهما على هدى أصلاً وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " فليت شعري أي مصلحة لهم في أن يذرأهم لجهنم نعوذ بالله من هذه المصلحة وقال تعالى: " وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته " فصح أنه تعالى هو الذي يقي السيئات وأن الذي رحمه هو الذي وقاه السيئات لأن من لم يقه السيئات فلم يرحمه وبلا شك أن من وقاه السيئات فقد فعل به أصلح بمن لم يقه إياه هذا مع قوله تعالى: " ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً " ولا يشك من لدماغه أقل سلامة أو في وجهه من برد الحياء شيء في أن هذا كان أصلح بالكفار من إدخالهم النار بأن لا يؤتهم ذلك الهدى وإن كانوا كما يقولون من دخولهم الجنة بغير استحقاق وقال تعالى: " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ " فليت شعري أين فعله تعالى بهؤلاء - نسأل الله أن يجعلنا منهم - من فعله بالذين قال فيهم أنه ختم على قلوبهم وزين لهم سوء أعمالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجة إن من ساوى بين الأمرين وقال أن الله تعالى لم يعط هؤلاء إلا ما أعطى هؤلاء ولا أعطى من الهدى والاختصاص محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى والملائكة عليهم السلام إلا ما أعطى إبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب والذي حاج إبراهيم في ربه واليهود والنصارى والمجوس والمتقيلين والشرط والبغائين والعواهر وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد بل سوى في التوفيق بين جميعهم ولم يقدر لهم على مزيد من الصلاح لقليل من الحياء عديم الدين وما جوابه إلا قوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " وقال عز وجل: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ".
قال أبو محمد: فأيما كان أصلح للكفار المخلدين في النار أن يكونوا مع المؤمنين أمة واحدة لا عذاب عليهم أم بعثة الرسل إليهم وهو عز وجل يدري أنهم لا يؤمنون فيكون ذلك سبباً إلى تخليدهم في جهنم وقال تعالى: " وأملي لهم أن كيدي متين " وقال تعالى: " وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ " وقال تعالى: " أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وقال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ".
قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أن الله عز وجل أراد بهم وفعل بهم ما فيه فساد أديانهم وهلاكهم الذي هو ضد الصلاح وإلا فأي مصلحة لهم في أن يستدرجوا إلى البلاد من حيث لا يعلمون وفي الإملاء لهم ليزدادوا إثماً ونص تعالى أن كل ذلك الذي فعله ليس مسارعة لهم في الخير فبطل قول هؤلاء الهلكى جملة والحمد لله رب العالمين وقال تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً فهل بعد هذا بيان عن الله عز وجل أراد هلاكهم ودمارهم ولم يرد صلاحهم فأمر مترفيها بأوامر خالفوها ففسقوا فدمروا تدميراً " فأيما كان أصلح لهم أن لا يؤمروا فيسلموا أو أن يؤمروا وهو تعالى يدري أنهم لا يأتمرون فيدخلون النار فإن قالوا فاحملوا قوله تعالى أمرنا مترفيها على ظاهره قلنا نعم هكذا نقول ولم يقل تعالى أنه أمرهم بالفسق وإنما قال تعالى أمرناهم فقط وقد نص تعالى على انه لا يأمر بالفحشاء فصح قولنا أيضاً وقال عز وجل: " وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ " فنص تعالى على أن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو تولوا لا يدل قوماً غيرهم لا يكونون أمثالهم وبالضرورة نعلم انه عز وجل إنما أراد خيراً منهم فقد صح أنه عز وجل قادر على أن يخلق أصلح منهم وقال تعالى: " إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم " وفي هذا كفاية وقال تعالى: " عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " فهل في البيان في أن الله تعالى قادر على أن يفعل أصلح مما فعل وإن عنده تعالى أصلح مما أعطى خلقه أبين أو أوضح أو أصح من إخباره تعالى أنه قادر على أن يبدل نبيه ﷺ الذي هو أحب الناس إليه خيراً من الأزواج اللواتي أعطاه واللواتي هن خير الناس بعد الأنبياء عليهم السلام.
قال أبو محمد: فبطل قول البقر الشاذة أصحاب الأصلح في أنه تعالى لا يقدر على أصلح مما فعل بعباده.
قال أبو محمد: نسأل الله العافية مما ابتلاهم به ونسأله الهدى الذي حرمهم إياه وكان قادراً قال أبو محمد: كل من منع قدرة الله عز وجل عن شيء مما ذكرنا فلا شك في كفره لأنه عجز ربه تعالى وخالف جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد: وقالوا إذا كان عنده أصلح مما فعل بنا ولم يؤتنا إياه وليس بخيلاً وخلق أفعال عباده وعذبهم عليها ولم يكن ظالماً فلا تنكروا على من قال أنه جسم ولا يشبه خلقه وأنه يقول غير الحق ولا يكون كاذباً. قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه تعالى لم يقل أنه جسم ولو قاله لقلناه ولم يكن ذلك تشبيهاً له بخلقه ولم يقل تعالى أن يقول غير الحق بل قد أبطل ذلك وقطع بأن قوله الحق فمن قال على الله ما لم يقله فهو ملحد كاذب على الله عز وجل وقد قال تعالى أنه خلق كل شيء وخلقنا وما نعمل وأنه لو شاء لهدى كل كافر وأنه غير ظالم ولا بخيل ولا ممسك فقلنا ما قال من كل ذلك ولم نقل ما لم يقل وقلنا ما قام به البرهان العقلي من أنه تعالى خالق كل موجود دونه وأنه تعالى قادر على كل ما يسأل عنه وأنه لا يوصف بشيء من صفات العباد لا ظلم ولا بخل ولا غير ذلك ولم نقل ما قد قام البرهان العقلي على أنه باطل من أنه جسم أو أنه يقول غير الحق وقال بعض أصحاب الأصلح وهو ابن بدد الغزال تلميذ محمد بن شبيب تلميذ النظام بلى إن عند الله ألطافاً لو أتى بها الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الثواب إلا أن الثواب قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف لأننا إنما سألناهم هل يقدر الله تعالى على ألطاف إذا أتى بها أهل الكفر آمنوا إيماناً يستحقون به مثل هذا الثواب الذي يؤتيهم على الإيمان اليوم أو أكثر من ذلك الثواب فلا بد لهم من ترك قوله أو يعجز ربه تعالى.
قال أبو محمد: ونسأل جميع أصحاب الأصلح فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن كل من شاهد براهين الأنبياء عليهم السلام ممن لم يؤمن به وصحت عنده بنقل التواتر هل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها أنها شواهد موجبة صدق نبوتهم أم لم يصح ذلك عندهم إلا بغالب الظن وبصفة أنها مما يمكن أن يكون تخييلاً أو سحراً أو نقلاً مدخولاً ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا بل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها وثبت ذلك في عقولهم بلا شك قلنا لهم هذا هو الاضطرار نفسه الذي لا اضطرار في العالم غيره وهذه صفة كل من ثبت عنده شيء ثباتاً متيقناً كمن يتيقن بالخبر الموجب للعلم موت فلان وكون صفين والجمل وكسائر ما لم يشاهد المرء بحواسه فالكل على هذا مضطرون إلى الإيمان لا مختارون له وإن قالوا لم يصح عندهم شيء من ذلك هذه الصحة قلنا لهم فما قامت عليهم حجة النبوة قط ولا صحت لله تعالى عليهم حجة ومن كان هكذا فاختياره للإيمان إنما هو استحباب وتقليد واتباع لما مالت إليه نفسه وغلب في ظنه فقط وفي هذا بطلان جميع الشرائع وسقوط حجة الله تعالى
الكلام في هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا
قال أبو محمد: اختلف المتكلمون في هذه المسألة فقالت المعتزلة أن نعم الله تعالى على الكفار في الدين والدنيا كنعمه على المؤمنين ولا فرق وهذا قول فاسد قد نقضناه آنفاً ولله الحمد وقالت طائفة أخرى إن الله تعالى لا نعمة له على كافر أصلاً لا في دين ولا دنيا وقالت طائفة له تعالى عليهم نعم في الدنيا فأم في الدين فلا نعمة له عليهم فيه أصلاً.
قال أبو محمد: قال الله عز وجل: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " قال أبو محمد: فوجدنا الله عز وجل يقول: " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " وقال تعالى: " الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم ".
قال أبو محمد: فهذا عموم بالخطاب بإنعام الله تعالى على كل من خلق الله تعالى وعموم لمن يشكر من الناس والكفار من جملة ما خلق الله تعالى بلا شك وأما أهل الإسلام فكلهم شاكر لله تعالى بالإقرار به ثم يتفاضلون في الشكر وليس أحد من الخلق يبلغ كل ما عليه من شكر الله تعالى فصح أن نعم الله تعالى في الدنيا على الكفار كهي على المؤمنين وربما أكثر في بعضهم في بعض الأوقات قال تعالى: " بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وهذا نص جلي على نعم الله تعالى على الكفار وأنهم بدلوها كفراً فلا يحل لأحد أن يعارض كلام ربه تعالى برأيه الفاسد وأما نعمة الله في الدين فإن الله تعالى أرسل إليهم الرسل هادين لهم إلى ما يرضى الله تعالى وهذه نعمة عامة بلا شك فلما كفروا وجحدوا نعم الله تعالى في ذلك أعقبهم البلاء وزوال النعمة كما قال عز وجل: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وبالله تعالى نتأيد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد
قال أبو محمد: اختلف الناس في ماهية الإيمان فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري البصري و أصحابهما وذهب قوم إلى أن الإيمان هو إقرار باللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة وهذا هو قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وذهب قوم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معاً فإذا عرف المرء الدين بقلبه وأقر بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام وإن الأعمال لا تسمى إيماناً ولكنها شرائع الإيمان وهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من الفقهاء وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح وأن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان وكلما ازداد الإنسان خيراً ازداد إيمانه وكلما عصى نقص إيمانه وقال محمد بن زياد الحريري الكوفي من آمن بالله عز وجل وكذب برسول الله ﷺ فليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً على الإطلاق ولكنه مؤمن كافراً معاً لأنه آمن بالله تعالى فهو مؤمن وكافر بالرسول ﷺ فهو كافر.
قال أبو محمد: فحجة الجهمية والكرامية والأشعرية ومن ذهب مذهب أبي حنيفة حجة واحدة وهي أنهم قالوا إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين وبلغة العرب خاطبنا الله تعالى ورسول الله ﷺ والإيمان في اللغة هو التصديق فقط والعمل بالجوارح لا يسمى في اللغة تصديقاً فليس إيماناً قالوا والإيمان هو التوحيد والأعمال لا تسمى توحيداً فليست إيماناً قالوا ولو كانت الأعمال توحيداً وإيماناً لكان من ضيع شيئاً منها قد ضيع الإيمان وفارق الإيمان فوجب أن لا يكون مؤمناً قالوا وهذه الحجة إنما تلزم أصحاب الحديث خاصة لا تلزم الخوارج ولا المعتزلة لأنهم يقولون بذهاب الإيمان جملة بإضاعة الأعمال.
قال أبو محمد: ما لهم حجة غير ما ذكرنا وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلاً لما نذكره إن شاء الله عز وجل.
قال أبو محمد: إن الإيمان هو التصديق في اللغة فهذا حجة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة لأقوالهم إبطالاً تاماً كافياً لا يحتاج معه إلى غيره وذلك قولهم أن الإيمان في اللغة التي بها نزل القرآن هو التصديق فليس كما قالوا على الإطلاق وما سمي فقط التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيماناً في لغة العرب وما قال قط عربي أن من صدق شيئاً قلبه فأعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنه يسمى مصدقاً به أصلاً ولا مؤمناً به البتة وكذلك ما سمي قط التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً على الإطلاق ولا يسمى تصديقاً في لغة العرب ولا إيماناً مطلقاً إلا من صدق بالشيء بقلبه ولسانه معاً فبطل تعلق الجهمية والأشعرية باللغة جملة ثم نقول لمن ذهب مذهب أبي حنيفة في أن الإيمان إنما هو التصديق باللسان والقلب معاً وتعلق في ذلك باللغة إن تعلقكم باللغة لا حجة لكم فيه أصلاً لأن اللغة يجب فيها ضرورة أن كل من صدق بشيء فإنه مؤمن به وأنتم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكم توقعون اسم الإيمان ولا تطلقونه إلا على صفة محدودة دون سائر الصفات وهي من صدق بالله عز وجل وبرسوله ﷺ وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة وغير ذلك مما قد أجمعت الأمة على انه لا يكون مؤمناً من لم يصدق به وهذا خلاف اللغة مجرد فإن قالوا أن الشريعة أوجبت علينا هذا قلنا صدقتم فلا تتعلقوا باللغة حيث جاءت الشريعة بنقل اسم منها عن موضوعه في اللغة كما فعلتم آنفاً سواء بسواء ولا فرق.
قال أبو محمد: ولو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق اسم الإيمان لكل من صدق بشيء ما ولكان من صدق بإلاهية الحلاج وبإلاهية المسيح وبإلاهية الأوثان مؤمنين لأنهم مصدقون بما صدقوا به وهذا لا يقوله أحد مما ينتمي إلى الإسلام بل قائله كافر عند جميعهم ونص القرآن بكفر من قال بهذا قال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً " فهذا الله عز وجل شهد بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل وبالله تعالى ويكفرون ببعض فلم يجز مع ذلك أن يطلق عليهم اسم قال أبو محمد: وقول محمد بن زياد الحريري لازم لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة وموجبها وهو قول لم يختلف مسلمان في أنه كفر مجرد وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا.
قال أبو محمد: فبطل تعلق هذه الطوائف باللغة جملة وأما قولهم أنه لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد أضاع الإيمان ووجب أن لا يكون مؤمناً فإني قلت لبعضهم وقد ألزمني هذا الإلزام كلاماً تفسيره وبسطه إننا لا نسمي في الشريعة اسماً إلا بأن يأمرنا الله تعالى أن نسميه أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه لأننا لا ندري مراد الله عز وجل منا إلا بوحي وارد من عنده علينا ومع هذا فإن الله عز وجل يقول منكراً لمن سمي في الشريعة شيئاً بغير إذنه عز وجل: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " وقال تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لأنس دون الله تعالى ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب وخالف القرآن فنحن لا نسمي مؤمناً إلا من سماه الله مؤمناً ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلا عمن أسقطه الله عز وجل عنه ووجدنا بعض الأعمال التي سماها الله عز وجل إيماناً لم يسقط الله عز وجل اسم الإيمان عن تاركها فلم يجز لنا أن نسقطه عنه لذلك لكن نقول انه ضيع بعض الإيمان ولم يضيع كله كما جاء النص على ما نبين إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها ولم يبق لهم حجة أصلاً فلنقل بعون الله عز وجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان عقد وقول وعمل وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معاً بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء البتة إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله ﷺ أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء وأوقعها أيضاً تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح بكل ما هو طاعة له تعالى فقط فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به وهو تعالى خالق اللغة وأهلها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء ولا عجب أعجب ممن أن وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح أو لأعرابي أسدي أو سلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب بوال على عقبيه لفظاً في شعر أو نثر جعله في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لم يلتفت إليه ولا جعله حجة وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه وإذا وجد لرسول الله ﷺ كلاما فعل به مثل ذلك وتالله لقد كان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة وأيام كونه فتى بمكة بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل أعلم بلغة قومه وأفصح فيها وأولى بأن يكون ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفي وقيسي وربيعي وإيادي وتميمي وقضاعي وحميري فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه وأجرى على لسانه كلامه وضمن حفظه وحفظ ما يأتي به فأي ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يقول: فعلت فروع الأيهقان وأطفلت لجلهتين ظباؤها ونعامها فجعله حجة وأبو زياد الكلابي يقول ما عرفت العرب قط الأيهقان وإنما هو اللهق بيت معروف ويسمع قول بن أحمر كناه نقلق عن مأموسة الحجر وعلماء اللغة يقولون أنه لم يعرف قط لأحد من العرب أنه سمى النار مأموسة إلا ابن أحمر فيجعله حجة ويجيز قول من قال من الأعراب هذا حجر من خرب وسائر الشواذ عن معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره ونحتج بكل ذلك ثم يمتنع من إيقاع اسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى ورسوله ﷺ محمد بن عبد الله القرشي المسترضع في بني سعد بن بكر ويكابر في ذلك بكل باطل وبكل حماقة وبكل دفع للمشاهدة ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: فمن الأيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل: " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ".
قال أبو محمد: والتصديق بالشيء أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص لأنه لا يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقر أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها أما أن يصدق بما اعتقد وأقر وأما أن يكذب بما اعتقد وأما منزلة بينهما فهي الشك فمن المحال أن يكون إنساناً مكذباً بما يصدق به ومن المحال أن يشك أحد فيما يصدق به فلم يبق إلا أنه مصدق بما اعتقد بلا شك ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر لأن أحد التصديقين إذا دخلته داخلة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا بد وحصل في الشك في أن معنى التصديق إنما هو أن يقطع ويوقن بصحة وجود ما صدق به ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه فليس مصدقاً به وإن لم يكن مصدقاً به فليس مؤمناً به فصح أن الزيادة التي ذكر الله عز وجل في الإيمان ليست في التصديق أصلاً ولا في الاعتقاد البتة فهي ضرورة في غير التصديق وليس ها هنا إلا الأعمال فصح يقيناً أن أعمال البر إيمان بنص القرآن وكذلك قول الله عز وجل: " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً " وقوله تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً " فإن قال قائل معنى زيادة الإيمان ها هنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا بها فزادهم بنزولها إيماناً تصديقاً بشيء وارد لم يكن عندهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال لأنه قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف فلا يزدهم نزول الآية تصديقاً لم يكونوا اعتقدوه فصح أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قط ولا كان جائزاً لهم أن يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضاً عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا في ما سواه ولا عدد للاعتقاد ولا كمية وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط فإن قالوا أن تلاوتهم لها زيادة إيمان قلنا صدقتم وهذا هو قولنا والتلاوة عمل بجارحة اللسان ليس إقراراً بالمعتقد ولكنه من نوع الذكر بالتسبيح والتهليل وقال تعالى: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " ولم يزل أهل الإسلام قبل الجهمية والأشعرية والكرامية وسائر المرجئة مجمعين على أنه تعالى إنما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة وقال عز وجل: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " وقال عز وجل: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " فنص تعالى على أن عبادة الله تعالى في حال إخلاص الدين له تعالى وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواردتين في الشريعة كله دين القيمة وقال تعالى: " إن الدين عند الله الإسلام " وقال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " فنص تعالى أن الدين هو الإسلام ونص قبل على أن العبادات كلها والصلاة والزكاة هي الدين فأنتج ذلك يقيناً أن العبادات هي الدين والدين هو الإسلام فالعبادات هن الإسلام وقال عز وجل: " يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " وفال تعالى: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " فهذا نص جلي على أن الإسلام هو الإيمان وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البر كلها هي الإسلام والإسلام هو الإيمان فأعمال البر كلها إيمان وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنص تعالى وأقسم بنفسه أن لا يكون مؤمناً إلا بتحكيم النبي ﷺ في كل ما عن ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به فصح يقيناً أن الإيمان اسم واقع على الأعمال في كل ما في الشريعة وقال تعالى: " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً فصح أن لا يكون التصديق مطلقاً إيماناً إلا حتى يستضيف إليه ما نص الله تعالى عليه ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام قول الله عز وجل: " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً " إلى قوله " يا ليتني لم أشرك بربي أحداً " فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى إذ شك في البعث وقال تعالى: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " فصح أن من آمن ببعض الدين وكفر بشيء منه فهو كافر مع صحة تصديقه لما صدق من ذلك.
قال أبو محمد: وأكثر الأسماء الشرعية فإنها موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممن يدري اللغة العربية ويدري الأسماء الشرعية كالصلاة فإن موضوع هذه اللفظة في لغة العرب الدعاء فقط فأوقعها الله عز وجل على حركات محدودة معدودة من قيام موصوف إلى جهة موصوفة لا تتعدى وركوع كذلك وسجود كذلك وقعود كذلك وقراءة وذكر كذلك في أوقات محدودة وبطهارة محدودة وبلباس محدود متى لم تكن على ذلك بطلت ولم تكن صلاة وما عرفت العرب قط شيئاً من هذا كله فضلاً على أن تسميه حتى أتانا بهذا كله رسول الله ﷺ وقد قال بعضهم أن في الصلاة دعاء فلم يخرج الاسم بذلك عن موضوعه في اللغة.
قال أبو محمد: وهذا باطل لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من أتى بعدد الركعات وقرأ أم القرآن وقرآناً معها في كل ركعة وأتى بعد الركوع والسجود والجلوس والقيام والتشهد وصلى على النبي ﷺ وسلم بتسليمتين فقد صلى كما أمر وإن لم يدع بشيء أصلاً وفي الفقهاء من يقول أن من صلى خلف الإمام فلم يقرأ أصلاً ولا تشهد ولا دعا أصلاً فقد صلى كما أمر وأيضاً فإن ذلك الدعاء في الصلاة لا يختلف أحد من الأمة في أنه ليس شيئاً ولا يسمى صلاة أصلاً عند أحد من أهل الإسلام فعلى كل قد أوقع الله عز وجل اسم الصلاة على أعمال غير الدعاء ولا بد وعلى دعاء محدود لم تعرفه العرب قط ولا عرفت إيقاع الصلاة على دعاء بعينه دون سائر الدعاء ومنها الزكاة وهي موضوع في اللغة للنماء والزيادة فأوقعها الله تعالى إعطاء مال محدود معدود من جملة أموال ما موصوفة محدودة معدودة معينة دون سائر الأموال لقوم محدودين في أوقات محدودة فإن هو تعدى شيئاً من ذلك لم يقع على فعله ذلك اسم زكاة ولم تعرف العرب قط هذه الصفات والصيام في لغة العرب الوقوف تقول صام النهار إذا طال حتى صار كأنه واقف بطوله قال امرئ القيس: إذا صام النهار وهجرا وقال آخر وهو النابغة الذبياني: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما فأوقع الله تعالى اسم الصيام على الامتناع من الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء من وقت محدود تبين الفجر الثاني إلى غروب الشمس في أوقات من السنة محدودة فإن تعدى ذلك لم يسم صياماً وهذا أمر لم تعرفه العرب قط فظهر فساد قول من قال أن الأسماء لا تنقل في الشريعة عن موضعها في اللغة وصح أن قولهم هذا مجاهرة سمجة قبيحة.
قال أبو محمد: فإذا قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال أنه التصديق فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد لأن معنى الزيادة إنما هو عدد مضاف إلى عدد وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة فيه وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله ﷺ المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن " قلن يا رسول الله وما نقصان ديننا قال عليه السلام أليس تقيم المرأة العدد من الأيام والليالي لا تصوم ولا تصلي فهذا نقصان دينها.
قال أبو محمد: ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقاً لأن التصديق لا يتبعض أصلاً ولصار شكاً وبالله تعالى التوفيق وهم مقرون بأن امرأ لو لم يصدق بآية من القرآن أو بسورة منه وصدق بسائره لبطل إيمانه فصح أن التصديق لا يتبعض أصلاً.
قال أبو محمد: وقد نص الله عز وجل على أن اليهود يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم وأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى: " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " واخبر تعالى عن الكفار فقال: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " فأخبر تعالى أنهم يعرفون صدقه ولا يكذبونه وهم اليهود والنصارى وهم كفار بلا خلاف من أحد من الأمة ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه عن الإسلام ونص تعالى عن إبليس أنه عارف بالله تعالى وبملائكته وبرسله وبالبعث وأنه قال: " رب فأنظرني إلى يوم يبعثون " وقال: " قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ " وقال: " خلقتني من نار وخلقته من طين " وكيف لا يكون مصدقاً بكل ذلك وهو قد شاهد ابتداء خلق الله تعالى لآدم وخاطبه الله تعالى خطاباً كثيرا وسأله ما منعك أن تسجد وأمره بالخروج من الجنة وأخبره أنه منظر إلى يوم الدين وأنه ممنوع من إغواء من سبقت له الهداية وهو مع ذلك كله كافر بلا خلاف أما بقوله عن آدم أنا خير منه وأما بامتناعه للسجود لا يشك أحد في ذلك ولو كان الإيمان هو بالتصديق والإقرار فقط لكان جميع المخلدين في النار من اليهود والنصارى وسائر الكفار مؤمنين لأنهم كلهم مصدقون بكل ما كذبوا به في الدنيا مقرون بكل ذلك ولكان إبليس واليهود والنصارى في الدنيا مؤمنين ضرورة وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإنما كفر أهل النار بمنعهم من الأعمال قال تعالى: " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ".
قال أبو محمد: فلجأ هؤلاء المخاذيل إلى أن قالوا إن اليهود والنصارى لم يعرفوا قط أن محمداً رسول الله ومعنى قول الله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي أنهم يميزون صورته ويعرفون أن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي فقط وأن معنى قوله تعالى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل إنما هو انهم يجدون سواداً في بياض لا يدرون ما هو ولا يفهمون معناه وإن إبليس لم يقل شيئاً مما ذكر الله عز وجل عنه انه قال مجداً بل قاله هاذلاً وقال هؤلاء أيضاً أنه ليس على ظهر الأرض ولا كان قط كافر يدري أن الله حق وأن فرعون قط لم يتبين له أن موسى نبي بالآيات التي عمل.
قال أبو محمد: وقالوا إذا كان الكافر يصدق أن الله حق والتصديق إيمان في اللغة فهو مؤمن إذا أوفيه إيمان ليس به مؤمناً وكلا القولين محال.
قال أبو محمد: هذه نصوص أقوالهم التي رأيناها في كتبهم وسمعناها فهم وكان مما احتجوا به لهذا الكفر المجرد أن قالوا أن الله عز وجل سمى كل من ذكرنا كفاراً ومشركين فدل ذلك على أنه علم أن في قلوبهم كفراً وشركاً وجحداً وقال هؤلاء أن شتم الله عز وجل وشتم رسول الله ﷺ ليس كفراً لكنه دليل على أن في قلبه كفراً.
قال أبو محمد: وأما قولهم في أخبار الله تعالى عن اليهود أنهم يعرفون رسول الله ﷺ كما يعرفون أبناءهم وعن اليهود والنصارى أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فباطل بحت ومجاهرة لا حياء معها لأنه لو كان كما ذكروا لما كان في ذلك حجة لله تعالى عليهم وأي معنى أو أي فائدة في أن يجيزوا صورته ويعرفوا انه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقط أو في أن يجدوا كتابا لا يفقهون معناه فكيف ونص الآية نفسها مكذبة لهم لأنه تعالى يقول الذين آتيناهم الكتابة يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقاً منهم يكتمون الحق وهم يعلمون فنص تعالى أنهم يعلمون الحق في نبوته وقال في الآية الأخرى: " يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وإنما أورد تعالى معرفتهم لرسول الله ﷺ محتجاً عليهم بذلك لا أنه أتى من ذلك بكلام لا فائدة فيه وأما قولهم في إبليس فكلام داخل في الاستخفاف بالله عز وجل وبالقرآن لا وجه له غير هذا إذ من المحال الممتنع في العقل وفي الإمكان غاية الامتناع أن يكون إبليس يوافق في هزله عين الحقيقة في الله تعالى كرم آدم عليه السلام عليه وأنه تعالى أمره بالسجود فامتنع وفي أن الله تعالى خلق آدم من طين وخلقه من نار وفي أخباره آدم أن الله تعالى نهاه عن الشجرة وفي دخوله الجنة وخروجه عنها إذ أخرجه الله تعالى وفي سؤاله الله تعالى النظرة وفي ذكره يوم يبعث العباد وفي أخباره أن الله تعالى أغواه وفي تهديده ذرية آدم قبل أن يكونوا وقد شاهد الملائكة والجنة وابتداء خلق آدم ولا سبيل إلى موافقة هازل معنيين صحيحين لا يعلمها فكيف بهذه الأمور العظيمة وأخرى أن الله تعالى حاشا له من أن يجب هازلاً بما يقتضيه معنى هزله فإنه تعالى أمره بالسجود ثم سأله عما منعه من السجود ثم أجابه إلى النظرة التي سأل ثم أخرجه عن الجنة وأخبره أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ولحق بالمجانين الوقحاء وأما قولهم أن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلاً على أن في قلوبهم كفراً وأن شتم الله تعالى ليس كفر ولكنه دليل على أن في القلب كفراً وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط فهذه منهم دعاوي كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلاً ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم ابن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فأما القرآن فإن الله عز وجل يقول: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " وقال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " فأخبر تعالى بأنهم يصدقون بالله تعالى وهم مع ذلك مشركون قال تعالى: " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ".
قال أبو محمد: هذه شهادة من الله مكذبة بقول هؤلاء الضلال لا يردها مسلم أصلاً.
قال أبو محمد: وبلغنا عن بعضهم انه قال في قول الله تعالى: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " إن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله ﷺ قال وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظن منهم. قال أبو محمد: وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ويرد ما شئت منه.
قال أبو محمد: فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال و النساء من الذين أوتوا الكتاب لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء فيكون من فعل ذلك مفترياً على الله تعالى وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله ﷺ بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال والخطاب بلفظ الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال وقد علمنا أن النساء يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين والوجه الثاني هو أن الله تعالى لم يقل كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم فكان يسوغ لهذا الجاهل حينئذ هذا التمويه البارد باستكراه أيضاً وإنما قال تعالى كما يعرفون أبناءهم فأضاف تعالى البنوة إليهم فمن لم يقل أنهم أبناءهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذب الله تعالى وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة رجل يكون ابنه فولد الزنا مخلوق من نطفة الإنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلاً وإنما أبناؤنا من جعلهم الله أبناؤنا فقط كما أن الله تعالى جعل أزواج رسول الله ﷺ أمهات المؤمنين منهن أمهاتنا وإن لم يلدننا ونحن أبناءهن وإن لم نخرج من بطونهن فمن أنكر هذا فنحن نصدقه لأنه حينئذ ليس مؤمناً فلسن أمهاته ولا هو ابن لهن والوجه الثالث هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكتاً للذين أوتوا الكتاب لا معتذراً عنه لكن مخبراً بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي ﷺ بآياته وبما وجدوا في التوراة والإنجيل معرفة قاطعة لا شك فيها كما يعرفون أبناءهم ثم أتبع ذلك تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به فبطل هذر هذا الجاهل المخذول والحمد لله رب العالمين وقال عز وجل: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " فنص تعالى على أن الرشد قد تبين من الغي عموماً وقال تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى " وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " وهذا نص جلي من خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة وقد تبين له الحق فبيقين يدري أن كل ذي حس سليم مصدق بلا شك بقلبه وقال تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ".
قال أبو محمد: وهذا أيضاً نص جلي لا يحتمل تأويلاً على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق ولم يجحدوا قط أنها كانت وإنما جحدوا أنها من عند الله فصح أن الذي استيقنوا منها هو الذي جحدوا وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة أنهم إنما استيقنوا كونها زهي عندهم حيل لا حقائق إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من الله تعالى كذباً تعالى الله عن ذلك لأنهم لم يجحدوا كونها وإنما جحدوا أنها من عند الله وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام انه قال لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر " فمن قال أن فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى فقد كذب ربه تعالى وهذا كفر مجرد وقد شغب بعضهم بأن هذه الآية قرأت لقد علمت بضم التاء.
قال أبو محمد: وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء فنعم موسى عليه السلام علم ذلك وفرعون علم ذلك فهذه نصوص القرآن وأما من طريق المعقول والمشاهدة والنظر فإنا نقول لهم هل قامت حجة الله تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبين براهينه عز وجل لهم أم لم تقم حجة لله تعالى عليهم قط إذ لم يتبين الحق قط لكافر فإن قالوا أن حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار كفروا بلا خلاف من أحد وعذروا الكفار وخالفوا الإجماع وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على الكفار بأن الحق تبين لهم صدقوا ورجعوا إلى الحق وإلى قول أهل الإسلام وبرهان آخر أن كل أحد مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين بالله تعالى وبنبوة موسى عليه السلام وأن الله تعالى حرم على اليهود العمل في السبت والتحوم فمن الباطل أن يتواطؤوا كلهم في شرق الأرض و غربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى ذلك وبرهان آخر وهو أننا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم أسلموا وحسن إسلامهم وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله تعالى حق وأن نبوة موسى وهارون حق كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا فرق ومن أنكر هذا قد كابر عقله وحسه ولحق بمن لا يستحق أن يكلم وبرهان آخر وهو انهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري فوجب من هذين الحكمين أن اليهود والنصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليه السلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة نبوته من أجلها وهذا لا محيد لهم عنه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله ﷺ فهو دعوى لأن الله تعالى قال: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر وقال تعالى: " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم " فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع وقال تعالى: " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر فخرج عن الإيمان ولم يفعل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبكم كفراً بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى وقال عز وجل: " إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ".
قال أبو محمد: وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره فصح أن النسيء كفر وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز وجل لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى أو جحد رسوله الله ﷺ فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعاً وإما القتل أخذ الجزية وسائر أحكام الكفر وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا فكروا في هذا لا رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه ولا أحد ممن بعدهم وأما قولهم إذا الكفار إذا كانوا مصدقين بالله تعالى وبنبيه ﷺ بقلوبهم والتصديق في اللغة التي نزل القرآن هو الإيمان ففيهم بلا شك إيمان فالواجب أن يكونوا بإيمانهم ذلك مؤمنين أو أن يكون فيهم إيمان ليسوا بكونهم فيهم مؤمنين ولا بد من أحد الأمرين.
قال أبو محمد: وهذا تمويه فاسد لأن التسمية كما قدمنا لله تعالى لا لأحد دونه وقد أوضحنا البراهين على أن الله تعالى نقل اسم إيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وحرم في الديانة إيقاع اسم الإيمان على التصديق المطلق ولولا نقل الله تعالى للفظة الإيمان كما ذكرنا لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمناً وأن يخبر عنهم بأن فيهم إيماناً لأنهم مؤمنون ولا بد بأشياء كثيرة مما في العالم يصدقون بها هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل فلو صح إجماعنا وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على انهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا يحل لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق ولا أن يقول أن لهم إيماناً مطلقاً أصلاً لم يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حق والمصدق بقلبه أن محمد رسول الله أنه مؤمن ولا أن فيه إيماناً أصلاً إلا حتى يأتي بما نقل الله تعالى إليه اسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دينه ثم يتمادى بإقراره على ما لا يتم إيمان إلا بالإقرار به حتى يموت لكنا نقول أن في الكافر تصديقاً بالله تعالى هو به مصدق بالله تعالى وليس بذلك مؤمناً ولا فيه إيمان كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري.
قال أبو محمد: فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله وقد نص على تكفيرهم أبو عبيد القاسم في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره ولنا كتاب كبير نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان إفريقية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما من قال أن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان فإنهم احتجوا بأن النبي ﷺ وجميع أصحابه رضي الله عنهم وكل من بعدهم قد صح إجماعهم على أن من أعلن بلسانه بشهادة الإسلام فإنه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام وبقول رسول الله ﷺ في السوداء أعتقها فإنها مؤمنة وبقوله ﷺ لعمه أبي طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل.
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه أما الإجماع المذكور فصحيح وإنما حكمنا لهم بحكم الإيمان في الظاهر ولم نقطع على أنه عند الله تعالى مؤمن وهكذا قال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما أرسلت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وبحسابهم على الله وقال عليه السلام من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه وأما قوله عليه السلام في السوداء أنها مؤمنة فظاهر الأمر كما قال عليه السلام إذ قال له خالد بن الوليد رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال عليه السلام إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس وأما قوله لعمه أحاج لك بها عند الله فنعم يحاج بها على ظاهر الأمر وحسابه على الله تعالى فبطل كل ما موهوا به ثم نبين بطلان قولهم إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى نتأيد أنه يبين بطلان قول هؤلاء قول الله عز وجل: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وقوله عز وجل: " وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وقال تعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً ".
قال أبو محمد: فإن قالوا إنما هذه الآية بمعنى أن هذه الأفعال تدل على أن في القلب إيماناً قلنا لهم لو كان ما قلتم لوجب ولا بد أن يكون ترك من ترك شيئاً من هذه الأفعال دليلاً على أنه ليس في قلبه إيمان وأنتم لا تقولون هذا أصلاً مع أن هذا صرف للآية عن وجهها وهذا لا يجوز إلا ببرهان وقولهم هذا دعوى بلا برهان وقال تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وأولئك هم الصادقون " وقال تعالى: " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا " فأثبت عز وجل لهم الإيمان الذي هو التصديق ثم أسقط عنا ولايتهم إذ لم يهاجروا فأبطل بذلك إيمانهم المطلق ثم قال تعالى: " والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " فصح يقيناً أن هذه الأعمال إيمان حق وعدمها ليس إيماناً وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فنص عز وجل في هذه الآية على من آمن بلسانه ولم يعتقد الإيمان بقلبه فإنه كافر ثم أخبرنا تعالى بالمؤمنين من هم وأنهم الذين آمنوا وأيقنوا بألسنتهم وقلوبهم معاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون.
قال أبو محمد: ويلزمهم أن المنافقين مؤمنون لإقرارهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام وقد قال تعالى: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " وقال تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم " فقطع الله تعالى عليهم بالكفر كما ترى لأنهم أبطنوا الكفر.
قال أبو محمد: وبرهان آخر وهو أن الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عز وجل لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكياً وقارئاً له في القرآن فلا يكون بذلك كافراً حتى يقرأنه عقده.
قال أبو محمد: فإن احتج بهذا أهل المقالة وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفراً قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية ليست لنا وإنما لله تعالى فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل و الإيمان بحكايته ما نص الله تعالى بأداء الشهادة بالحق قال تعالى: " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافراً إلى رضى الله عز وجل والإيمان ولما قال تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً أخرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافراً إلى رخصة الله تعالى على الإيمان وبقي من أظهر الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله ﷺ بذلك وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر وليس قول الله عز وجل ولكن من شرح بالكفر صدراً على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط بل كان من نطق بالكلام الذي يحكم لقائل عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً فقد شرح بالكفر صدراً بمعنى أنه أن يقولوه وسواء اعتقده أو لم يعتقده لأن هذا العمل من إعلان الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به فبطل تمويههم بهذه الآية وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " فنص الله تعالى على الإيمان أنه شيء قبل نفي الارتياب ونفي الارتياب لا يكون ضرورة إلا بالقلب وحده فصح أن الإيمان إذ هو قبل نفي الارتياب شيء آخر غير نفي الارتياب والذي قبل نفي الارتياب هو القول باللسان ثم التصديق بالقلب والجهاد مع ذلك بالبدن والنفس والمال فلا يتم الإيمان بنص كلام الله عز وجل إلا بهذه الأقسام كلها فبطل بهذا النص قول من زعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو القول باللسان وحده أو كلاهما فقط دون العمل بالبدن وبرها آخر وهو أن نقول لهم أخبرونا عن أهل النار المخلدين فيها الذين ماتوا على الكفر أهم حين كونهم في النار عارفون بقلوبهم صحة التوحيد والنبوة الذي بجحدهم لكل ذلك ادخلوا النار وهل هم حينئذ مقرون بذلك بألسنتهم أم لا ولابد من أحدهما فإن قالوا هم عارفون بكل ذلك مقرون به بألسنتهم وقلوبهم قلنا أنهم مؤمنون أم غير مؤمنين فإن قالوا هم غير مؤمنين قلنا قد تركتم قولكم أن الإيمان هو المعرفة بالقلب أو الإقرار باللسان فقط أو كلاهما فقط فإن قالوا هذا حكم الآخرة قلنا لهم فإذ جوزتم نقل الأسماء عن موضوعها في اللغة في الآخرة فمن أين منعتم من ذلك في الدنيا ولم تجوزوه لله عز وجل فيها وليس في الحماقة أكثر من هذا وإن قالوا بل هم مؤمنون قلنا لهم فالنار إذاً أعدت للمؤمنين لا للكافرين وهي دار المؤمنين وهذا خلاف القرآن والسنن وإجماع أهل الإسلام المتقين وإن قالوا بل هم غير عارفين بالتوحيد ولا بصحة النبوة في حال كمنهم في النار أكذبهم نصوص القرآن وكذبوا ربهم عز وجل في إخبار أنهم عارفون بكل ذلك هاتفون به بألسنتهم راغبون في الرجعة والإقالة نادمون على ما سلف منهم وكذبوا نصوص المعقول وجاهروا بالمحال إذ جعلوا من شاهد القيمة والحساب والجزاء غير عارف بصحة ذلك فصح بهذا أنه لا إيمان ولا كفر إلا ما سماه الله تعالى إيماناً وكفراً وشركاً فقط ولا مؤمن ولا كافر ولا مشرك إلا من سماه الله تعالى بشيء من ذلك أما في القرآن وأما على لسان النبي ﷺ.
قال أبو محمد: وأما من قال أن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللسان دون العمل بالجوارح فلا نكفر من قال بهذه المقالة وإن كانت خطأ وبدعة واحتجوا بأن قالوا أخبرونا عمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وبريء من كل دين حاشا الإسلام وصدق بكل ما جاء به النبي ﷺ واعتقد ذلك لقلبه ومات إثر ذلك أمؤمن هو أم لا فإن جوابنا أنه مؤمن بلا شك عند الله عز وجل وعندنا قالوا فأخبرونا أناقص الإيمان هو أم كامل الإيمان قالوا فإن قلتم أنه كامل الإيمان فهذا قولنا وإن قلتم أنه ناقص الإيمان سألناكم ماذا نقصه من الإيمان وماذا مع الإيمان.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان زائد بأعمال لم يعملها هذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل أعمالاً منه حتى يبلغ الأمر إلى رسول الله ﷺ الذي لا أحد أتم إيماناً منه بمعنى أحسن أعمالاً منه وأما قولهم ما الذي نقصه من الإيمان فإنه نقصه الأعمال التي عملها غيره والتي ربنا عز وجل أعلم بمقاديرها.
قال أبو محمد: ومما يبين أن اسم الإيمان في الشريعة منقول عن موضوعه في اللغة وإن الكفر أيضاً كذلك فإن الكفر في اللغة التغطية وسمي الزراع كافراً لتغطيته الحب وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء قال الله عز وجل: " فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع " وقال تعالى: " كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ " يعني الزراع وقال لبيد بن ربيعة: يمينها ألقت زكاة في كافر يعني الليل ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن أو جحد شيء مما أتى به رسول الله ﷺ مما صح عند جاحده بنقل الكافة أو عمل شيء قام البرهان بأن العمل به كفر مما قد بيناه في كتاب الإيصال والحمد لله رب العالمين فلو أن إنساناً قال أن محمداً عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى: " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وكذلك لو قال أن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وهو يريد مؤمنون بدين الكفر فصح عند كل ذي مسكة من يتحيز أن اسم الإيمان والكفر منقولان في الشريعة عن موضوعهما في اللغة بيقين لا شك فيه وأنه لا يجوز إيقاع اسم الإيمان المطلق على معنى التصديق بأي شيء صدق به المرء ولا يجوز إيقاع اسم الكفر على معنى التغطية لأي شيء غطاه المرء لكن على ما أوقع الله تعالى عليه اسم الإيمان واسم الكفر ولا مزيد وثبت يقيناً أن ما عدا هذا ضلال مخالف للقرآن وللسنن ولإجماع أهل الإسلام أولهم عن آخرهم وبالله تعالى التوفيق وبقي حكم التصديق على حاله في اللغة لا يختلف في ذلك إنسي ولا جني ولا كافر ولا مؤمن فكل من صدق بشيء فهو مصدق به فمن صدق بالله تعالى وبرسوله ﷺ ولم يصدق بما لا يتم الإيمان إلا به فهو مصدق وبالله تعالى وبرسوله ﷺ وليس مؤمناً ولا مسلماً لكنه كافر مشرك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين.
الطبقات الثلاث المذكورة
قال أبو محمد: إن قال قائل أليس الكفر ضد الإيمان قلنا وبالله تعالى التوفيق إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان اسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا فمن تلك المعاني شيء يكون الكفر ضداً له ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضد له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضاً فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لا كفر وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو كل ما كان من الأعمال تطوعاً فإن تركه ضد العمل به وليس فسقاً ولا كفراً برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النصوص بتسمية الله عز وجل أعمال البر كلها إيماناً وتسميته تعالى ما سمي كفراً وما سمي فسقاً وما سمي معصية وما سمي إباحة لا معصية ولا كفراً ولا إيماناً وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد غيره فإن قال قائل منهم أليس جحد الله عز وجل بالقلب فقط لا باللسان كفراً فلا بد من نعم قال فيجب على هذا أن يكون التصديق باللسان وحده إيماناً فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا كان يصح لكم لو كان التصديق بالقلب وحده أو باللسان وحده إيماناً وقد أوضحنا آنفاً أنه ليس شيء من ذلك على انفراده إيماناً وأنه ليس إيماناً إلا ما سماه الله عز وجل إيماناً وليس الكفر إلا ما سماه الله عز وجل كفراً فقط فإن قال قائل من أهل الطائفة الثالثة أليس جحد الله تعالى بالقلب وباللسان هو الكفر كله فكذلك يجب أن يكون الإقرار بالله تعالى باللسان والقلب هو الإيمان كله قلنا وبالله تعالى نتأيد ليس شيء مما قلتم بل الجحد بشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفر كفر والعمل بشيء مما قام البراهين بأنه كفر كفر فالكفر يزيد وكلما زاد فيه فهو كفر والكفر ينقص وكله مع ذلك ما بقي منه وما نقص فكله كفر وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض وكله كفر وقد أخبر تعالى عن بعض الكفر أنه تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً وقال عز وجل: " هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " ثم قال: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وقال تعالى: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " فأخبر تعالى أن قوماً يضاعف له العذاب فإذا كل هذا قول الله عز وجل وقوله الحق فالجزاء على قدر الكفر بالنص وبعض الجزاء أشد من بعض بالنصوص ضرورة والإيمان يتفاضل بنصوص صحاح وردت عن رسول الله ﷺ والجزاء عليه في الجنة يتفاضل بلا خلاف فإن قال من الطبقتين الأولتين أليس من قولكم من عرف الله عز وجل والنبي ﷺ وأقر بهما بقلبه فقط إلا أنه منكر بلسانه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر وكذلك من قولكم أن من أقر بالله عز وجل وبرسوله ﷺ بلسانه فقط إلا أنه منكر بقلبه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر.
قال أبو محمد: فجوابنا نعم هكذا نقول قالوا فقد وجب من قولكم إذا كان بما ذكرنا كافراً أن يكون فعله ذلك كفراً ولا بد إذ لا يكون كافراً إلا بكفره فيجب على قولكم أن الإقرار بالله تعالى وبرسوله ﷺ بالقلب كفر ولا بد ويكون الإقرار بالله تعالى أيضاً وبرسوله ﷺ باللسان أيضاً كفر ولا بد أنكم تقولون أنهما إيمان فقد وجب على قولكم أن يكونا كفراً إيماناً معاً وفاعلهما كافراً مؤمناً معاً وهذا كما ترون.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا شغب ضعيف وإلزام كاذب سموه لأننا لم نقل قط أن من اعتقد وصدق بقلبه فقط بالله تعالى وبرسوله ﷺ وأنكر بلسانه ذلك أو بعضه فإن اعتقاده لتصديق ذلك كفر ولا أنه كان بذلك كافراً وإنما قلنا أنه كفر بترك إقراره بذلك بلسانه فهذا هو الكفر وبه صار كافراً وبه أباح الله تعالى دمه أو أخذ الجزية منه بإجماعكم معنا وإجماع جميع أهل الإسلام وكان تصديقه بقلبه فقط بكل ذلك لغواً محيطاً كأنه لم يكن ليس إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية قال تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك " وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " وبالضرورة يدري كل مسلم أن من حبط عمله وبطل فقد سقط حكمه وتأثيره ولم يبق له رسم وكذلك لم نقل أن من أقر بلسانه وحده بالله تعالى وبرسوله ﷺ وجحد بقلبه أن إقراره بذلك بلسانه كفر ولا أنه كان به كافراً لكنه كان كافراً بجحده بقلبه لما جحد من ذلك وجحده لذلك هو الكفر وكان إقراره بكل ذلك لغواً محبطاً كما ذكرنا لا إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية وبالله تعالى التوفيق فسقط هذا الإيهام الفاسد فإن قال قائل منهم أليس بعض الإيمان إيماناً وبعض الكفر كفراً وأراد أن يلزمنا من هذا أن العقد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح إذا كان ذلك إيماناً فإبعاضه إذا انفردت إيمان أو أن نقول أن إبعاض الإيمان ليست إيماناً فيموه بهذا.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا نقول ونصرح أنه ليس بعض الإيمان إيماناً أصلاً بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيماناً كالبلق ليس السواد وحده بلقاً ولا البياض وحده بلقاً فإذا اجتمعا صارا بلقاً وكالباب ليس الخشب وحده باباً ولا المسامير وحدها باباً فإذا اجتمعا على شكل سمي حينئذ باباً وكالصلاة فإن القيام وحده ليس صلاة ولا الركوع وحده صلاة ولا الجلوس وحده صلاة ولا القراءة وحدها صلاة ولا الذكر وحده صلاة ولا استقبال القبلة وحده صلاة أصلاً فإذا اجتمع كل ذلك سمي المجتمع حينئذ صلاة وكذلك الصيام المفترض والمندوب إليه ليس صيام كل ساعة من النهار على انفرادها صياماً فإذا اجتمع صيامها كلها يسمى صياماً وقد يقع في اليوم الأكل والجماع والشراب سهواً فلا يمنع ذلك من أن يكون صيامه صحيحاً والتسمية لله عز وجل كما قدمنا لا لأحد دونه بل من الإيمان شيء إذا انفرد كان كفراً كمن قال مصدقاً بقلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله فهذا إيمان فلو أفرد لا إله وسكت سكوتاً قطع كفر بلا خلاف من أحد ثم نسألهم فنقول لهم فإذا انفرد صيامه أو صلاته دون إيمان أهي طاعة فمن قولهم لا فقد صاروا فيما أرادوا أن يموهوا به علينا من أن إبعاض الطاعات إذا انفردت لم تكن طاعة بل كانت معصية وإذا اجتمعت كانت طاعة.
قال أبو محمد: فإن قالوا إذا كان النطق باللسان عندكم إيماناً فيجب إذاً عدم النطق بأن يسكت الإنسان بعد إقراره أن يكون سكوته كفراً فيكون بسكوته كافراً قلنا إن هذا يلزمنا عندكم فما تقولون إن سألكم أصحاب محمد من كرام فقالوا لكم إذا كان الاعتقاد بالقلب هو الإيمان عندكم فيجب إذا سها عن الاعتقاد وإحضاره ذكره أما في حال حديثه مع من يتحدث أو في حال فكره أو نومه أن يكون كافراً وأن يكون ذلك السهو كفراً فجوابهم أنه محمول على ما صح منه من الإقرار باللسان.
قال أبو محمد: ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم أن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول ﷺ إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفراً لكنه دليل على أن في القلب كفراً أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به فتثبتونه يقيناً ولا تشكون في أن في قلبه جحداً للربوبية وللنبوة أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر ولا بد من أحدهما فإن قالوا أنه دليل لا نقطع به قطعاً ولا نثبته يقيناً قلنا لهم فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه: " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " وأعجب من هذا أنكم إنما قلتم أن إعلان الكفر إنما قلنا أنه دليل على أن في القلب كفراً لأن الله تعالى سماهم كفاراً فلا يمكننا رد شهادة الله تعالى فعاد هذا البلاء عليكم لأنكم قطعتم أنها شهادة الله عز وجل ثم لم تصدقوا شهادته ولا قطعتم بها بل شككتم فيها وهذا تكذيب من لا خفاء به وأما نحن فمعاذ الله من أن نقول أو نعتقد أن الله تعالى شهد بهذا قط بل من أدعى أن الله شهد بأن من أعلن الكفر فإنه جاحد بقلبه فقد كذب على الله عز وجل وافترى عليه بل هذه شهادة الشيطان الذي أضل بها أولياءه وما شهد الله تعالى إلا بضد هذا وبأنهم يعرفون الحق ويكتمونه ويعرفون أن الله تعالى حق وأن محمد رسول الله ﷺ حقاً ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك وما سماهم الله عز وجل قط كفاراً إلا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم كما فعل بإبليس وأهل الكتاب وغيرهم وإن قالوا بل يثبت بهذا الدليل ونقطع به ونوقن أن كل من أعلن بما يوجب إطلاق اسم الكفر عليه في الشريعة فإنه جاحد بقلبه لهم وبالله تعالى التوفيق هذا باطل من وجوه - أولها - أنه دعوى بلا برهان - وثانيها - أنه علم غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل والذي يضمره وقد قال رسول الله ﷺ أني لم أبعث لأشق على قلوب الناس فمدعى هذا مدعى علم غيب ومدعي علم الغيب كاذب - وثالثها - أن القرآن والسنن كما ذكرنا قد جاءت النصوص فيهما بخلاف هذا كما تلونا قبل - ورابعها - إن كان الأمر كما تقولون فمن أين اقتصرتم بالإيمان على عقد القلب ولم تراعوا إقرار اللسان وكلاهما عندكم مرتبط بالآخر لا يمكن انفرادهما وهذا يبطل قولكم أنه إذا اعتقد الإيمان بقلبه لم يكن كافراً بإعلانه الكفر فجوزتم أن يكون يعلن الكفر من يبطن الإيمان فظهر تناقض مذهبهم وعظيم فساده - وخامسها - أنه كان يلزمهم إذا كان إعلان الكفر باللسان دليلاً على الجحد بالقلب والكفر به ولا بد فإن إعلان الإيمان باللسان يجب أيضاً أن يكون دليلاً قاطعاً باتاً ولا بد على أن في القلب إيماناً وتصديقاً لا شك فيه لأن الله تعالى سمى هؤلاء مؤمنين كما سمى أولئك كفاراً ولا فرق بين الشهادتين فإن قالوا أن الله تعالى قد أخبر عن المنافقين المعلنين بالإيمان المبطنين للكفر والجحد قيل لهم وكذلك أعلمنا الله تعالى وأخبرنا أن إبليس وأهل الكتاب والكفار بالنبوة إنهم يعلنون الكفر ويبطنون التصديق ويؤمنون بأن الله تعالى حق وأن رسوله حق يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولا فرق وكل ما موهتم به من الباطل والكذب في هؤلاء أمكن للكرامية مثله سواء بسواء في المنافقين وقالوا لم يكفروا قط بإبطانهم الكفر لما سماهم الله بأنهم آمنوا ثم كفروا علمنا أنهم نطقوا بعد ذلك بالكفر والجحد بشهادة الله تعالى بذلك كما أدعيتم أنتم شهادته تعالى على ما في نفوس الكفار ولا فرق.
قال أبو محمد: وكلتا الشاهدتين من هاتين الطائفتين كذب على الله عز وجل وما شهد الله عز وجل قط على إبليس وأولى الكتاب بالكفر إلا بما أعلنوه من الاستخفاف بالنبوة وبآدم وبالنبي ﷺ فقط ولا شهد تعالى قط على المنافقين بالكفر إلا بما أبطنوه من الكفر فقط وأما هذا فتحريف للكلم عن مواضعه وأفك مفتري ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وانظروا قولهم قالوا مثل هذا أن يقول رسول الله ﷺ لا يدخل هذه الدار اليوم إلا كافر أو يقول كل من دخل هذه الدار اليوم فهو كافر قالوا فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر لا أن دخول الدار كفر.
قال أبو محمد: وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقاً بالله تعالى وبرسوله ﷺ إلا أن تصديقه ذلك قد حبط بدخوله الدار برهان ذلك أنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار لا يحل البتة لعائشة ولا لأبي بكر ولا لعلي ولا لأحد من أزواج النبي ﷺ ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم كما أن الله تعالى قد نص على أنه علم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفاراً بلا شك بنفس دخولهم فيها ولحبط إيمانهم فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا كانوا هم قد كفروا لأنهم بهذا القول قاطعون بأن كلامه ﷺ كذب في قوله لا يدخلها إلا كافر واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً قال أبو محمد: فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول ملعون ملعون قائل هذا البيت وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز وجل وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافراً وإنما هي قضية عقلية فالعقل والحس يكذبان هذا البيت وقضية شرعية فالله عز وجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز وجل: " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله أن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا أن الله عز وجل قال: " ولتعرفنهم في لحن القول " قلنا لولا أن الله عز وجل عرفه بهم ودله عليهم بلحن القول ما كان لحن قولهم دليلاً عليهم ولم يطلق الله تعالى هذا على كل أحد بل على أولئك خاصة بل قد نص تعالى على آخرين بخلاف ذلك إذ يقول: " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " فهؤلاء من أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق لم يعلمهم قط رسول الله ﷺ بلحن قولهم ولو أن الناس لم يضربوا قط كلام ربهم تعالى بعضه ببعض وأخذوه كله على مقتضاه لاهتدوا لكن " من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " وقد قال عز وجل: " إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق وبعد أن تبين لهم الهدى بقوله للكفار ما قالوا فقط وأخبرنا تعالى أنه يعرف أسرارهم ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق بل قد صح أن في سرهم التصديق لأن الهدى قد تبين لهم ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي ﷺ دون جحد كان منهم أصلاً ولو كان منهم جحد لشعروا له والله تعالى أخبرنا لأن ذلك يكون وهم لا يشعرون فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة ومنه ما لا يكون كفراً لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد.
قال أبو محمد: فإن قال قائل من أين قلتم أن التصديق لا يتفاضل ونحن نجد خضرة أشد من خضرة وشجاعة أشد من شجاعة لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيات من صفات النفس معاً فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن كل ما قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما يقبلهما بمزاج يداخله من كيفية أخرى ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده منها وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين أو في ما جاز امتزاج الضدين فيه كما نجد بين الخضرة والبياض وسائط من حمرة وصفرة تمازجهما فتولد حينئذ بالممازجة الشدة والضعف وكالصحة التي هي اعتدال مزاج العضو فإذا مازج ذلك الاعتدال فضل ما كان مرضه بحسب ما مازجه في الشدة والضعف والشجاعة إنما هي استسهلال النفس والثبات والإقدام عند المعارضة في اللقاء فإذا ثبت الاثنان فإثباتاً واحداً وأقدما إقداماً مستوياً فهما في الشجاعة سواء وإذا ثبت أحدهما أو أقدم فوق ثبات الآخر وإقدامه كان أشجع منه وكان الآخر قد مازج ثباته أو إقدامه جبن وأما ما كان من الكيفيات لا يقبل المزاج أصلاً فلا سبيل إلى وجود التفاضل فيه وكل ذلك على حسب ما خلقه الله عز وجل من كل ذلك ولا مزيد كاللون فإنه لا سبيل إلى أن يكون لون أشد دخولاً في أنه لون من لون آخر إذ لو مازج الصدق غيره لصار كذباً في الوقت ولو مازج تصديق شيء غيره لصار شكاً في الوقت وبطل التصديق جملة وبالله تعالى التوفيق والإيمان قد قلنا أنه ليس هو التصديق وحده بل أشياء مع التصديق كثيرة فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها وفي كيفية إيرادها وبالله تعالى التوفيق وهكذا قال رسول الله ﷺ أنه يخرج من النار من في قلبه إذ قالوا شعيرة من إيمان ثم من في قلبه مثقال برة من أيمان ثم من في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى أدنى أدنى من ذلك إنما أراد عليه السلام من قصد إلى عمل شيء من الخير أو هم به ولم يعمله بعد أيكون مصدقاً بقلبه بالإسلام مقراً بلسانه كما في الحديث قال أبو محمد: ومن النصوص على أن الأعمال إيمان قول الله تعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً وأقسم تعالى بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكم رسوله ﷺ فيما شجر بينه وبين غيره ثم يسلم لما حكم به عليه السلام ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى وهذه كلها أعمال باللسان وبالجوارح غير التصديق بلا شك وفي هذا كفاية لمن عقل.
قال أبو محمد: ومن العجب قولهم أن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيماناً لكنها شرائع الإيمان.
قال أبو محمد: هذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله ﷺ ولا أحداً من الصحابة رضي الله عنهم بل الإسلام هو الإيمان وهو الشرائع والشرائع هي الإيمان والإسلام وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واختلف الناس في الكفر والشرك فقالت طائفة هي اسمان واقعان على معنيين وإن كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً وقال هؤلاء لا شرك الأقوال من جعل لله شريكاً قال هؤلاء اليهود والنصارى كفاراً لا مشركون وسائر الملل كفار مشركون وهو قول أبي حنيفة وغيره وقال آخرون الكفر والشرك سواء وكل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر وهو قول الشافعي قال أبو محمد: واحتجت الطائفة الأولى بقول الله عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين " قالوا ففرق الله تعالى بين الكفار والمشركين وقالوا لفظة الشرك مأخوذة من الشريك فمن لم يجعل الله تعالى شريكاً فليس مشركاً.
قال أبو محمد: هذه عمدة حجتهم ما نعلم لهم حجة غير هاتين.
قال أبو محمد: أما احتجاجهم بقول الله عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " فلو لم يأت في هذا المعنى غير هذا المعنى غير هذه الآية لكانت حجتهم ظاهرة لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل: " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " وقال تعالى: " وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ " وقال تعالى عنهم أنهم قالوا أن الله ثالث ثلاثة وهذا كله تشريك ظاهر لإخفائه فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى فقد صح أنهم مشركون وأن الشرك والكفر اسمان لمعنى واحد وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لنا فإذ ذلك كذلك فقد صح أن قوله تعالى: " الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " كقوله تعالى: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار وكقوله تعالى: " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة وكقوله تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ " والرمان الرمان من الفاكهة والقرآن نزل بلغة العرب والعرب تعيد الشيء باسمه وإن كانت قد أجملت ذكره تأكيداً لأمره فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين الكفار والمشركين في اللفظ وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأن لفظ الشرك مأخوذ من الشريك فقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد دونه وله تعالى أن يوقع أي أسم شاء على أي مسمى شاء برهان ذلك أن من أشرك بين عبدين له في عمل ما أو بين اثنين في هبة وهبها لهما فإنه لا يطلق عليه اسم مشرك ولا يحل أن يقال أن فلاناً أشرك ولا أن عمله شرك فصح أنها لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها في اللغة كما أن الكفر لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها إلى ما أوقعها الله تعالى عليه والتعجب من أهل هذه المقالة وقولهم أن النصارى ليسوا مشركين وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد لأنهم يقولون كلهم بعبادة الأب والابن وروح القدس وأن المسيح إله حق ثم يجعلون البراهمة مشركين وهم لا يقرون إلا بالله وحده ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا يجعلوا كافراً إلا من جحد الله تعالى فقط فإن قال قائل كيف اتخذ اليهود والنصارى أرباباً من دون الله وهم ينكرون هذا قلنا وبالله تعالى التوفيق أن التسمية لله عز وجل فما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم ويحلون ما أحلوا كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة قد دانوا بها وسمى الله تعالى هذا العمل باتخاذ أرباب من دون الله وعبادة وهذا هو الشرك بلا خلاف كما سمي كفرهم بأن رسول الله ﷺ نبي ناسخ لما هم عليه كفر بالله عز وجل وإن كانوا مصدقين به تعالى لكن لما أحبط الله تعالى تصديقهم سقط حكمه جملة فإن قالوا كيف تقولون أن الكفار مصدقون بالله تعالى والله تعالى يقول: " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " ويقول تعالى: " وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم " قلنا وبالله تعالى نتأيد إن كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه فلا بد له من أن يكون مكذباً بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به أورد أمراً من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو كذب به ولم يقل الله تعالى الذي كذب بالله عز وجل لكن قال كذب وتولى ولا قال تعالى و أما إن كان من المكذبين بالله وإنما قال تعالى من المكذبين الضالين فقط فمن كذب بأمر من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب على الإطلاق كما سماه الله تعالى وإن كان مصدقاً لله تعالى وبمن صدق به.
قال أبو محمد: فإن قالوا كيف تقولون أن اليهود عارفون بالله تعالى والنصارى والله تعالى يقول " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب قلنا وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية إلى الله عز وجل لا لأحد دونه وقلنا أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة عن التصديق المجرد إلى معنى آخر زائد مع التصديق فلما لم يستوفوا تلك المعاني بطل تصديقهم جملة واستحقوا ببطلانه أن يسموا غير مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر فإن قيل فهل هم مصدقون بالله وباليوم الآخر قلنا نعم فإن قيل ففيهم موحدون لله تعالى قلنا نعم قيل فيهم مؤمنون بالله وبالرسول وباليوم الآخر قلنا لا لأن الله تعالى نص على كل ما قلنا فأخبر تعالى أنهم يعرفونه ويقرون به ويعرفون نبيه ﷺ وأنه نبي فأقررنا بذلك وأسقط الله عنهم اسم الإيمان فأسقطناه عنهم ومن تعدى هذه الطريقة فقد كذب ربه تعالى وخالف القرآن وعاند الرسول وخرق إجماع أهل الإسلام وكابر حسه وعقله مع ذلك وبالله تعالى التوفيق وهكذا نقول فيمن كان مسلماً ثم أطلق واعتقد ما يوجب الخروج عن الإسلام كالقول بنبوة إنسان بعد النبي ﷺ أو تحليل الخمر أو غير ذلك فإنه مصدق بالله عز وجل وبرسوله ﷺ موحد عالم بكل ذلك وليس مؤمناً مطلقاً ولا مؤمناً بالله تعالى ولا بالرسول ﷺ ولا باليوم الآخر لما ذكرنا آنفاً ولا فرق لإجماع الأمة كلها على استحقاق اسم الكفر على من ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين.
وهل الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد ومعنى واحد أو لمسميين ومعنيين
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنيين وأنه قد يكون مسلم غير مؤمن واحتجوا بقول الله عز وجل: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وبالحديث المأثور عن رسول الله ﷺ إذ قال له سعد هل لك يا رسول الله في فلان فإنه مؤمن فقال له رسول الله ﷺ: أو مسلم.
وبالحديث المأثور عن رسول الله ﷺ إذ أتاه جبريل ﷺ في صورة فتى غير معروف العين فسأله عن الإسلام فأجابه بأشياء في جملتها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال أخر مذكورة في ذلك الحديث فسأله عن الًسلام فأجابه بأشياء من جملتها أن تؤمن بالله وملائكته وبحديث لا يصح من أن المرء يخرج عن الإيمان إلى الإسلام وذهب آخرون إلى أن الإيمان والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد واحتجوا بقول الله عز وجل: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " وبقوله تعالى: " يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ".
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الإيمان أصله في اللغة التصديق على الصفة التي ذكرنا قبل ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات واجتناب المعاصي إذا قصد بكل ذلك من عمل أو ترك وجه الله عز وجل وإن الإسلام أصله في اللغة التبرؤ تقول أسلمت أمر كذا إلى فلان إذا تبرأت منه إليه فسمي المسلم مسلماً لأنه تبرأ من كل شيء إلى الله عز وجل ثم نقل الله تعالى اسم الإسلام أيضاً إلى جميع الطاعات وأيضاً فإن التبرؤ إلى الله من كل شيء هو معنى التصديق فإنه لا يبرأ إلا الله تعالى من كل شيء حتى يصدق به فإذا أريد بالإسلام المعنى الذي هو خلاف الكفر خلاف الفسق فهو والإيمان شيء واحد كما قال تعالى: " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " وقد يكون الإسلام أيضاً بمعنى الاستسلام أي أنه استسلم للعلة خوف القتل هو غير معتقد لها فإذا أريد بالإسلام هذا المعنى فهو غير الإيمان وهو الذي أراد الله تعالى بقوله: " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وبهذا تتألف النصوص المذكورة من القرآن والسنن وقد قال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " وقال رسول الله ﷺ لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة فهذا هو الإسلام الذي هو الإيمان فصح أن الإسلام لفظة مشتركة كما ذكرنا ومن البرهان على أنها لفظة منقولة عن موضوعها في اللغة أن الإسلام في اللغة هو التبرؤ فأي شيء تبرأ منه المرء فقد أسلم من ذلك الشيء وهو مسلم كما أن من صدق بشيء فقد آمن به وهو مؤمن به وبيقين لا شك فيه يدري كل واحد أن كل كافر على وجه الأرض فإنه مصدق بأشياء كثيرة من أمور دنياه ومتبرئ من أشياء كثيرة ولا يختلف اثنين من أهل الإسلام في أنه لا يحل لأحد أن يطلق على الكفار من أجل ذلك أنه مؤمن ولا أنه مسلم فصح يقيناً أن لفظة الإسلام والإيمان منقولة عن موضوعها في اللغة إلى معان محددة معروفة لم تعرفه العرب قط حتى أنزل الله عز وجل بها الوحي على رسوله ﷺ أنه من أتى بها استحق اسم الإيمان والإسلام وسمي مؤمناً مسلماً ومن لم يأت بها لم يسم مؤمناً ولا مسلماً وإن صدق بكل شيء غيرها أو تبرأ من كل شيء حاشى ما أوجبت الشريعة التبرأ منه وكذلك الكفر والشرك لفظتان منقولتان عن موضوعهما في اللغة لأن الكفر في اللغة التغطية والشرك أن تشرك شيئاً مع آخر في أي معنى جمع بينهما ولا خلاف بين أحد من أهل التمييز في أن كل مؤمن في الأرض في أنه يغطي أشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز أن يطلق عليه من أجل ذلك الكفر ولا الشرك ولا أن يسمى كافراً ولا مشركاً وصح يقيناً أن الله تعالى نقل اسم الكفر والشرك إلى إنكار أشياء لم تعرفها العرب وإلى أعمال لم تعرفها العرب قط كمن جحد الصلاة أو صوم رمضان أو غير ذلك من الشرائع التي لم تعرفها العرب قط حتى أنزل الله تعالى بها وحيه أو كمن عمد وثناً فمن أتى بشيء من تلك الأشياء سمي كافراً لا مشركاً ومن لم يأت بشيء من تلك الأشياء لم يسم كافراً أو مشركاً ومن خالف هذا فقد كابر الحس وجحد العيان وخالف الله تعالى ورسوله ﷺ والقرآن والسنن وإجماع المسلمين وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واختلف الناس في قول المسلم أنا مؤمن فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء أنه كره ذلك وكان يقول أنا مؤمن إن شاء الله وقال بعضهم آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وكانوا يقولون من قال أنا مؤمن فليقل إنه من أهل الجنة.
قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود وأصحابه حجج في اللغة فإن جهال المرجئة الموهومون في نصر بدعتهم.
قال أبو محمد: والقول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل وبمحمد ﷺ وبكل ما أتى به عليه السلام وأنه يقر بلسانه بكل ذلك فواجب عليه أن يعترف بذلك كما أمر تعالى إذ قال تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " ولا نعمة أوكد ولا أفضل ولا أولى بالشكر من نعمة الإسلام فواجب عليه أن يقول أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى في وقتي هذا ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد قال تعالى: " قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " وقول بن مسعود عندنا صحيح لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة إلى جميع البر والطاعات فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات وهذا صحيح ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب ولا شك بلا شك وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء أني مؤمن بمعنى مصدق كيف وهو يقول قل آمنت بالله ورسله أي صدقت وأما من قال فقل أنك في الجنة فالجواب أننا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن فلا بد لنا من الجنة بلا شك وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع من آمن بالله ورسوله ﷺ وبكل ما جاء به ولم يأت بما هو كفر فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ولا نأمن مكر الله تعالى ولا إضلاله ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غداً ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: اختلف الناس في تسمية المذنب من أهل ملتنا فقالت المرجئة هو مؤمن كامل الإيمان وإن لم يعمل خيراً قط ولا كف عن شر قط وقال بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد هو كافر مشرك كعابد الوثن بأي ذنب كان منه صغيراً أو كبيراً ولو فعله على سبيل المزاح وقالت الصغرية إن كان الذنب من الكباير فهو مشرك كعابد الوثن وإن كان الذنب صغيراً فليس كافراً وقالت الأباضية إن كان الذنب من الكبائر فهو كافر نعمة تحل موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته وليس مؤمناً ولا كافراً على الإطلاق وروي عن الحسن البصري وقتادة رضي الله عنهما أن صاحب الكبيرة منافق وقالت المعتزلة إن كان الذنب من الكبائر فهو فاسق ليس مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً وأجازوا مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته قالوا وإن كان من الصغاير فهو مؤمن لا شيء عليه فيها وذهب أهل السنة من أصحاب الحديث والفقهاء إلى أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان وقالوا الإيمان اسم معتقده وإقراره وعمله الصالح والفسق اسم عمله السيء إلا أن بين السلف منهم والخلف اختلافاً في تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها وتارك الصوم لو مضى كذلك وتارك الزكاة وتارك الحج كذلك وفي قاتل المسلم عمداً وفي شارب الخمر وفيمن سب نبياً من الأنبياء عليهم السلام وفيمن رد حديثاً قد صح عنده عن النبي ﷺ فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك وأحمد بن حنبل واسحق ابن راهوية رحمة الله عليهم وعن تمام سبعة عشرة رجلاً من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها فإنه كافر مرتد وبهذا يقول عبد الله ابن الماجشون صاحب مالك وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره وروينا عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في تارك الحج وعن ابن عباس وغيره مثل ذلك في تارك الزكاة والصيام وفي قاتل المسلم عمداً وعن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص في شارب الخمر وعن اسحق بن راهوية أن من رد حديثاً صحيحاً عنده عن النبي ﷺ فقد كفر.
قال أبو محمد: واحتج من كفر المذنبين بقول الله عز وجل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وبقوله تعالى: " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " فهؤلاء كلهم ممن كذب وتولى والمكذب المتولي كافر فهؤلاء كفار.
قال أبو محمد: والعجب أن المرجئة المسقطة للوعيد جملة عن المسلمين قد احتجوا بهذه الآية نفسها فقالوا قد أخبرنا أن الله عز وجل أن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى فصح أن من لم يكذب ولا تولى لا يصلاها قالوا ووجدنا هؤلاء كلهم لم يكذبوا ولا تولوا بل هم مصدقون معترفون بالإيمان فصح أنهم لا يصلونها وأن المراد بالوعيد المذكور في الآيات المنصوصة إنما هو فعل تلك الأفاعيل من الكفار خاصة.
قال أبو محمد: واحتج أيضاً من كفر من ذكرنا بأحاديث كثيرة منها سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرو حين ينهبها وهو مؤمن وترك الصلاة شرك وإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد: وما نعلم لمن قال هو منافق حجة أصلاً ولا لمن قال أنه كافر نعمة إلا أنهم نزعوا بقول الله عز وجل: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن كفر النعمة عمل يقع من المؤمن والكافر وليس هو ملة ولا اسم دين فمن ادعى اسم دين وملة غير الإيمان المطلق والكفر المطلق فقد أتى بما لا دليل عليه وأما من قال هو فاسق لا مؤمن ولا كافر فما لهم حجة أصلاً إلا أنهم قالوا قد صح الإجماع على انه فاسق لأن الخوارج قالوا هو كافر فاسق وقال غيرهم هو مؤمن فاسق فاتفقوا قال أبو محمد: وهذا خلاف لإجماع من ذكر لأنه ليس منهم أحد جعل الفسق اسم دينه وإنما سموا بذلك عملهم والإجماع والنصوص قد صح كل ذلك على أنه لا دين إلا الإسلام أو الكفر من خرج من أحدهما دخل في الآخر ولا بد إذ ليس بينهما وسيطة وكذلك قال رسول الله ﷺ: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " وهذا حديث قد أطبق جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام على صحته وعلى القول به فلم يجعل عليه السلام ديناً غير الكفر والإسلام ولم يجعل هاهنا ديناً ثالثاً أصلاً.
قال أبو محمد: واحتجت المعتزلة أيضاً بأن قالت قال الله تعالى: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى قال: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون " فصح أن هؤلاء الذين سماهم الله تعالى مجرمين و فساقاً وأخرجهم عن المؤمنين نصاً فإنهم ليسوا على دين الإسلام وإذا لم يكونوا على دين الإسلام فهم كفار بلا شك إذ لا دين ها هنا غيرهما أصلاً برهان هذا قوله تعالى: " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وقد علمنا ضرورة أنه لا دار إلا الجنة والنار وأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المسلمون فقط ونص الله تعالى على أن النار لا يدخلها إلا المكذب المتولي والمتولي المكذب كافر بلا خلاف فلا يخلد في النار إلا كافر ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فصح أنه لا دين إلا الإيمان والكفر فقط وإذ ذلك كذلك فهؤلاء الذين سماهم الله عز وجل مجرمين وفاسقين وأخرجهم عن المؤمنين فهم كفار مشركون لا يجوز غير ذلك وقال المؤمن محمود محسن ولي لله عز وجل والمذنب مذموم مسيء عدو لله قالوا ومن المحال أن يكون إنسان واحد محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً.
قال أبو محمد: وهذا الذي أنكروه لا نكرة فيه بل هو أمر موجود مشاهد فمن أحسن من وجه وأساء من وجه آخر كمن صلى ثم زنى فهو محسن محمود ولي لله فيما أحسن فيه من صلاة وهو مسيء مذموم عدو لله فيما أساء فيه من الزنا قال عز وجل: " وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " فبالضرورة ندري أن العمل الذي شهد الله عز وجل أنه سيء فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى ثم يقال لهم ما تقولون إن عارضتكم المرجئة بكلامكم نفسه فقالوا من المحال أن يكون إنساناً واحداً محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً ثم أرادوا تغليب الحمد والإحسان والولاية وإسقاط الذم والإساءة والعداوة كما أردتم أنتم بهذه القضية نفسها تغليب الذم والإساءة والعداوة وإسقاط الحمد والإحسان والولاية بما ينفصلون عنهم فإن قالت المعتزلة أن الشرط في حمده وإحسانه وولايته أن تجتنب الكبائر قلنا لهم فإن عارضتكم المرجئة فقالت أن الشرط في ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شهادة التوحيد فإن قالت المعتزلة أن الله قد ذم المعاصي وتوعد عليها قيل لهم فإن المرجئة تقول لكم أن الله تعالى قد حمد الحسنات ووعد عليها وأراد بذلك تغليب الحمد كما أردتم تغليب الذم فإن ذكرتم آيات الوعيد ذكروا آيات الرحمة.
قال أبو محمد: وهذا ما لا مخلص للمعتزلة منه ولا للمرجئة أيضاً فوضح بهذا أن كلا الطائفتين مخطئة وأن الحق هو جمع كل ما تعلقت به كلتا الطائفتين من النصوص التي في القرآن والسنن ويكفر من هذا كله قول الله عز وجل: " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " وقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقال تعالى: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " وقال تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " فصح بهذا كله أنه لا يخرجه عن اسم الإيمان إلا الكفر ولا يخرجه عن اسم الكفر إلا الإيمان وأن الأعمال حسنها حسن إيمان وقبيحها قبيح ليس إيماناً والموازنة تقضي على كل ذلك ولا يحبط الأعمال إلا الشرك قال تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك " وقالوا إذا أقررتم أن أعمال البر كلها إيمان وأن المعاصي ليست أيماناً فهو عندكم مؤمن غير مؤمن قلنا نعم ولا نكرة في ذلك وهو مؤمن بالعمل الصالح غير مؤمن بالعمل السيء كما نقول محسن بما أحسن فيه مسيء غير محسن معاً بما أساء فيه وليس الإيمان عندنا التصديق وحده فيلزمنا التناقض وهذا هو معنى قول النبي ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي ليس مطيعاً في زناه ذلك وهو مؤمن بسائر حسناته واحتجوا بقول الله تعالى: " وكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " ففرق تعالى بين الفسق والإيمان.
قال أبو محمد: نعم وقد أوضحنا أن الإيمان هو كل عمل صالح فبيقين ندري أن الفسق ليس إيماناً فمن فسق فلم يؤمن بذلك العمل الذي هو الفسق ولم يقل عز وجل أنه لا يؤمن في شيء من سائر أعماله وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم " فهؤلاء قد شهد الله تعالى لهم بالإيمان فإذا وقع منهم فسق ليس إيماناً فمن المحال أن يبطل فسقه إيمانه في سائر أعماله وأن يبطل إيمانه في سائر الأعمال فسقه بل شهادة الله تعالى له بالإيمان في جهاده حق وبأنه لم يؤمن في فسقه حق أيضاً فإن الله عز وجل قال: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " فيلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص قال أبو محمد: وأما نحن فنقول أن كل من كفر فهو فاسق ظالم عاص وليس كل فاسق ظالم عاص كافراً بل قد يكون مؤمناً وبالله تعالى التوفيق وقد قال تعالى: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " فبعض الظلم مغفور بنص القرآن.
قال أبو محمد: وقالوا قد وجب لعن الفساق والظالمين وقال تعالى: " ألا لعنة الله على الظالمين " والمؤمن يجب ولايته والدعاء له بالرحمة وقد لعن رسول الله ﷺ السارق ومن لعن أباه ومن غير منار الأرض فيلزمكم أن تدعوا على المرء الواحد باللعنة والمغفرة معاً.
قال أبو محمد: فنقول أن المؤمن الفاسق يتولى دينه وملته وعقده وإقراره ويتبرأ من عمله الذي هو الفسق والبراءة والولاية ليست من عين الإنسان مجردة فقط وإنما هي له أو منه بعمله الصالح أو الفاسد فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن المحسن في بعض أفعاله من المؤمنين نتولاه من أجل ما أحسن فيه ونبرأ من عمله السيء فقط وأما الله تعالى فإنه يتولى عمله الصالح عنده ويعادي عمله الفاسد وأما الدعاء باللعنة والرحمة معاً فلسنا ننكره بل هو معنى صحيح وما جاء عن الله قط ولا عن رسول الله ﷺ نهي أن يلعن العاصي على معصيته ويترحم عليه لإحسانه ولو أن امرأ زنى أو سرق وحال الحول على ماله وجاهد لوجب أن يحد للزنا والسرقة ولو لعن لأحسن لاعنه ويعطي نصيبه من المغنم ونقبض زكاة ماله ونصلي عليه عند ذلك لقول الله: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " وبيقين ندري أن قد كان في أولئك الذين كان عليهم السلام يقبض صدقاتهم ويصلي عليهم مذنبون عصاة لا يمكن البتة أن يخلوا جميع جزيرة العرب من عاص وكذلك كل من مات في عصره عليه السلام وصلى عليه هو عليه السلام والمسلمون معه وبعده فبيقين ندري أنه قد كان فيهم مذنب بلا شك وإذا صلى عليه ودعا له بالرحمة وإن ذكر عمله القبيح لعن وذم.
قال أبو محمد: ونعكس عليهم هذا السؤال نفسه في أصحاب الصغاير الذين يوقع عليهم المعتزلة اسم الإيمان فهذه السؤالات كلها لازمة لهم إذ الصغاير ذنوب ومعاص بلا شك إلا أننا لا نوقع عليها اسم فسق ولا ظلم إذا انفردت عن الكباير لأن الله تعالى ضمن غفرانها لمن اجتنب الكباير ومن غفر له ذنبه فمن المحال أن يوقع عليه اسم فاسق أو اسم ظالم لأن هذين اسمان يسقطان قبول الشهادة ومجتنب الكباير وإن تستر بالصغاير فشهادته مقبولة لأنه لا ذنب له وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولنا على المعتزلة الزامات أيضاً تعمهم والخوارج المكفرة ننبه عليها عند نقضنا أقوال المكفرة إن شاء الله تعالى وبه نتأيد.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة كافر قال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فأتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول ونص تعالى على أن القاتل عمداً وولي المقتول أخوان وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون أخوة " فصح أن القاتل عمداً مؤمن بنص القرآن وحكم له بأخوة الإيمان ولا يكون للكافر مع المؤمن بتلك الأخوة وقال تعالى: " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى أن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالها حتى تفيء إلى أمر الله تعالى أخوة للمؤمنين المقاتلين وهذا أمر لا يضل عنه إلاضال وهذه الآيتان حجة قاطعة أيضاً على المعتزلة أيضاً المسقطة اسم الإيمان عن القاتل وعن كل من أسقط عن صاحب الكباير اسم الإيمان وليس لأحد أن يقول أنه تعالى إنما جعلهم إخواننا إذا تابوا لأن نص الآية أنهم إخوان في حالة البغي وقبل الفئة إلى الحق.
قال أبو محمد: وقال بعضهم أن هذا الاقتتال إنما هو التضارب.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أنه دعوى بلا برهان وتخصيص الآية بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل بلا شك والثاني أن ضرب المسلم للمسلم ظلماً وبغياً فسق ومعصية ووجه ثالث وهو أن الله تعالى لو لم يرد القتال المعهود لما أمرنا بقتال من لا يزيد على الملاطمة وقد عم تعالى فيها باسم البغي فكل بغي فهو داخل تحت هذا الحكم.
قال أبو محمد: وقد ذكروا قول الله عز وجل: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ".
قال أبو محمد: فهذه الآية بظاهرها دون تأويل حجة لنا عليهم لأنه ليس فيها أن القاتل العامل ليس مؤمناً وإنما فيها نهي المؤمن عن قتل المؤمن عمداً فقط لأنه تعالى قال: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا " وهكذا نقول ليس للمؤمن قتل المؤمن عمداً ثم قال تعالى: " إلا خطأ " فاستثنى الله عز وجل الخطاء في القتل من جملة ما حرم من قتل المؤمن للمؤمن لأنه لا يجوز النهي عما لا يمكن الانتهاء عنه ولا يقدر عليه لأن الله تعالى أمننا من أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وكل فعل خطأ فلم ننه عنه بل قد قال تعالى: " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " فبطل تعلقهم بهذه الآية وكذلك قول رسول الله ﷺ: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " فهو أيضاً على ظاهره وإنما في هذا اللفظ النهي عن أن يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط وليس في هذا اللفظ أن القاتل كافر ولا فيه أيضاً النهي عن القتل المجرد أصلاً وإنما نهى عنه في نصوص أخر من القرآن والسنن كما ليس في هذا اللفظ أيضاً نهي عن الزنا ولا عن السرقة وليس في كل حديث حكم كل شريعة فبطل تعلقهم بهذا الخبر وكذلك قوله عليه السلام: " سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر " فهو أيضاً على عمومه لأن قوله عليه السلام المسلم هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في أن القاتل عمداً والمقاتل مؤمنان وكلامه عليه السلام لا يتعارض ولا يختلف وكذلك قوله عليه السلام: " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر لكم أن ترغبوا عن آبائكم " فإنه عليه السلام لم يقل كفر منكم ولم يقل أنه كفر بالله تعالى نعم ونحن نقر أن من رغب عن أبيه فقد كفر بأبيه وجحده ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافر أو فاسق ألم يقل الله عز وجل: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم " وقال تعالى: " فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " وقال تعالى: " وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ " وقال تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين " وفي سورة النساء محصنات غير مسافحات فهذه آيات في غاية البيان في أنه ليس في الأرض إلا مؤمن أو كافر أو مؤمنة أو كافرة ولا يوجد دين ثالث وأن المؤمنة حلال نكاحها للمؤمن وحرام نكاحها على الكافر وأن الكتابية حلال للمؤمن بالزواج وللكافر فخبرونا إذا زنت المرأة وهي غير محصنة أو وهي محصنة أو إذا سرقت أو شربت الخمر أو قذفت أو أكلت مال يتيم أو تعمدت ترك الغسل حتى خرج وقت الصلاة وهي عالمة بذلك أو لم تخرج زكاة مالها فكانت عندكم بذلك كافرة أو بريئة من الإسلام خارجة عن الإيمان وخارجة من جملة المؤمنين أيحل للمؤمن الفاضل ابتداء نكاحها والبقاء معها على الزوجية إن كان قد تزوجها قبل ذلك أو يحرم على أبيها الفاضل أو أخيها البر أن يكونا لها وليين في تزويجها وأخبرونا إذا زنا الرجل أو سرق أو قذف أو أكل مال يتيم أو فر من الزحف أو سحر أو ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها أو لم يخرج زكاة ماله فصار بذلك عندكم كافراً أو بريء من الإسلام وخرج عن الإيمان وعن جملة المؤمنين أيحرم عليه ابتداء نكاح امرأة مؤمنة أو وطؤها بملك اليمين أو تحرم عليه امرأته المؤمنة التي في عصمته فينفسخ نكاحها منه أو يحرم عليه أن يكون ولياً لابنته المؤمنة أو أخته المؤمنة في تزويجها وهل يحرم على التي ذكرنا والرجل الذي ذكرنا ميراث وليه المؤمن أو يحرم على وليهما المؤمن ميراثهما أو يحرم أكل ذبيحته لأنه قد فارق الإسلام في زعمكم وخرج عن جملة المؤمنين فإنهم كلهم لا يقولون بشيء من هذا فمن الخلاف المجرد منهم لله تعالى أن يحرم الله تعالى المؤمنة على من ليس بمؤمن فيحلونها هم ويحرم الله تعالى التي ليست مؤمنة على المؤمن ألا تكون كتابية فيحلونها هم ويقطع الله تعالى الولاية بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيبقونها هم في الإنكاح ويحرم الله تعالى ذبائح من ليس مؤمناً إلا أن يكون كتابياً فيحلونها هم ويقطع عز وجل الموارثة بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيثبتونها هم ومن خالف القرآن وثبت على ذلك بعد قيام الحجة عليه فنحن نبرأ إلى الله تعالى منه.
قال أبو محمد: وأكثر هذه الأمور التي ذكرنا فإنه لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيها ولا بين فرقة من الفرق المنتمية إلى الإسلام وفي بعضها خلاف نشير إليه لئلا يظن ظان أننا أغفلناه فمن ذلك الخلاف في الزاني والزانية فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسخ النكاح قبل الدخول بوقوعه من أحدهما والحسن البصري وغيره من السلف لا يجيزون للزاني ابتداء النكاح مع مسلمة البتة ولا للزانية أيضاً إلا أن يتوبا وبهذا نقول نحن ليس لأنهما ليسا مسلمين بل هما مسلمان ولكنها شريعة من الله تعالى واردة في القرآن في ذلك كما يحرم على المحرم النكاح مادام محرماً وبالله تعالى التوفيق وذلك قوله تعالى: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ". قال أبو محمد: وفي هذه الآية أيضاً نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين لأن الله تعالى فرق بينهما فرقاً لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد بل على أنهما صفتان مختلفان وإذا لم يكونا مشركين فهما ضرورة مسلمان بما قد بينا قبل من أن كل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر ومن لم يكن كافراً مشركاً فهو مؤمن إذ لا سبيل إلى دين ثالث وبالله تعالى التوفيق ومن الخلاف في بعض ما ذكرنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإبراهيم النخعي أن المسلم إذا ارتد والمسلمة إذا لم يسلم زوجها فهي امرأته كما كانت إلا أنه لا يطؤها وروي عن عمر أيضاً أنها تخير في البقاء معه أو فراقه وكل هذا لا حجة فيه ولا حجة إلا في نص قرآن أو سنة واردة عن رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن الله عز وجل قد أمر بقتل المشركين ولم يستثن منهم أحداً إلا كتابياً يغرم الجزية مع الصغار أو رسولاً حتى يؤدي رسالته ويرجع إلى مأمنه أو مستجيراً ليسمع كلام الله تعالى ثم يبلغ إلى مأمنه وأمر رسول الله ﷺ بقتل من بدل دينه فنسأل كل من قال بأن صاحب الكبيرة قد خرج من الإيمان وبطل إسلامه وصار في دين آخر إما الكفر وإما الفسق إذا كان الزاني والقاتل والسارق والشارب للخمر والقاذف والفار من الزحف وآكل مال اليتيم قد خرج عن الإسلام وترك دينه أيقتلونه كما أمر رسول الله ﷺ عن الله أم لا يقتلونه فيخالفون الله تعالى ورسوله ﷺ ومن قولهم كلهم خوارجهم ومعتزليهم أنهم لا يقتلونه وأما في بعض ذلك حدود معروفة من قطع يد أو جلد مائة أو ثمانين وفي بعض ذلك أدب فقط وأنه لا يحل الدم بشيء من ذلك وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم لا خفاء به.
قال أبو محمد: وبعض شاذة الخوارج جسر فقال تقام الحدود عليهم ثم يستتابون فيقتلون.
قال أبو محمد: وهذا خلاف الإجماع المتيقن وخلاف للقرآن مجرد لأن الله تعالى يقول: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا " فقد حرم الله تعالى قتلهم وافترض استبقاءهم مع إصرارهم ولم يجعل فيهم إلا رد شهادتهم فقط ولو جاز قتلهم فطيف كانوا يؤدون شهادة لا تقبل بعد قتلهم.
قال أبو محمد: وقال الله عز وجل: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ".
قال أبو محمد: لا خلاف بيننا وبينهم ولا بين أحد من الأمة في أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فإنه مؤمن مسلم فلو كان الفاسق غير مؤمن لكان كافراً ولا بد ولو كان كافراً لكان مرتداً يجب قتله وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل: " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم " وقال تعالى: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " فوجب يقيناً بأمر الله عز وجل ألا يترك يعمر مساجد الله بالصلاة فيها إلا المؤمنون وكلهم متفق معنا على أن الفاسق صاحب الكبائر مدعو ملزم عمارة المساجد للصلاة مجبر على ذلك وفي إجماع الأمة كلها على ذلك وعلى تركهم يصلون معنا وإلزامهم أداء الزكاة وأخذها منهم وإلزامهم صيام رمضان وحج البيت برهان واضح لا إشكال فيه على أنه لم يخرج عن دين المؤمنين وأنه مسلم مؤمن وقال عز وجل: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ " إلى قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " فخاطب تعالى المؤمنين باياس الكافرين عن دينهم ولا سبيل إلى قسم ثالث وقال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " فصح أن لا دين إلا دين الإسلام وما عداه شيء غير مقبول وصاحبه يوم القيامة خاسر وبالله تعالى التوفيق وقال عز وجل " المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " وقال تعالى: " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض " وقال تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " وقال تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير " فصح يقيناً أنه ليس في الناس ولا في الجن إلا مؤمن أو كافر فمن خرج عن أحدهما دخل في الآخر فنسألهم عن رجل من المسلمين فسق وجاهر بالكباير وله أختان إحداهما نصرانية والثانية مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هذا الفاسق ولياً في النكاح ووارثاً وعن امرأة سرقت وزنت ولها ابنا عم أحدهما يهودي والآخر مسلم فاضل أيهما يحل له نكاحها وهذا ما لا خلاف فيه ولا خفاء به فصح أن صاحب الكباير مؤمن وقال الله تعالى: " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا " وقال تعالى: " إنما يتقبل الله من المتقين " فأخبرونا أتأمرون الزاني والسارق والقاذف والقاتل بالصلاة وتؤدبونه أن لم يصل أم لا فمن قولهم نعم ولو قالوا لا لخالفوا الإجماع المتيقن فنقول لهم أفتأمرونه بما هو عليه أم بما ليس عليه وربما يمكن أن يقبله الله تعالى أم بما يوقن أنه لا يقبله فإن قالوا نأمره بما ليس عليه ظهر تناقضهم إذ لا يجوز أن يلزم أحد ما لا يلزمه وإن قالوا بل بما عليه قطعوا بأنه مؤمن لأن الله تعالى أخبر أن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً وإن قالوا نأمره بما لا يمكن أن يقبل منه أحالوا إذ من المحال أن يؤمر أحد بعمل هو على يقين بأنه لا يقبل منه وإن قالوا بل نأمره بما نرجو أن يقبل منه قلنا صدقتم وقد صح بهذا أن الفاسق من المتقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من المعاصي ونسألهم أيأمرون صاحب الكبيرة بتمتيع المطلقة إن طلقها أم لا فإن قالوا نأمره بذلك لزمهم أنه من المحسنين المتقين لأن الله تعالى يقول في المتعة حقاً على المحسنين وحقاً على المتقين فصح أن الفاسق محسن فيما عمل من صالح ومسيء فيما عمل من سيء فإن قالوا أن الصلاة عليه كما هي عندكم على الكفار أجمعين قلنا لا سواء لأنها وإن كان الكافر وغير المتوضئ والجنب مأمورين بالصلاة معذبين على تركها فإنا لا نتركهم يقيمونها أصلاً بل نمنعهم منها حتى يسلم الكافر ويتوضأ المحدث ويغتسل الجنب ويتوضأ أو يتيمم وليس كذلك الفاسق بل نجبره على إقامتها.
قال أبو محمد: وهذا لا خلاف فيه من أحد إلا أن الجبائي المعتزلي ومحمد بن الطيب الباقلاني ذهبا من بين جميع الأمة إلى إن كانت له ذنوب فإنه لا تقبل له توبة من شيء منها حتى يتوب من الجميع واتبعهما على ذلك قوم وقد ناظرنا بعضهم في ذلك وألزمناهم أن يوجبوا على كل من أذنب ذنباً واحداً أن يترك الصلاة الفرض والزكاة وصوم رمضان والجمعة والحج والجهاد لأن إقامة كل ذلك توبة إلى الله من تركها فإذا كانت توبته لا تقبل من شيء حتى يتوب من كل ذنب له فإنه لا يقبل له توبة من ترك صلاة ولا من ترك صوم ولا من ترك زكاة إلا حتى يتوب من كل ذنب له وهذا خلاف لجميع الأمة إن قالوه أو تناقض إن لم يقولوه مع أنه قول لا دليل لهم على تصحيحه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل قال الله تعالى: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " وقال تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " وقال تعالى: " وصالح المؤمنين " فصح يقيناً بهذا اللفظ أن فينا غير عدل وغير صالح وهما منا ونحن المؤمنون فهو مؤمن بلا شك وقال تعالى: " فإن تابوا " يعني من الشرك " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " وهذا نص جلي على أن من صلى من أهل شهادة الإسلام وزكى فهو أخونا في الدين ولم يقل تعالى ما لم يأت بكبيرة فصح أنه منا وإن أتى بالكباير.
قال أبو محمد: فإن ذكروا قول الله تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " وقوله تعالى: " ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم " وراموا بذلك إثبات أنه لا مؤمن ولا كافر فهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما وصف بذلك المنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام فهم لا مع الكفار ولا منهم ولا إليهم لأن هؤلاء يظهرون الإسلام وأولئك لا يظهرونه ولا هم مع المسلمين ولا منهم ولا إليهم لإبطانهم الكفر وليس في هاتين الآيتين أنهم ليسوا كفاراً وقد قال عز وجل: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فصح يقيناً أنهم كفار لا مؤمنون أصلاً وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة منافق ما معنى هذه الكلمة فجوابهم الذي لا جواب لأحد في هذه المسألة غيره هو أن المنافق من كان النفاق صفته ومعنى النفاق في الشريعة هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر فيقال له وبالله تعالى التوفيق لا يعلم ما في النفوس إلا الله تعالى ثم تلك النفس التي ذلك الشيء فيها فقط ولا يجوز أن نقطع على اعتقاد أحد الكفر إلا بإقراره بلسانه بالكفر وبوحي من عند الله تعالى ومن تعاطى علم ما في النفوس فقد تعاطى علم الغيب وهذا خطأ متيقن يعلم بالضرورة وحسبك من القول سقوطاً أن يؤدي إلى المحال المتيقن وقد قيل لرسول الله ﷺ: " رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه " فقال عليه السلام: " إني لم أبعث لأشق على قلوب الناس " وقد ذكر الله تعالى المنافقين فقال لرسول الله ﷺ: " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " فإذا كان رسول الله ﷺ لا يعرف المنافقين وهم معه وهو يراهم ويشاهد أفعالهم فمن بعده أحرى أن لا يعلمهم ولقد كان الزناة على عهده ﷺ والسرقة والشراب ومضيعوا فرض الصلاة في الجماعة والقاتلون عمداً والقذفة فما سمى عليه السلام قط أحداً منهم منافقين بل أقام الحدود في ذلك وتوعد بحرق المنازل وأمر بالدية والعفو وأبقاهم في جملة المؤمنين وأبقى عليهم حكم الإيمان واسمه وقد قلنا أن التسمية في الشريعة لله عز وجل لا لأحد دونه ولم يأت قط عن الله عز وجل تسمية صاحب الكبيرة منافقاً فإن قالوا قد صح عن النبي ﷺ أنه قال وقد ذكر خصالاً من كن فيه كان منافقاً خالصاً وإن صام وصلى وقال إني مسلم وذكر عليه السلام تلك الخصال فمنها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وذكر عليه السلام أن من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها قلنا له وبالله تعالى التوفيق صدق رسول الله ﷺ وقد أخبرناك أن المنافق هو من أظهر شيئاً وأبطن خلافه مأخوذ في أصل اللغة من نافقاء اليربوع وهو باب في جانب جحره مفتوح قد غطاه بشيء من تراب وهذه الخلال كلها التي ذكرها رسول الله ﷺ كلها باطن صاحبها بخلاف ما يظهر فهو منافق هذا النوع من النفاق وليس هو النفاق الذي يظن صاحبه الكفر بالله برهان ذلك ما ذكرناه آنفاً من إجماع الأمة على أخذ زكاة مال كل من وصف رسول الله ﷺ بالنفاق وعلى إنكاحه ونكاحها إن كانت امرأة وموارثته وأكل ذبيحته وتركه يصلي مع المسلمين وعلى تحريم دمه وماله ولو تيقنا أنه يبطن الكفر لوجب قتله وحرم نكاحه ونكاحها وموارثته وأكل ذبيحته ولم نتركه يصلي مع المسلمين ولكن تسمية النبي ﷺ من ذكر منافقاً كتسمية الله عز وجل الذراع كفاراً إذ يقول الله تعالى: " كمثل غيث أعجب الكفار نباته " لأن أصل الكفر في اللغة التغطية فمن ستر شيئاً فهو كافر له وأصل النفاق في اللغة ستر شيء وإظهار خلافه فمن ستر شيئاً وأظهر خلافه فهو منافق فيه وليس هذان من الكفر الديني ولا من النفاق الشرعي في شيء وبهذا تتألف الآيات والأحاديث كلها وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لمن قال بهذا القول هل أتيت بكبيرة قط فإن قال لا قيل له هذا القول كبيرة لأنه تذكية وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم " وقد علمنا أنه لا يعرى أحد من ذنب إلا الملائكة والنبيين صلى الله عليهم وسلم وأما من دونهم فغير معصوم بل قد اختلف الناس في عصمة الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام وإن كنا قاطعين على خطأ من جوز على أحد من الملائكة ذنباً صغيراً أو كبيراً بعمد أو خطأ وعلى خطأ من جوز على أحد من النبيين ذنباً بعمد صغيراً أو كبيراً لكنا أعلمنا أنه لم يتفق على ذلك قط وإن قال بلى قد كان لي كبيرة قيل هل كنت في حال مواقعتك الكبيرة شاكاً في الله عز وجل أو في رسوله ﷺ أو كافراً بهما أم كنت موقناً بالله تعالى وبالرسول ﷺ وبما أتى به موقناً بأنك مسيء مخطئ في ذنبك فإن قال كنت كافراً أو شاكاً فهو أعلم بنفسه ويلزمه أن يفارق وأمته المسلمتين ولا يرث من مات له من المسلمين ثم بعد ذلك لا يجوز له أن يقطع على غيره من المذنبين بمثل اعتقاده في الجحد ونحن نعلم بالضرورة كذب دعواه وندري أننا في حين ما كان منا ذنب مؤمنون بالله تعالى وبرسوله ﷺ وإن قال بل كنت مؤمناً بالله تعالى وبرسوله ﷺ في حال ذنبي قيل له هذا إبطال منك للقول بالنفاق والقطع به على المذنبين.
قال أبو محمد: ففي إجماع الأمة كلها دون مختلف من أحد منهم على أن صاحب الكبيرة مأمور بالصلاة مع المسلمين وبصوم شهر رمضان والحج وبأخذ زكاة ماله وإباحة مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته وبتركه يتزوج المرأة المسلمة الفاضلة ويبتاع الأمة المسلمة الفاضلة ويطأها وتحريم دمه وماله وأن لا يؤخذ منه جزية ولا يصغر برهان صحيح على أنه مسلم مؤمن وفي إجماع الأمة كلها دون مخالف على تحريم قبول شهادته وخبره برهان على أنه فاسق فصح يقيناً أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان عن المؤمن الذي ليس بفاسق قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " فأما من قال أنه كافر نعمة فما لهم حجة أصلاً إلا أن بعضهم نزغ بقول الله تعالى: " الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن نص الآية مبطل لقولهم لأن الله تعالى يقول متصلاً بقوله: " وبئس القرار وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله " فصح أن الآية في المشركين بلا شك وأيضاً فقد يكفر المرء نعمة الله ولا يكون كافراً بل مؤمناً بالله تعالى كافراً لأنعمه بمعاصيه لا كافراً على الإطلاق وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا فهو كافر وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك فاسق غير كافر في بعضه على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم وذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر وأن من خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافراً ولا فاسقاً ولكنه مجتهد معذور أن الخطأ مأجور بنيته وقالت طائفة بمثل هذا فيمن خالفهم في مسائل العبادات وقالوا فيمن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كان الخلاف في صفات الله عز وجل فهو كافر وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلي وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عن جميعهم وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً إلا من ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك صيام رمضان أو شرب الخمر واحتج من كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل.
قال أبو محمد: ذكروا حديثاً عن رسول الله ﷺ أن القدرية والمرجئية مجوس بهذه الأمة وحديثاً آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة حاشا واحدة فهي في الجنة.
قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ: " من قال لأخيه فقد باء بالكفر أحدهما ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن لفظه يقتضي أنه يأثم برميه للكفر ولم يقل عليه السلام أنه بذلك كافر. قال أبو محمد: و الجمهور من المحتجين بهذا الخبر لا يكفرون من قال لمسلم يا كافر في مشاتمة تجري بينهما وبهذا خالفوا الخبر الذي احتجوا به.
قال أبو محمد: والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع وأما بالدعوة والافتراء فلا فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله ﷺ قاله فستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله ﷺ منقولاً نقل إجماع تواتر أو نقل آحاد إلا أن من خالف الإجماع المتقين المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته ووجوب تكفيره لا تفاق الجميع على معرفة الإجماع وعلى تكفير مخالفته برهان صحة قولنا قول الله تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ".
قال أبو محمد: هذه الآية نص بتكفير من فعل ذلك فإن قال قائل أن من اتبع غير سبيل المؤمنين فليس من المؤمنين قلنا له وبالله تعالى التوفيق ليس كل من اتبع غير سبيل المؤمنين كافراً لأن الزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل ليست من سبيل المؤمنين وقد علمنا أن من اتبعها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وليس مع ذلك كافراً ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " قال أبو محمد: فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلاً ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلاً ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
قال أبو محمد: وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان فلا يكون كافراً إلا أن يأتي نص بتكفيره فيوقف عنده كمن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي ﷺ فقط فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر فإن قال قائل فما تقولون فيمن قال أنا أشهد أن محمداً رسول الله ولا أدري أهو قرشي أم تميمي أم فارسي ولا هل كان بالحجاز أو بخرسان ولا أدري أحي هو أو ميت ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره قيل له إن كان جاهلاً لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم يضره ذلك شيئاً ووجب تعليمه ووجب تعليمه فإذا علم وصح عنده الحق فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله محكوم عليه حكم المرتد وقد علمنا أن كثيراً ممن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل نعم وكثيراً من الصالحين لا يدري كم لموت النبي ﷺ ولا أين كان ولا في أي بلد كان ويكفيه من كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلاً اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين.
قال أبو محمد: وكذلك من قال أن ربه جسم فإنه إن كان جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه ويجب تعليمه فإذا قامت الحجة عليه من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عناداً فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد وأم من قال أن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه أو أن بعد محمد ﷺ نبياً غير عيسى بن مريم فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد ولو أمكن أن قال أبو محمد: وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفراً بل قد أحسن إذا فر من الكفر وأيضاً فإنه ليس للناس قول إلا ومخالف ذلك القول يلزم خصمه الكفر في فساد قوله وطرده فالمعتزلة تنسب إلينا تجوير الله عز وجل وتشبيهه بخلقه ونحن ننسب إليهم مثل ذلك سواء بسواء ونلزمهم أيضاً تعجيز الله عز وجل وأنهم يزعمون أنهم يخلقون كخلقه وأن له شركاء في الخلق وأنهم مستغنون عن الله عز وجل ومن أثبت الصفات يسمي من نفاها باقية لأنهم قالوا تعبدون غير الله تعالى لأن الله تعالى له صفات وأنتم تعبدون من لا صفة له ومن نفى الصفات يقول لمن أثبتها أنتم تجعلون مع الله عز وجل لم تزل وتشركون به غيره وتعبدون غير الله لأن الله تعالى لا أحد معه ولا شيء معه في الأزل وأنتم تعبدون شيئاً من جملة أشياء لم تزل وهكذا في كل ما اختلف فيه حتى في الكون والجزء وحتى في مسائل الأحكام والعبادات فأصحاب القياس يدعون علينا خلاف الإجماع وأصحابنا يثبتون عليهم خلاف الإجماع وإحداث شرائع لم يأذن الله عز وجل بها وكل فرقة فهي تنتفي بما تسميها به الأخرى وتكفر من قال شيئاً من ذلك فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونص معتقده ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط وأما الأحاديث الواردة في أن ترك الصلاة شرك فلا تصح من طريق الإسناد وأما الأخبار التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقد جاءت أحاديث أخر بزيادة على هذا الخبر لا يجوز ترك تلك الزيادة وهي قوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فهذا هو الذي لا إيمان لأحد بدونه.
قال أبو محمد: واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة رضي الله عنهم بقول الله عز وجل: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " إلى قوله: " ليغيظ بهم الكفار " قال فكل من أغاظه أحد من أصحاب رسول الله ﷺ فهو كافر.
قال أبو محمد: وقد أخطأ من حمل الآية على هذا لأن الله عز وجل لم يقل قط أن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر وإنما أخبر تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط ونعم هذا حق لا ينكره مسلم وكل مسلم فهو يغيظ الكفار وأيضاً فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن علياً قد غاظ معاوية وأن معاوية وعمرو بن العاص غاظا علياً وأن عماراً غاظ أبا العادية وكلهم أصحاب رسول الله ﷺ فقد غاظ بعضهم بعضاً فيلزم على هذا تكفير من ذكرنا وحاشا لله من هذا.
قال أبو محمد: ونقول لمن كفر إنساناً بنفس مقالته دون أن تقوم عليه الحجة فيعاند رسول الله ﷺ ويجد في نفسه الحرج مما أتى به أخبرنا هل ترك رسول الله ﷺ شيئاً من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به إلا وقد بينه ودعا إليه الناس كافة فلا بد من نعم ومن أنكر هذا فهو كافر بلا خلاف فإذا أقر بذلك سئل هل جاء قط عن النبي ﷺ أنه لم يقبل إيمان أهل قرية أو أهل محلة أو إنسان أتاه من حر أو عبداً أو امرأة إلا حتى يقران الاستطاعة قبل الفعل أو مع الفعل أو أن القرآن مخلوق أو أن الله تعالى يرى أو لا يرى أو أن له سمعاً وبصراً وحياة أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان بينهم ليوقع بينهم العداوة والبغضاء فإن ادعى أن النبي ﷺ لم يدع أحداً يسلم إلا حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض وقال ما يدري أنه فيه كاذب وادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام وهذا محال ممتنع في الطبيعة ثم فيه نسبة الكفر إليهم إذ كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلا به وإن قالوا أنه ﷺ لم يدع قط أحداً إلى شيء من هذا ولكنه مودع في القرآن وفي كلامه ﷺ قيل له صدقت وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله كفراً لما ضيع رسول الله ﷺ بيان ذلك للحر والعبد والحرة والأمة ومن جوز هذا فقد قال أن رسول الله ﷺ لم يبلغ كما أمر وهذا كفر مجرد ممن أجازه فصح ضرورة أن الجهل بكل ذلك لا يضر شيئاً وإنما يلزم الكلام منها إذا خاض فيها الناس فيلزم حينئذ بيان الحق من القرآن والسنة لقول الله عز وجل: " كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " ولقول الله عز وجل: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه " فمن عند حينئذ بعد بيان الحق فهو كافر لأنه لم يحكم رسول الله ﷺ ولا سلم لما قضى به وقد صح عن رسول الله ﷺ أن رجلاً لم يعمل خيراً قط فلما حضره الموت قال لأهله إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح نصفه في البحر ونصفه في البر فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحد من خلقه وأن الله عز وجل جمع رماده فأحياه وسأله ما حملك على ذلك قال خوفك يا رب وأن الله تعالى غفر له لهذا القول.
قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي إنما هو لئن ضيق الله علي كما قال تعالى: " وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ".
قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى ولا شك في أنه إنما قال أبو محمد: وأبين شيء من هذا قول الله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " إلى قوله: " ونعلم إن قد صدقتنا " فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا ما لا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيينهم لها.
قال أبو محمد: وبرهان ضروري لا خلاف فيه وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك وأسقط كلمة عمداً كذلك أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ويبدل كلامه جاهلاً مقدراً أنه مصيب ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ولا فاسقاً ولا آثماً فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإن تمادى على خطاه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة.
قال أبو محمد: واحتج بعضهم بأن قال الله تعالى: " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ".
قال أبو محمد: وآخر هذه الآية مبطل لتأويلهم لأن الله عز وجل وصل قوله يحسنون صنعاً بقوله: " أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا " فهذا يبين أن أول الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة ثم نقول لهم لو نزلت هذه الآية في المتأولين من جملة أهل الإسلام كما تزعمون لدخل في جملتها كل متأول مخطئ في تأويل في فتيا لزمه تكفير جميع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم قد اختلفوا وبيقين ندري أن كل امرأ منهم فقد يصيب ويخطأ بل يلزمه تكفير جميع الأمة لأنهم كلهم لا بد من أن يصيب كل امرئ منهم ويخطئ بل يلزمه تكفير نفسه لأنه لا بد لكل من تكلم في شيء من الديانة من أن يرجع عن قول قاله إلى قول آخر يتبين له أنه أصح إلا أن يكون مقلداً فهذه أسوأ لأن التقليد خطأ كله لا يصح ومن بلغ إلى هاهنا فقد لاح غوامر قوله وبالله تعالى التوفيق وقد أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه أنه لم يفهم آية الكلالة فما كفره بذلك ولا فسقه ولا أخبره أنه آثم بذلك لكن أغلظ له في كثرة تكراره السؤال عنها فقط وكذلك أخطأ جماعة من صحابة رضي الله عنهم في حياة رسول الله ﷺ في الفتيا فبلغه عليه السلام ذلك فما كفر بذلك أحد منهم ولا فسقه ولا جعله بذلك إثماً لأنه لم يعانده عليه السلام أحد منهم وهذا كفتيا أبي السنابل بعكك في آخر الأجلين والذين أفتوا على الزاني غير المحصن الرجم وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب الأحكام في أصول الأحكام هذا وأيضاً فإن الآية المذكورة لا تخرج على قول أحد ممن خالفنا إلا بحذف وذلك أنهم يقولون أن الذين في قوله تعالى الذين ضل سعيهم في الحيلة الدنيا هو خبراً ابتداء مضمر ولا يكون ذلك إلا بحذف الابتداء كأنه قال هم الذين لا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذفاً إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك أو إجماع على ذلك أو ضرورة حس فبطل قولهم وصار دعوى بلا دليل وأما نحن فإن لفظة الدين عندنا على موضوعها دون حذف وهو نعت للأخسرين ويكون خبراً لابتداء قوله تعالى: " أولئك الذين كفروا " وكذلك قوله تعالى: " فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ " فنعم هذه صفة القول الذين وصفهم الله تعالى بهذا في أول الآية ورد الضمير إليهم وهم الكفار بنص أول الآية وقال قائلهم أيضاً فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا فأعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل فإنهم أيضاً مجتهدون قاصدون الخير فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا ولا كفرنا من كفرنا بظننا وهوانا وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحداً دونه ولا يدخل الجنة والنار أحد بل الله تعالى يدخلها من شاء فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به كل ذلك على لسان رسول الله ﷺ ولا يختلف اثنان من أهل الأرض لا نقول من المسلمين بل من كل ملة في أن رسول الله ﷺ قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذين تبرأ أهله من كل ملة حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط فوقفنا عند ذلك ولا يختلف أيضاً اثنان في أنه عليه السلام قنع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوى ذلك فوقفنا أيضاً عند ذلك ولا مزيد فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه سواء أجمع على خروجه منه أو لا يجمع وكذلك من أجمع من أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له ولا إجماع في خروجه أيضاً عنه فلا يجوز إخراجه عما قد صح يقيناً حصوله فيه وقد نص الله تعالى على ما قلنا فقال: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " وقال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً " وقال تعالى: " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " فهؤلاء كلهم كفار بالنص وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله ﷺ أتى به فقد كفر وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام أو جحد شيئاً صح عنده بأن النبي ﷺ قال فهو كافر لأنه لم يحكم النبي ﷺ فيما شجر بينه وبين خصمه.
قال أبو محمد: وقد شقق أصحاب الكلام فقالوا ما تقولون فيمن قال له النبي ﷺ قم صل فقال لا أفعل أو قال له النبي ﷺ ناولني ذلك السيف أدفع به عن نفسي فقال له لا أفعل.
قال أبو محمد: وهذا أمر قد كفوا وقوعه ولا فضول أعظم من فضول من اشتغل بشيء قد أيقن أنه لا يكون أبداً ولكن الذي كان ووقع فإننا نتكلم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد: قد أمر النبي ﷺ أفضل أهل الأرض وهم أهل الحديبية بأن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حتى أمرهم ثلاثاً وغضب عليه السلام وشكا ذلك إلى أم سلمة فما كفروا بذلك ولكن كانت معصية تداركهم الله بالتوبة منها وما قال مسلم قط أنهم كفروا بذلك لأنهم لم يعاندوه ولا كذبوه وقد قال سعد بن عبادة والله يا رسول الله لئن وجدت لكاع يتفخذها رجل ادعهما حتى آتى بأربعة شهداء قال نعم قال إذاً والله يقضي إربه والله لا تجللنهما بالسيف فلم يكن بذلك كافراً إذ لم يكن عانداً ولا مكذباً بل أقر أنه يدري أن الله تعالى أمر بخلاف ذلك وسألوا أيضاً عمن قال أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض ولكن لا أدري أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس وأنا أدري أن الخنزير حرام ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به.
قال أبو محمد: وجوابنا هو أن من قال هذا فإن كان جاهلاً علم ولا شيء عليه فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا وإن كان عالماً فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى فهو كافر مرتد حلال الدم والمال ومن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا لأنهما لم يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفر وأم ما سب أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان جاهلاً فمعذور وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى وسرق وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله ﷺ فهو كافر وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي ﷺ عن حاطب وحاطب مهاجر بدرى دعني أضرب عنق هذا المنافق فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً بل كان مخطئاً متأولاً وقد قال رسول الله ﷺ آية النفاق بغض قال أبو محمد: ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي ﷺ فهو كافر لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله ﷺ من إظهار الإيمان بأيديهم ومن عاد علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر وكذلك من عادى من ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك وقد فرق بعضهم في الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد بأن قال قد اختلف أصحاب رسول الله ﷺ في الفتيا فلم يكفر بعضهم بعضاً ولا فسق بعضهم بعضاً.
قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء فقد حدث إنكار القدر في أيامهم فما كفرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم وقد اختلفوا في الفتيا واقتتلوا على ذلك وسفكت الدماء كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: من شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفاً ونصفاً وثلثاً.
قال أبو محمد: وهنا أقوال غريبة جداً فاسدة منها أن أقواماً من الخوارج قالوا كل معصية فيها حد فليست كفراً وكل معصية لا حد فيها فهي كفر.
قال أبو محمد: وهذا تحكم بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل قال تعالى: " قال أبو محمد: فصح بما قلنا أن كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق فهو معذور مأجور آجراً واحداً لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه إذ لم يعتمده لقول الله تعالى: " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " وإن كان مصيباً فله أجران أجر لإصابته وأجر آخر لطلبه إياه وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله ﷺ فهو فاسق لجراءته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام فإن عند عن الحق معارضاً لله تعالى ولرسوله ﷺ فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان على ما بينا قبل.
قال أبو محمد: ونحن نختصرها هنا أن شاء الله تعالى ونوضح كل ما أطلنا فيه قال تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " وقال تعالى: " لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ " وقال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلم تسليماً " فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي ﷺ فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي ﷺ حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل فلا شيء عليه أصلاً حتى يبلغه فإن بلغه وصح عنه فإن خالفه مجتهداً فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة كما قال عليه السلام: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر " وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا وهو قول اسحق بن راهوية وغيره وبه نقول وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في تعبد الملائكة وتعبد الحور العين
والخلق المستأنف وهل يعصي ملك أم لا قال أبو محمد: قد نص الله عز وجل على أن الملائكة متعبون قال تعالى: " ويفعلون ما يؤمرون " ونص تعالى على أنه أمرهم بالسجود لآدم وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " إلى قوله: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " وقال تعالى: " وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ويفعلون ما يؤمرون ".
قال أبو محمد: فنص الله تعالى على أنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرومون موعودون بإيصال الكرامة أبداً مصرفون في كتاب الأعمال وقبض الأرواح وأداء الرسالة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتوكل بما في العالم الأعلى والأدنى وغير ذلك كما خالقهم عز وجل به عليم وقوله تعالى: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فأخبر عز وجل أن جبريل عليه السلام مطاع في السموات أمين هنالك فصح أن هنالك أوامر وتدبير وأمانات وطاعة ومراتب ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون بقوله عز وجل: " عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وبقوله: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " وبقوله: " فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ " فنص تعالى على أنهم كلهم لا يسأمون من العبادة ولا يفترون من التسبيح والطاعة لا ساعة ولا وقتاً ولا يستحسرون من ذلك وهذا خبر عن التأييد لا يستحيل أبداً ووجب أنهم متنعمون بذلك مكرمون به مفضلون بتلك الحال وبالتذاذهم بذلك ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون قد حقت لهم ولاية ربهم عز وجل أبد الأبد بلا نهاية فقال تعالى " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " فكفر تعالى من عادى أحد منهم فإن قال قائل كيف لا يعصون والله تعالى يقول: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم " قلنا نعم هم متوعدون هم متوعدون على المعاصي كما توعد رسول الله ﷺ إذ يقول له ربه عز وجل: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وقد علم عز وجل أنه عليه السلام لا يشرك أبداً وإن الملائكة لا يقول أحد منهم أبداً إني إله من دون الله وكذلك قوله تعالى: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " وهو تعالى قد برأهن وعلم أنه لا يأتي أحد منهن بفاحشة أبداً بقوله تعالى: " الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " لكن الله تعالى يقول مل شاء ويشرع ما شاء ويفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فأخبر عز وجل بحكم هذه الأمور لو كانت وقد علم أنها لا تكون كما قال تعالى: " لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين " وكما قال: " لو أراد الله أن يتخذ ولداً لأصطفى مما يخلق ما يشاء " وكما قال تعالى: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " وكما قال تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً " وكل هذا قد علم الله تعالى أنه لا يكون أبداً وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أن الملائكة مأمورون ولا منهيون قلنا هذا باطل لأن كل مأمور بشيء فهو منهي عن تركه وقوله تعالى: " يخافون ربهم من فوقهم " يدل على أنهم منهيون عن أشياء يخافون من فعلها وقال عز وجل: " وما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين ". قال أبو محمد: وهذا مبطل ظن من ظن أن هاروت وماروت كانا ملكين فعصيا بشرب الخمر والزنا والقتل وقد أعاذ الله عز وجل الملائكة من مثل هذه الصفة بما ذكرنا آنفاً أنهم لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون وبإخباره تعالى أنهم لا يسأمون ولا يفترون ولا يستحسرون عن طاعته عز وجل فوجب يقيناً أنه ليس في الملائكة البتة عاص لا بعمد ولا بخطأ ولا بنسيان وقال عز وجل: " جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " فكل الملائكة رسل الله عز وجل بنص القرآن والرسل معصومون فصح أن هاروت وماروت المذكورين في القرآن لا يخلو أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أنم يكونا جنين من أحياء الجن كما روينا عن خالد بن أبي عمران وغيره وموضعهما حينئذ في الجو بدل من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت ويكون الوقوف على قوله ما أنزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا وأما أن يكونا ملكين أنزل الله عز وجل عليهما شريعة حق ثم مسخها فصارت كفراً كما فعل بشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمها وهي بعد كفر كأنه قال تعالى: " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " ثم ذكر عز وجل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى: " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ".
قال أبو محمد: فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قولاً صحيح ونهي عن المنكر وأما الفتنة فقد تكون ضلالاً وتكون هدى قال الله عز وجل حاكياً عن موسى عليه السلام أنه قال لربه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " فصدق الله عز وجل قوله وصح أن يهدي بالفتنة من يشاء ويضل بها من يشاء وقال تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " وليس كل أحد يضل بماله وولده فقد كان للنبي ﷺ أولاد ومال وكذلك لكثير من الرسل عليهم السلام وقال تعالى " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتو الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً " وقال تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتنهم فيه " فهذا سقياً الماء التي هي جزاء عن الاستقامة قد سماها الله تعالى فتنة فصح أن من الفتنة خيراً وهدى ومنها ضلالاً وكفراً والملكان المذكوران كذلك كانا فتنة يهتدي من اتبع أمرها في أن لا يكفر ويضل عصاهما في ذلك وقوله تعالى: " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " حق لأن اتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفتهم يؤمن الزوج فيفرق إيمانه بينه وبين امرأته التي لم تؤمن وتؤمن فيفرق إيمانها بينها وبين زوج الذي لم يؤمن في الدنيا والآخرة وفي الولاية ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عز وجل: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " وهذا حق لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عز وجل وأبطله ضارون من لإذن الله تعالى باستضراره به وهكذا إلى آخر الآية وما قال عز وجل قط أن هاروت وماروت علما سحراً ولا كفراً ولا أنهما عصيا وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة لا تصح من طريق الإسناد أصلاً ولا هي أيضاً مع ذلك عن رسول الله ﷺ وإنما هي موقوفة على من دونه عليه السلام فسقط التعلق بها وصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين وهذا التفسير الأخير هو نص الآية دون تكلف تأويل ولا تقديم ولا تأخير ولا زيادة في الآية ولا نقص منها بل هو ظاهرها والحق المقطوع به عند الله تعالى يقيناً وبالله تعالى التوفيق فإن قيل كيف تصح هذه الترجمة أو الأخرى وأنتم تقولون أن الملائكة لا يمكن أن يراهم إلا نبي وكذلك الشيطان ولا فرق فكيف تعلم الملائكة الناس أو كيف تعلم الجن الناس قلنا وبالله تعالى التوفيق أما الملائكة فيعلمون من أرسلوا إليه من الأنبياء خاصة وينهونهم عن الكفر كما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الكفر في نص القرآن وأما الشياطين فتعلم الناس بالوسوسة في الصدور وتزيين البطل أو يتمثل في صورة إنسان كما تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم قال تعالى: " وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ " وأما الحور العين فنسوا أن مكرمات مخلوقات في الجنة لأولياء الله عز وجل عاقلات مميزات مطيعات لله تعالى في النعيم خلقن فيه ويخلدن بلا نهاية لا يعصين البتة والجنة إذا دخلها أهلها المخلدون فليست دار معصية وكذلك أهل الجنة لا يعصون فيها أصلاً بل هم في نعيم وحمد لله تعالى وذكر له والتذاذ بأكل وشراب ولباس ووطء لا يختلف في ذلك من أهل الإسلام اثنان وبذلك جاء القرآن والحمد لله رب العالمين وأما الولدان المخلدون فهم أولاد الناس الذين ماتوا قبل البلوغ كما جاء عن النبي ﷺ وقد صح عن رسول الله ﷺ أن الله تعالى يخلق خلقاً يملأ بهم الجنة فنحن نقر بهذا ولا ندري أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون في الجنة والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وأما الجن فإن رسول الله ﷺ بعث إليهم بدين الإسلام هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة فكافرهم في النار مع كافرنا وأما مؤمنهم فقد اختلف الناس فيهم فقال أبو حنيفة لا ثواب لهم وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وجمهور الناس إنهم في الجنة وبهذا نقول لقول الله عز وجل: " أعدت للمتقين " لقوله تعالى حاكياً عنهم ومصدقاً لمن قال ذلك منهم " و وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا " وقوله تعالى حاكياً عنه: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به " وقوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ " إلى السورة وهذه صفة تعم الجن والإنس عموماً لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين فيكون فاعل ذلك قائلاً على الله ما لا يعلم وهذا حرام ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين ذلك لنا هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله عز وجل لنا فكيف وقد نص عز وجل على أنهم آمنوا فوجب أهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة ولا بد.
قال أبو محمد: وإذا الجن متعبدون فقد قال رسول الله ﷺ فضلت على الأنبياء بست فذكرنا فيها أن عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وكان من قبله من الأنبياء إنما يبعث إلى قومه خاصة وقد نص عليه السلام على أنه بعث إلى الجن وقال عز وجل: " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ " إلى قوله تعالى: " وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا " وإذ الأمر كما ذكرنا في يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد ﷺ لأنه ليس الجن من قوم أنسي وباليقين ندري أنهم قد أنذروا فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال تعالى: " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " وبالله تعالى التوفيق.
=======4.====
الفصل في الملل والأهواء والنحل/الجزء الرابع
الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
هل تعصى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قال أبو محمد اختلف الناس في هل تعصى الأنبياء عليهم السلام أم لا فذهبت طائفة إلى أن رسل الله ﷺ يعصون الله في جميع الكبائر والصغائر عمداً حاشى الكذب في التبليغ فقد وهذا قول الكرامية من المرجئة وقول ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه وهو قول اليهود والنصارى وسمعت من يحكي عن بعض الكرامية أنهم يجوزون على الرسل عليهم السلام الكذب في البتليغ أيضاً وأما هذا الباقلاني فانا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السمناني قاضي الموصل أنه كان يقول أن كل ذنب دق أو جل فإنه جائز على الرسل حاشى الكذب في التبليغ فقط قال وجائز عليهم أن يكفروا قال وإذا نهى النبي عليه السلام عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلاً على أن ذلك النهي قد نسخ لأنه قد يفعله عاصياً لله عز وجل قال وليس لأصحابه أن ينكروا ذلك عليه وجوز أن يكون في أمة محمد عليه السلام من هو أفضل من قال أبو محمد وهذا كله كفر مجرد وشرك محض وردة عن الإسلام قاطعة للولاية مبيحة دم من دان بها وما له موجبة للبراءة منه في الدنيا ويوم يقوم الإشهاد وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلاً وجوزوا عليهم الصغائر بالعمد وهو قول ابن فورك الأشعري وذهبت جميع أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إلا أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلاً معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة وهو قول ابن مجاهد الأشعري شيخ ابن فورك والباقلاني المذكورين.
قال أبو محمد وهذا قول الذي يدين الله تعالى به ولا يحل لأحد أن يدين بسواه ونقول أنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضاً قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب به منه فيوافق خلاف مراد الله تعالى إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلاً بل ينبههم على ذلك ولا يداثر وقوعه منهم ويظهر عز وجل ذلك لعباده ويبين لهم كما فعل نبيه ﷺ في أمر زينب أم المؤمنين وطلاق زيد لها رضي الله عنهما وفي قصة ابن مكتوم رضي الله عنه وربما يبغض المكروه في الدنيا كالذي أصاب آدم ويونس عليهما الصلاة والسلام والأنبياء عليهم السلام بخلافنا في هذا فإننا غير مؤآخذين بما سهونا فيه ولا بما قصدنا به وجه الله عز وجل فلم يصادف مراده تعالى بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجراً واحداً وقد أخبر رسول الله ﷺ أن الله تعالى قرن بكل أحد شيطاناً وأن الله تعالى أعانه على شيطانه فاسلم فلا يأمره إلا بخير وأما الملائكة فبرآء من كل هذا لأنهم خلقوا من نور محض لا شوب فيه والنور خير كله لا كدر فيه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف.
قال أبو محمد واحتجت الطائفة الأولى بآيات من القرآن وأخبار وردت ونحن إن شاء الله عز وجل نذكرها ونبين غلطهم فيها بالبراهين الواضحة الضرورية وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في آدم عليه السلام
قال أبو محمد فمما احتجوا به قول الله عز وجل " وعصى آدم ربه فغوى وقوله تعالى " ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " قال وا فقربها آدم فكان من الظالمين وقد عصى وغوى و قال تعالى " فتاب عليه " والمتاب لا يكون إلا من ذنب و قال تعالى " فأزلهما الشيطان " وإزلال الشيطان معصية وذكروا قول الله تعالى " فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " هذا كل ما ذكروا في آدم عليه السلام.
قال أبو محمد وهذا كله بخلاف ما ظنوا أما قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى فقد علمنا أن كل خلاف لأمر آمر فصورته صورة المعصية فيسمى معصية لذلك وغواية إلا أنه منه ما يكون عن عمد وذكر فهذه معصية على الحقيقة لأن فاعلها قاصد إلى المعصية وهو يدري أنها معصية وهذا هو الذي نزهنا عنه الأنبياء عليهم السلام ومنه ما يكون عن قصد إلى خلاف ما أمر به وهو يتاول في ذلك الخير ولا يدري أنه عاص بذلك بل يظن أنه مطيع لله تعالى أو أن ذلك مباح له لأنه يتاول أن لأمر الوارد عليه ليس على معنى الإيجاب ولا على التحريم لكن أما على الندب أن كان بلفظ الأمر أو الكراهية إن كان بلفظ النهي وهذا شيء يقع فيه العلماء والفقهاء والأفاضل كثيراً وهذا هو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام ويؤاخذون به إذا وقع منهم وعلى هذا السبيل أكل آدم من الشجرة ومعنى قوله تعالى " فتكونا من الظالمين " أي ظالمين لأنفسكما والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فمن وضع الأمر أو النهي في موضع الندب أو الكراهة فقد وضع الشيء في غير موضعه وهذا الظلم من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد وليس معصية لا الظلم الذي هو القصد إلى المعصية وهو يدري أنها معصية وبرهان هذا ما قد نصه الله تعالى من أن آدم عليه السلام لم يأكل من الشجرة إلا بعد أن أقسم له إبليس أن نهى الله عز وجل لهما عن أكل الشجرة ليس على التحريم وإنهما لا يستحقان بذلك عقوبة أصلاً بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن وفوز الأبد قال تعالى حاكياً عن إبليس أنه " فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ " وقد قال عز وجل " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ".
قال أبو محمد فلما نسي آدم عليه السلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له أحسن الظن بيمينه.
قال أبو محمد ولا سلامة ولا براءة من القصد إلى المعصية ولا أبعد من الجراءة على الذنوب أعظم من حال من ظن أن أحداً لا يحلف حانثاً وهكذا فعل آدم عليه السلام فإنه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسياً بنص القرآن ومتأولا وقاصداً إلى الخير لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله تعالى فيكون ملكا مقرباً أو خالداً فيما هو فيه أبدا فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عز وجل به وكان الواجب أن يحمل أمر ربه عز وجل على ظاهره لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجور ولكن آدم عليه السلام لما فعله ووجد به خراجه عن الجنة إلى نكد الدنيا كان بذلك ظالماً لنفسه وقد سمى الله عز وجل قاتل الخطأ قاتلاً كما سمى العامد والمخطئ لم يتعمد كعصية وجعل في الخطأ في ذلك كفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة وهو لم يتعمد ذنباً وأما قوله عز وجل " فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " فهذا تكفير لآدم عليه السلام ومن نسب لآدم عليه السلام الشرك والكفر كفراً مجرداً بلا خلاف من أحد من الأمة ونحن ننكر على من كفر المسلمين العصاة العشارين القتالين والشرط الفاسقين فكيف من كفر الأنبياء عليهم السلام وهذا الذي نسبوه إلى آدم عليه السلام من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة مكذوبة من تأليف من لا دين له ولا حياء لم يصح سندها قط وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها وحتى لو صح أنها نزلت في آدم وهذا لا يصح أصلاً لما كانت فيه للمخالف حجة لأنه كان يكون الشرك أو الشركاء المذكورون في الآية حينئذ على غير الشرك الذي هو الكفر لكن بمعنى أنهما جعلا مع توكلهما شركة من حفظه ومعناه كما قال يعقوب عليه السلام " يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وأنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فأخبرنا عز وجل أن يعقوب عليه السلام أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة إشفاقاً عليهم أما من إصابة العين وإما من تعرض عدو أو مستريب باجماعهم أو ببعض ما يخوفه عليهم وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً يريده عز وجل بهم ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام وفي سائر الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى حاكياً عن الرسل أنهم قالوا " إن نحن إلا بشر مثلكم " حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزاعها وتوقها إلى سلامة من يحب وإن كان ذلك لا يغني شيئاً كما كان عليه السلام يحب الفال المحسن فكان يكون على هذا معنى الشرك والشركاء أن يكون عوذة أو تميمة أو نحو هذا فكيف ولم تنزل الآية قط إلا في الكفار لا في آدم عليه السلام.
الكلام في نوح عليه السلام
قال أبو محمد ذكروا قول الله عز وجل لنوح " فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ".
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن نوحاً عليه السلام تاول وعد الله تعالى أن يخلصه وأهله فظن أن ابنه من أهله على ظاهر القرابة وهذا لو فعله أحد لكان مأجوراً ولم يسأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله فتفرع على ذلك نهى عن أن يكون من الجاهلين فتندم عليه السلام من ذلك ونزع وليس هاهنا عند للمعصية البتة وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في إبراهيم عليه السلام
قال أبو محمد ذكروا ما روى عن رسول الله ﷺ من أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات وأنه قال إذ نظر في النجوم أني سقيم وبقوله في الكوكب والشمس والقمر هذا ربي وبقوله في سارة هذه أختي وبقوله في الأصنام إذ كسرها بل فعله كبيرهم هذا وبطلبه إذ طلب رؤية إحياء الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي. قال أبو محمد وهذا كله ليس على ما ظنوه بل هو حجة لنا والحمد لله رب العالمين أما الحديث أنه عليه السلام كذب ثلاث كذبات فليس كل كذب معصية بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل وفرضاً واجباً يعصى من تركه صح أن رسول الله ﷺ قال ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيمنى خيراً وقد أباح عليه السلام كذب الرجل لمرأته فيما يستجلب به مودتها وكذلك الكذب في الحرب وفد أجمع أهل الإسلام على أن إنساناً لو سمع مظلوماً قد ظلمه سلطان وطلبه ليقتله بغير حق ويأخذ ماله غصباً فاستتر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصداً بذلك السلطان فسأل السلطان ذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر أن يكون سمعه أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله فإنه محسن مأجور مطيع لله عز وجل وأنه إن صدق فأخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل فاعل كبيرة مذموماً نماماً وقد ابيح الكذب في إظهار الكفر في التقية وكل ما روى عن إبراهيم عليه السلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة لا في الكذب الذي نهى عنه وأما قوله عن سارة هي أختي فصدق هي أخته من وجهين قال الله تعالى " إنما المؤمنون أخوة " و قال عليه السلام " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه " والوجه الثاني القرابة وإنها من قومه ومن مستجيبيه قال عز وجل " وإلى مدين أخاهم شعيباً " فمن عد هذا كذباً مذموماً من إبراهيم عليه السلام فليعده كذباً من ربه عز وجل وهذا كفر مجرد فصح أنه عليه السلام صادق في قوله سارة أخته وأما قوله " فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم " فليس هذا كذباً ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما يحدث في العالم كدلالة البرق على نعول البحر وكدلالة الرعد على تولد الكمأة وكتولد المد والجزر على طلوع القمر وغروبه واعذاره وارتفاعه وامتلائه ونقصه وإنما المنكر قول من قال أن الكواكب هي الفاعلة المدبرة لذلك دون الله تعالى أو مشتركة معه فهذا كفر من قائله وأما قوله عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى " ذق أنك أنت العزيز الكريم " وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله إذ الكذب إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصداً إلى تحقيق ذلك وأما قوله عليه السلام إذ رأى الشمس والقمر هذا ربي ف قال قوم إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك محققاً أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة مكذوبة ظاهرة الافتعال ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والكلام بمثل هذا وهو لم ير قط شمساً ولا قمراً ولا كوكباً وقد أكذب الله هذا الظن الكاذب بقوله الصادق " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " فمحال أن يكون من اتاه الله رشده من قبل يدخل في عقله أن الكواكب ربه أو أن الشمس ربه من أجل أنها أكبر قرصاً من القمر هذا ما لا يظنه إلا مجنون العقل والصحيح من ذلك أنه عليه السلام إنما قال ذلك موبخاً لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام ولا فرق لأنهم كانوا على دين الصابئين يعبدون الكواكب ويصورون الأصنام على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرب والقرابين والدخن ويقولون أنها تعقل وتدبر وتضر وتنفع ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة فوبخهم الخليل عليه السلام على ذلك وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها كما قال تعالى " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " فاراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخرة الجمادية وبين لهم أنهم مخطئون وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه السلام أشرك قط بربه أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك بل صدقه تعالى بقوله " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء " فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد الله عز وجل بما قال من ذلك وبما فعل وأما قوله عليه السلام " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " فلم يقرره ربنا عز وجل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليه السلام تعالى الله عن ذلك ولكن تقرير الإيمان في قلبه وإن لم ير كيفية إحياء الموتى فأخبر عليه السلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك وما شك إبراهيم عليه السلام في أن الله تعالى يحيي الموتى وإنما أراد أن يرى الهيئة كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل والتمساح والكسوف وزيادة النهر والخليفة ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك ولا يشك في أنه حق ليرى العجب الذي يتمثله ولم تقع عليه حاسة بصره فقط وأما ما روى عن النبي ﷺ نحن أحق بالشك من إبراهيم فمن ظن أن النبي ﷺ شك قط في قدرة ربه عز وجل على إحياء الموتى فقد كفر وهذا الحديث حجة لنا على نفي الشك عن إبراهيم أي لو كان الكلام من إبراهيم عليه السلام شكاً لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه السلام أحق بالشك فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك فإبراهيم عليه السلام أبعد من الشك.
قال أبو محمد ومن نسب هاهنا إلى الخليل عليه السلام الشك فقد نسب إليه الكفر ومن كفر نبياً فقد كفر وأيضاً فإن كان ذلك شكاً من إبراهيم عليه السلام وكنا نحن أحق بالشك منه فنحن إذاً شكاك جاحدون كفار وهذا كلام نعلم والحمد لله بطلانه من أنفسنا بل نحن ولله الحمد مؤمنون مصدقون بالله تعالى وقدرته على كل شيء يسأل عنه السائل وذكروا قول إبراهيم عليه السلام لأبيه واستغفاره له وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن نهى عن ذلك قال تعالى " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " فاثنى الله تعالى عليه بذلك فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان مدة حياته راجياً إيمانه فلما مات كافراً تبرأ منه ولم يستغفر له بعدها تم الكلام في إبراهيم عليه السلام.
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى في لوط عليه السلام أنه قال " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " فقال رسول الله ﷺ رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد فظنوا أن هذا القول منه عليه السلام إنكار على لوط عليه السلام أيضاً " هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ".
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه أما قوله عليه السلام لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد فليس مخالفاً لقول رسول الله ﷺ رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد بل كلا القولين منهما عليهما السلام حق متفق عليه لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش من قرابة أو عشيرة أو اتباع مؤمنين وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة وأشد ركن ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس فقد قال تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " فهذا الذي طلب لوط عليه السلام وقد طلب رسول الله ﷺ من الأنصار والمهاجرين منعة حتى يبلغ كلام ربه تعالى فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله عليه السلام تالله ما أنكر ذلك رسول الله ﷺ وإنما أخبر عليه السلام أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد يعني من نصر الله له بالملائكة ولم يكن لوط علم بذلك ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر وهذا أيضاً ظن سخيف إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات وهو دائباً يدعو إليه هذا الظن وأما قوله عليه السلام هؤلاء بناتي هن فإنما أراد التزويج والوطء في المكان المباح فصح ما قلنا إذ من المحال أن يدعوهم إلى منكر وهو ينهاهم عن المنكر انقضى الكلام في لوط عليه السلام.
الكلام في أخوة يوسف عليهم السلام
قال أبو محمد واحتجوا بفعل أخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم وهذا لا حجة لهم فيه لأن أخوة يوسف عليه السلام لم يكونوا أنبياء ولا جاء قط في أنهم أنبياء نص لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم وأما يوسف ﷺ فرسول الله بنص القرآن قال عز وجل " لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به " إلى قوله " من بعده رسولا " وأما أخوته فأفعالهم تشهد أنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم فكيف أن يكونوا أنبياء ولكن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفر لهم وأسقطا التثريب عنهم وبرهان ما ذكرنا من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء قول الله تعالى حاكياً عن الرسول أخيهم عليه السلام أنه قال لهم " أنتم شر مكاناً " ولا يجوز البتة أن يقول نبي من الأنبياء نعم ولا لقوم صالحين إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس لأن الصالحين ليسوا شراً مكانا وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به أخوة يوسف أباهم إلا أن أخوة يوسف لم يكفروا ولا يحل لمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافة بصحة نبوته ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبياً وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم فإن ذكروا في ذلك ما روى عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم إنما مات إبراهيم بن رسول الله ﷺ لأنه لا نبي بعد رسول الله ﷺ وأولاد الأنبياء أنبياء فهذه غفلة شديدة وزلة عالم من وجوه أولها أنه دعوى لا دليل على صحتها وثانيها أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد كما نبئ عيسى عليه السلام وكما أوتي يحيى الحكم صبيا فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبيا وقد عاش عامين غير شهرين وحاشا لله من هذا وثالثها أن ولد نوح كان كافراً بنص القرآن عمل عملا غير صالح فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبياً وحاشا لله من هذا ورابعها لو كان ذلك لوجب ولا بد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم بل جميع أهل الأرض أنبياء لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء لأن أباهم نبي وأولاد أولاده أنبياء أيضاً لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء وهكذا أبداً حتى يبلغ الأمر إلينا وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد ولعل من جهل مرتين يقول عنا هذا ينكر نبوة أخوة يوسف ويثبت نبوة نبي المجوس ونبوة أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام فنحن نقول وبالله تعالى التوفيق وبه نعتصم لسنا نقر بنبوة من لم يخبر الله عز وجل بنبوته ولم ينص رسول الله ﷺ على نبوته ولا نقلت الكواف عن أمثالها نقلاً متصلاً منه إلينا معجزات النبوة عنه ممن كان قبل مبعث النبي ﷺ بل ندفع نبوة من قام البرهان على بطلان نبوته لأن تصديق نبوة من هذه صفته افتراء على الله تعالى لا يقدم عليه مسلم ولا ندفع نبوة من جاء القرآن بأن الله تعالى نبأه فأما أم موسى وأم عيسى وأم إسحق فالقرآن قد جاء بمخاطبة الملائكة لبعضهن بالوحي وإلى بعض منهن عن الله عز وجل بالأنباء بما يكون قبل أن يكون وهذه النبوة نفسها التي لا نبوة غيرها فصحت نبوتهن بنص القرآن وأما نبي المجوس فقد صح أنهم أهل كتاب بأخذ رسول الله ﷺ الجزية منهم ولم يبح الله تعالى له أخذ الجزية إلا من أهل الكتاب فقد نسب إليه أنه خالف ربه تعالى وأقدم على عظيمة تقشعر منها جلود المؤمنين فإذ نحن على يقين من أنهم أهل كتاب فلا سبيل البتة إلى نزول كتاب من عند الله تعالى على غير نبي مرسل بتبليغ ذلك الكتاب فقد صح بالبرهان الضروري أنهم قد كان لهم نبي مرسل يقيناً بلا شك ومع هذا فقد نقلت عنه كواف عظيمة معجزات الأنبياء عليهم السلام وكل ما نقلته كافة على شرط عدم التواطئ فواجب قبوله ولا فرق بين ما نقلته كواف الكافرين أو كواف المسلمين فيما شاهدته حواسهم ومن قال لا أصدق إلا ما نقلته كواف المسلمين فإنا نسأل بأي شيء صح عنده موت ملوك الروم ولم يحضرهم مسلم أصلا وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى ومثل هذا كثير فإن كذب هذا غالط نفسه وعقله وكابر حسه وأيضاً فإن المسلمين إنما علمنا أنهم محقون لتحقيق نقل الكافة لصحة ما بأيديهم فبنقل الكافة علمنا هدى المسلمين ولا نعلم بالإسلام صحة نقل الكافة بل هو معلوم بالبينة وضرورة العقل وقد أخبر تعالى أن الأولين زبر و قال تعالى " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " وفي هذه كفاية وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في يوسف عليه السلام
وذكروا أيضاً أخذ يوسف عليه السلام أخاه وايحاشه أباه عليه السلام منه وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسى به من الوجد عليه فلم يفعل وليس بينه وبينه إلا عشر ليال وبإدخاله صواع الملك وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائر أخوته ثم أمر من هتف أيتها العير أنكم لسارقون وهم لم يسرقوا شيئاً وبقول الله تعالى " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " وبخدمته لفرعون وبقوله للذي كان معه في السجن " اذكرني عند ربك.
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد أما أخذه أخاه وايحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود أخوته إليه ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك وليكون ذلك سبباً لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ولا سبيل إلى أن يظن برسول الله ﷺ الذي أوتى العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه وليس من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه فكيف برسول الله صلى الله عليه وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى كالذي بيننا اليوم وبين من يضافينا من بلاد النصارى كفاليش وغيرها أو كصحراء البربر فلم يكن عند يوسف عليه السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ولا حي هو أو ميت أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ولا وجد أحداً يثق به فيرسل إليه للاختلاف الذي ذكرنا وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ولساناً واحداً وأمة واحدة والطريق سابل والتجار ذاهبون وراجعون والرفاق سائرة ومقبلة والبرد ناهضة وراجعة فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ولكن كما قدمنا ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض وامتيارهم من عنده فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه ورب رئيس جليل شاهدنا من أبناء البشاكس والافرنج لو قدر على أن يستجلب أبويه لكان أشد الناس بداراً إلى ذلك ولكن الأمر تعذر عليهم تعذراً أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع فهذا كان أمر يوسف عليه السلام وأما قول يوسف لأخوته أنكم لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ولم يقل عليه السلام أنكم سرقتم الصواع وإنما قال نفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقداً له بلا شك وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ولا مرية في أن ذلك كان مباحاً في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا قال الله تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظوراً في شريعتهما بل كان فعلاً حسناً وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن اذكرني عند ربك فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه وهذا فرض من وجهين أحدهما وجوب السعي في كف الظلم عنه والثاني دعاؤه إلى الخير والحسنات وأما قوله تعالى " فأنساه الشيطان ذكر ربه " فالضمير الذي في أنساه وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن أي أن الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام ويحتمل أيضاً أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام وبرهان ذلك قول الله عز وجل " وادكر بعد أمة " فصح يقيناً أن المذكور بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر وحتى لو صح أن الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليه السلام لما كان في ذلك نقص ولا ذنب إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء وأما قوله " همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال أنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم فكيف برسول الله ﷺ فإن قيل أن هذا قد روى عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله ﷺ فقط والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله ﷺ ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين أما أنه هم بالايقاع بها وضربها كما قال تعالى " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " وكما يقول القائل لقد هممت بك لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قد من القميص والوجه الثاني أن الكلام عند قوله ولقد همت به ثم ابتدأ تعالى خبراً آخر فقال وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل وبهذا نقول حدثنا أحمد بن محمد ابن عبد الله الطلمنكي حدثنا ابن عون الله أنبأنا إبراهيم بن أحمد ابن فراس حدثنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحق ابن راهوية أنا المومل بن إسماعيل الحميري حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناتي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " قال رسول الله ﷺ لما قالها يوسف عليه السلام قال له جبريل يا يوسف اذكر همك فقال يوسف " وما ابرئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء " فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ولكنه فيه أنه هم بأمر ما وهذا حق كما قلنا فسقط هذا الاعتراض وصح الوجه الأول والثاني معاً إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهي خيانة لسيده إذ هم بضرب امرأته وبرهان ربه هاهنا هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة وهذا لا شك فيه ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك وقد خشى النبي ﷺ الهلاك على من ظن به ذلك الظن إذ قال للأنصاريين حين لقيهما هذه صفية.
قال أبو محمد ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء فلا بد أنه سوء ولو قال أنه ليس بسوء لعاند الإجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين وأيضاً فإنها قال ت " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً " وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق " إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " فصح أنها كذبت بنص القرآن وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوء فما هم بالزنا قط ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين وهذا بين جداً وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فصح عنه أنه قط لم يصب إليها وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في يوسف عليه السلام.
الكلام في موسى عليه السلام وأمه
قال أبو محمد ذكروا قول الله تعالى " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها " فمعناه فارغاً من الهم بموسى جملة لأن الله عز وجل قد وعدها برده إليها إذ قال لها تعالى " إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فمن الباطل المحض أن يكون الله تعالى ضمن لها رده إليها ثم يصبح قلبها مشغولاً لا بالهم بأمره هذا ما لا يظن بذي عقل أصلاً وإنما معنى قوله تعالى إن كادت لتبدي به أي سروراً بما أتاه الله عز وجل من الفضل وقولها لأخته قصيه إنما هو لترى أخته كيفية قدرة الله تعالى في تخليصه من يدي فرعون عدوه بعد وقوعه فيهما وليتم بها ما وعدها الله تعالى من رده إليها فبعثت أخته لترده بالوحي وذكروا قول الله تعالى عن موسى عليه السلام فأخذ برأس أخيه يجره إليه " قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " قالوا وهذه معصية أن يأخذ بلحية أخيه وشعره وهو نبي مثله وأسن منه ولا ذنب له.
قال أبو محمد وهذا ليس كما ظنوا وهو خارج على وجهين أحدهما أن أخذه برأس أخيه ليقبل بوجهه عليه ويسمع عتابه له إذ تأخر عن اتباعه إذ رآهم ضلوا ولم يأخذ بشعر أخيه قط إذ ليس ذلك في الآية أصلاً ومن زاد ذلك فيها فقد كذب على الله تعالى لكن هارون عليه السلام خشى بادرة من موسى عليه السلام وسطوة إذ رآه قد اشتد غضبه فأراد توقيفه بهذا الكلام عما تخوفه منه وليس في هذه الآية ما يوجب غير ما قلنا ولا أنه مد يده إلى أخيه أصلاً وبالله تعالى التوفيق والثاني أن يكون هارون عليه السلام قد يكون استحق في نظر موسى عليه السلام النكير لتأخيره عن لحاقه إذ رآهم ضلوا فأخذ برأسه منكراً عليه ولو كان هذا لكان إنما فعله مومى عليه السلام غضباً لربه عز وجل وقاصداً بذلك رضاء الله تعالى ولسنا نبعد هذا من الأنبياء علهم السلام وإنما نبعد القصد إلى المعصية وهم يعلمون أنها معصية وهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى عن إبراهيم خليله ﷺ إذ قال " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " وقول الله تعالى لمحمد ﷺ " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " إنما الخطيئة المذكورة والذنوب المغفورة ما وقع بنسيان أو بقصد إلى الله تعالى إرادة الخير فلم يوافق رضا الله عز وجل بذلك فقط وذكروا قول موسى عليه السلام للخضر عليه السلام " أقتلت نفساً زكية بغير نفس " فأنكر موسى عليه السلام الشيء وهو لا يعلمه وقد كان أخذ عليه العهد أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً فهذا أيضاً لا حجة لهم فيه لأن ذلك كان على سبيل النسيان وقد بين موسى عليه السلام ذلك بقوله " لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً " فرغب إليه أنه لا يؤاخذه بنسيانه ومؤاخذة الخضر له بالنسيان دليل على صحة ما قلنا من أنهم عليهم السلام مؤاخذون بالنسيان وبما قصدوا به الله عز وجل فلم يصادفوا بذلك مراد الله عز وجل وتكلم موسى عليه السلام على ظاهر الأمر وقدر أن الغلام زكي إذ لم يعلم له ذنباً وكان عند الخضر العلم الجلى بكفر ذلك الغلام واستحقاقه القتل فقصد موسى عليه السلام لكلامه في ذلك وجه الله تعالى والرحمة وإنكار ما لم يعلم وجهه وذكروا قول موسى عليه السلام " فعلتها إذاً وانا من الضالين " فقول صحيح وهو حاله قبل النبوة فإنه كان ضالاً عما اهتدى له بعد النبوة وضلال الغيب عن العلم كما تقول أضللت بعيري لا ضلال القصد إلى الإثم وهكذا قول الله تعالى لنبيه ﷺ " ووجدك ضالاً فهدى " أي ضالاً عن المعرفة وبالله تعالى التوفيق وذكروا قول الله عز وجل عن بني إسرائيل " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " قالوا وموسى قد سأل ربه مثل ذلك فقال " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني " قالوا فقد سأل موسى عليه السلام أمراً عوقب سائلوه قبله.
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه خارج على وجهين أحدهما أن موسى عليه السلام سأل ذلك قبل سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى وقبل أن يعلم أن سؤال ذلك لا يجوز فهذا لا مكروه فيه لأنه سأل فضيلة عظيمة أراد بها علو المنزلة عند ربه تعالى والثاني أن بني إسرائيل سألوا ذلك متعنتين وشكاكا في الله عز وجل وموسى سأل ذلك على الوجه الحسن الذي ذكرنا آنفاً.
الكلام على يونس عليه السلام
قال أبو محمد وذكروا أمر يونس عليه السلام وقول الله تعالى عنه " وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقوله تعالى " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " وقوله لنبيه عليه السلام " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم " وقوله تعالى " فالتقمه الحوت وهو مليم " قالوا ولا ذنب أعظم من المغاضبة لله عز وجل ومن أكبر ذنباً ممن ظن أن الله لا يقدر عليه وقد أخبر الله تعالى أن استحق الذم لولا أن تداركه نعمة الله عز وجل وأنه استحق الملامة وأنه أقر على نفسه أنه كان من الظالمين ونهى الله تعالى نبيه أن يكون مثله.
قال أبو محمد هذا كله لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا على صحة قولنا والحمد لله رب العالمين أما أخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضباً فلم يغاضب ربه قط ولا قال الله تعالى أنه غاضب ربه فمن زاد هذه الزيادة كان قائلاً على الله الكذب وزائداً في القرآن ما ليس فيه هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل ذلك نبياً من الأنبياء فعلمنا يقيناً أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل فعوقب بذلك وأن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز وجل وأما قوله تعالى " فظن أن لن نقدر عليه " فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم ومن المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه وهو يرى أن آدمياً مثله يقدر عليه ولا شك في أن من نسب هذا للنبي ﷺ الفاضل فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه فكيف إلى يونس عليه السلام الذي يقول فيه رسول الله ﷺ لا تفضلوني على يونس بن متى فقد بطل ظنهم بلا شك وصح أن معنى قوله " فظن أن لن نقدر عليه " أي لن نضيق عليه كما قال تعالى " وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ " أي ضيق عليه فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك وإنما نهى الله عز وجل لمحمد ﷺ عن أن يكون كصاحب الحوت فنعم نهاه الله عز وجل عن مغضبته قومه وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم وأما قول الله تعالى أنه استحق الذم والملامة لولا النعمة التي تداركه بها للبث معاقباً في بطن الحوت فهذا نفس ما قلناه من ان الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيراً وقربة إلى الله عز وجل إذ لم يوافق مراد ربهم وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين والظلم وضع الشيء في غير موضعه فلما وضع النبي ﷺ المغاضبة في غير موضعها اعترف في ذلك بالظلم لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم انقضى الكلام في يونس عليه السلام وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا أيضاً قول الله تعالى حاكياً عن داود عليه السلام " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان " إلى قوله فغفرنا له ذلك.
قال أبو محمد وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزؤن الكاذبون المتعلقون بخرافات ولدها اليهود وإنما كان ذلك الخصم قوماً من بني آدم بلا شك مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم بغى أحدهما على الآخر على نص الآية ومن قال أنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عز وجل وقوله ما لم يقل وزاد في القرآن ما ليس فيه وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة لأن الله تعالى يقول " هل أتاك نبأ الخصم " فقال هو لم يكونوا قط خصمين ولا بغي بعضهم على بعض ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا لم يقحمون فيه أهل الباطل أنفسهم ونعوذ بالله من الخذلان ثم كل ذلك بلا دليل بل الدعوى المجردة وتالله أن كل أمرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ثم يعرض زوجها للقتل عمداً ليتزوجها وعن أن يترك صلاته لطائر يراه هذه أفعال السفهاء المتكهوكين الفساق المتمردين لأفعال أهل البر والتقوى فكيف برسول الله داود ﷺ الذي أوحي إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله فكيف أن يستضيف إلى أفعاله وأما استغفاره وخروره ساجداً ومغفرة الله تعالى له فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي ولا من مذنب ولا من غير مذنب فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى " ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام " وظن داود إنما فتناه " وقوله تعالى " فغفرنا له ذلك " فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما أتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة فقد كان رسول الله ﷺ يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه فأستغفر الله تعالى من هذا الظن فغفر الله تعالى له هذا الظن إذ لم يكن ما أتاه الله تعالى من ذلك فتنة.
الكلام في سليمان عليه السلام
وذكروا قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ".
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا إذ معنى قوله تعالى فتنا سليمان أي أتيناه من الملك ما أختبرنا به طاعته كما قال تعالى مصدقاً لموسى عليه السلام في قوله تعالى " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " إن من الفتنة من يهدي الله من يشاء و قال تعالى " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط وما عدا هذا فخرافات ولدها زنادقة اليهود وأشباههم وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد نؤمن بهذا كما هو ونقول صدق الله عز وجل كل من عند الله ربنا ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله ﷺ بتفسير هذا الجسد ما هو لقلنا به فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك فيكون كاذباً على الله عز وجل إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال أنه كان جنيا تصور بصورته بل نقطع على أنه كذب والله تعالى لا يهتك ستر رسوله ﷺ هذا الهتك وكذلك نبعد قول من قال أنه كان ولداً له أرسله إلى السحاب ليربيه فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح اسنادها قط وذكروا أيضاً قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق " وتأولوا ذلك على ما قد نزه الله عنه من له أدنى مسكة من عقل من أهل زماننا وغيره فكيف بنبي معصوم مفضل في أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة.
قال أبو محمد وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت أفانين من القول والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها واتلاف مال منتفع به بلا معنى ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين فكيف بنبي مرسل ومعنى هذه الآية ظاهر بين وهو أنه عليه السلام أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابها ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده براً بها وإكراماً لها هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره وليس فيها إشارة أصلاً إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ وذكروا أيضاً الحديث الثابت من قول رسول الله ﷺ أن سليمان عليه السلام قال لطوفن الليلة على كذا وكذا امرأة كل امرأة منهن تلد فارساً يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله.
قال أبو محمد وهذا ما لاحجة لهم فيه فإن من قصد تكثير المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عز وجل فقد أحسن ولا يجوز أن يظن به أنه يجهل أن ذلك لا يكون إلا أن يشاء الله عز وجل وقد جاء في نص الحديث المذكور أنه إنما ترك إن شاء الله نسياناً فأوخذ بالنسيان في ذلك وقد قصد الخير وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين تم الكلام في سليمان عليه الصلاة والسلام.
فصل وذكروا قوله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين "
قال أبو محمد وهذا ما لاحجة لهم فيه لأنه ليس في نص الآية ولا عن رسول الله ﷺ أن هذا المذكور كان نبياً وقد يكون أنباء الله تعالى لهذا المذكور آياته أنه أرسل إليه رسولاً بآياته كما فعل بفرعون وغيره فأنسلخ منها بالتكذيب فكان من الغاوين وإذا صح أن نبياً يعصى الله عز وجل تعمداً فمن المحال أن يعاقبه الله تعالى على ما لا يفعل ولا عقوبة أعظم من الحط عن النبوة ولا يجوز أن يعاقب بذلك نبي البتة لأنه لا يكون منه ما يستحق به هذا العقاب وبالله تعالى التوفيق فصح يقيناً أن هذا المنسلخ لم يكن قط نبياً وذكروا قول رسول الله ﷺ أن ما من أحد إلا من ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو كلاماً هذا معناه.
قال أبو محمد وهذا صحيح وليس خلافاً لقولنا إذ قد بينا أن الأنبياء عليهم السلام يقع منهم النسيان وقصد الشيء يظنونه قربة إلى الله تعالى فأخبر عليه السلام أنه لم ينجح من هذا أحد إلا يحيى ابن زكريا عليهما السلام فيقوم من هذا أن يحيى لم ينس شيئاً واجباً عليه قط ولا فعل إلا ما وافق فيه مراد ربه عز وجل.
الكلام في محمد ﷺ
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " وقوله تعالى " عبس وتولى إن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك إلا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى " وبالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في والنجم إذا هوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجي وذكروا قول الله تعالى " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وبقوله تعالى " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله " وإن الوحي امتسك عنه عليه السلام لتركه الاستثناء إذ سأله اليهود عن الروح وعن ذي القرنين وأصحاب الكهف وبقوله تعالى " وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " وبما روى من قوله عليه السلام لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة إذ قبل الفداء وترك قتل السرى ببدر وبما روى من قوله عليه السلام لو نزل عذاب ما نجى منه إلا عمر لأن عمر أشار بقتلهم وذكروا أنه عليه السلام مال إلى رأي أبي بكر في الفدا والاستبقاء وبقوله تعالى " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قالوا فإن لم يكن له ذنب فماذا غفر له وبأي شيء أمتن الله عليه في ذلك وبقوله ﷺ لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت فإنما هذا إذ دعي إلى الخروج من السجن فلم يجب إلى الخروج حتى قال للرسول " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم " فأمسك عن الخروج من السجن وقد دعي إلى الخروج عنه حتى اعترف النسوة بذنبهن وبراءته وتيقن بذلك ما كان شك فيه فأخبر محمد ﷺ أنه لو دعي إلى الخروج من السجن لأجاب وهذا التفسير منصوص في الحديث نفسه كما ذكرنا من كلامه عليه السلام لو لبث في السجن ما لبث يوسف عليه السلام ثم دعيت لأجبت الداعي أو كلاماً هذا معناه وأما قول الله عز وجل " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " فقد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان أو بقصد إلى ما يظنون خيراً مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم فهذان الوجهان هما اللذان غفر الله عز وجل له وأما قوله " لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " فإنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله ﷺ وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين المتشتتين عليه يبين ذلك قوله تعالى " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " وقوله تعالى في هذه السورة نفسها النازلة في هذا المعنى " يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " وقوله تعالى قبل ذكره الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة " فهذا نص القرآن وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المأخوذة يومئذ إلى رسول الله ﷺ وأما الخبر المذكور الذي فيه لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة ولو نزل عذاب ما نجى منه إلا عمر فهذا خبر لا يصح لأن المنفرد بروايته عكرمة بن عمار اليمامي وهو ممن قد صح عليه وضع الحديث أو سوء الحفظ أو الخطأ الذي لا يجوز معهما الرواية عنه ثم لو صح لكان القول فيه كما قلنا من انه قصد الخير بذلك وأما قوله تعالى " عبس وتولى " الآيات فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ورجا إسلامه وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير وأظهر الدين وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه فاشتغل عنه عليه السلام بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته وهذا غاية النظر للدين والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر فعاتبه الله عز وجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي وهذا نفس ما قلناه وكما سهى عليه السلام من اثنتين ومن ثلاث وقام من اثنتين ولا سبيل إلى أن يفعل من ذلك شيئاً تعمداً أصلاً نعم ولا يفعل ذلك تعمداً إنساناً منا فيه خير وأما الحديث الذي فيه وأنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى فكذب بحت موضوع لأنه لم يصح قط من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد وأما قوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان " الآية فلا حجة لهم فيها لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها وقد تمنى النبي ﷺ إسلام عمه أبي طالب ولم يرد الله عز وجل كون ذلك فهذه الأماني التي ذكرها الله عز وجل لا سواها وحاشا لله أن يتمنى نبي معصية وبالله تعالى التوفيق وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق وأما قوله " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا إن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت " فقد كفى الله عز وجل الكلام في ذلك ببيانه في أخر الآية أن ذلك كان نسياناً فعوتب عليه السلام في ذلك وأما قوله تعالى " وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " فقد انفنا من ذلك إذ لم يكن فيه معصية أصلاً ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به وأن ما كان أراده زواج مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له إظهاره وإنما خشى النبي ﷺ الناس في ذلك خوف أن يقولوا قولاً ويظنوا ظناً فيهلكوا كما قال عليه السلام للأنصاريين إنها صفية فاستعظما ذلك فأخبرهما النبي ﷺ أنه إنما أخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئاً وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم بظن يظنونه به عليه السلام هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلى النبي ﷺ تعمد المعاصي فهلكت أديانهم وضلوا ونعوذ بالله من الخذلان وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها.
قال أبو محمد فإن قال قائل أنكم تحتجون كثيراً بقول الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى " وبقوله " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " وبقوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " وبقوله عليه السلام إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وآذر وتقولون من أجل هذه النصوص إن كل قول قاله عليه السلام فبوحي من الله قاله وكل عمل عمله فبإذن من الله تعالى ورضي منه عمله فأخبرونا عن سلامه ﷺ من ركعتين ومن ثلاث وقيامه من اثنتين وصلاته الظهر خمساً وإخباره بأنه يحكم بالحق في الظاهر لمن لا يحل له أخذه ممن يعلم أنه في باطن الأمر بخلاف ما حكم له به من ذلك أو بوحي من الله تعالى وبرضاه فعل كل ذلك أم كيف تقولون وهل يلزم المحكوم عليه والمحكوم له الرضا بحكمه ذلك وهما يعلمان أن الأمر بخلاف ذلك أم لا.
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن كل ما ذكر هاهنا فبوحي من الله تعالى فعله وكل من قدر ولم يشك في أنه قد أتم صلاته فالله تعالى أمره بأن يسلم فإذا علم بعد ذلك أنه سهى فقد لزمته شريعة الاتمام وسجود السهو برهان ذلك أنه لو تمادى ولم يسلم قاصداً إلى الزيادة في صلاته على تقديره أنه قد أتمها لبطلت صلاته كلها بلا شك باطناً وظاهراً ولاستحق اسم الفسق والمعصية وكذلك من قدر أنه لم يصل إلا ركعة واحدة وأنه لم يتم صلاته فإن الله أمره بالزيادة في صلاته يقيناً حتى لا يشك في الإتمام وبأن يقوم إلى ثانية عنده فمتى علم بأن الأمر كان بخلاف ذلك فصلاته تامة ولزمته حينئذ شريعة سجود السهو وبرهان ذلك أنه لو قعد من واحدة عنده متعمداً مستهزئاً أو سلم من ثلاث عنده متعمداً لبطلت صلاته جملة ولاستحق اسم الفسق والمعصية لأنه فعل خلاف ما أمره الله تعالى به وكذلك أمره الله وأمرنا بالحكم بالبينة العدلة عندنا وباليمين من المنكر وباقرار المقر وإن كانت البينة عامدة للكذب في غير علمنا وكانت اليمين والإقرار كاذبين في الباطن وافترض الله علينا بذلك سفك الدماء التي لو علمنا الباطن لحرمن علينا وهكذا في الفروج والأموال برهان ذلك أن حاكماً لو شهد عنده بينة عدل عنده فلم يقض بها وقضى باليمين على المنكر الذي لا بينة عليه فحلف ثم قضى عليه لكان القاضي فاسقاً بلا خلاف عاصياً لله عز وجل لخلافه ما أمره الله سبحانه وتعالى به وإن وافق حقاً لم يكن علم به وفرض على المحكوم عليه والمحكوم له أن يرضيا بالحكم بالبينة واليمين وأن يصيرا في أنفسهما إلى حقيقة علمهما في أخذ الحق وإعطائه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " بتخفيف الذال وليس هذا على ما ظنه الجهال وإنما معناه أن الرسل عليهم السلام ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم فيما وعدهم من نصرهم ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بالله عز وجل ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر ومن أجار إلى نبي الكفر فهو المرتد بلا شك والذي قلنا هو ظاهر الآية وليس فيها أن الله تعالى كذبهم حاشا لله من هذا وذكروا أيضاً قول الله تعالى " فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قال أبو محمد إنما عهدنا هذا الاعتراض من أهل الكتاب وغيرهم وأما من يدعى أنه مسلم فلا ولا يمكن البتة أن يكون مسلم يظن أن رسول الله صلى الله عليه السلام كان شاكا في صحة الوحي إليه ولنا في هذه الآية رسالة مشهودة وجملة حل هذا الشك إن في هذه الآية المذكورة بمعنى ما التي للجحد بمعنى " وما كنت في شك مما أنزلنا إليك " ثم أمره أن يسأل أهل الكتاب تقريراً لهم على أنهم يعلمون أنه نبي مرسل مذكور عندهم في التوراة والانجيل وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه وبيناه وأرينا أنه موافق لقولنا ولا يشهد شيء منه لقول مخالفنا وبالله التوفيق ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في الإتيان بالبراهين الضرورية الواضحة على صحة قولنا وبطلان قول مخالفنا قال الله تعالى " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامةمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ /C_QURAN> " فوجدنا الله تعالى وهو أصدق القائلين قد نفى عن الأنبياء عليهم السلام الغلول والكفر ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم الغلول كحكم سائر الذنوب قد صح الإجماع بذلك وأن من جوز على الأنبياء عليهم السلام شيئاً من تعمد الذنب جوز عليهم الغلول ومن نفى عنهم الغلول نفى عنهم سائر الذنوب وقد صح نفي الغلول عنهم بكلام الله تعالى فوجب انتفاء تعمد الذنوب عنهم بصحة الإجماع على أنها سواء الغلول و قال عز وجل " أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون ".
قال أبو محمد فلا يخلو مخالفنا الذي يجيز أن يكون الأنبياء عليهم السلام قد اجترحوا السيئآت من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقول في سائر الناس من لم يعص ولا اجترح سيئة قيل له فمن هؤلاء الذين نفي الله عنهم أن يكون الذين اجترحوا السيئآت مثلهم إذ كانوا غير موجودين في العالم فلا بد من أن يجعل كلام الله عز وجل هذا فارغاً لا معنى له وهذا كفر من قائله أو يقول هم الملائكة فإن قال ذلك رد قوله هذا قول الله تعالى في الآية نفسها " سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون " ولا نص ولا إجماع على أن الملائكة تموت ولو جاء بذلك نص لقلنا به بل البرهان موجب أن لا يموتوا لأن الجنة دار لا موت فيها والملائكة سكان الجنان فيها خلقوا وفيها يخلدون أبداً وكذلك الحور العين وأيضاً فإن الموت إنما هو فراق النفس للجسد المراكب وقد نص رسول الله ﷺ على أن الملائكة خلقوا من نور فليس فيهم شيء يفارق شيئاً فيسمى موتاً فإن اعترض معترض بقوله " كل نفس ذائقة الموت " لزمه أن حمل هذه الآية على عمومها أن الحور العين يمتن فيجعل الجنة دار موت وقد أبعدها الله تعالى عنه قال الله تعالى " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " فعلمنا بهذا النص أن قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت " إنما عنى به من كان في غير الجنة من الجن والأنس وسائر الحيوان المركب الذي يفارق روحه جسده وبالله تعالى التوفيق ويرد أيضاً قوله أن قال بهذا رسول الله ﷺ ما من أحد إلا وقد ألم أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو يقول إن في الناس من لم يجترح سيئة قط وإن من اجترح السيئات لا يساويهم كما قال هز وجل فإن قال ذلك فإن الأنبياء عليهم السلام عنده يجترحون السيئات وفي سائر الناس من لا يجترحها فوجب أن يكون في الناس من هو أفضل من الأنبياء عليهم السلام وهذا كفر وما قدرنا أن أحداً ممن ينتمي إلى أهل الإسلام ولا إلى أهل الكتاب ينطلق لسانه بهذا حتى رأينا المعروف بابن الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي ﷺ من هو أفضل من النبي ﷺ من حين يبعث إلى حين يموت فاستعظمنا ذلك وهذا شرك مجرد وقدح في النبوة لا خفاء به وقد كنا نسمع عن قوم من الصوفية أنهم يقولون أن الولي أفضل من النبي وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام إلى أن وجدنا هذا الكلام كما أوردنا فنعوذ بالله من الارتداد.
قال أبو محمد ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة أفضل ويدري فضيلة النبوة لما انطلق لسانه بهذا الكفر وهذا التكذيب للنبي ﷺ إذ يقول أني لأتقاكم لله وإني لست كهيئتكم وإني لست مثلكم فإذ قد صح بالنص أن في الناس من لم يجترح السيئة وإن من اجترح السيئآت لا يساويهم عند الله عز وجل فالأنبياء عليهم السلام أحق بهذه الدرجة وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام بقول الله عز وجل " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " فأخبر تعالى أن الرسل صفوته من خلقه وقد اعترض علينا بعض المخالفين بأن قال فما تقول فيمن بلغ فآمن وذكر الله مرات ومات أثر ذلك أو في كافر أسلم وقاتل مجاهداً وقتل فجوابنا وبالله التوفيق أن نقول أما من كان كافراً ثم أسلم فقد اجترح من السيئآت بكفره ما هو أعظم من السموات والأرض وإن كان قد غفر له بإيمانه ولكن قد حصل بلا شك من جملة من فد اجترح السيئآت وأما من بلغ فآمن وذكر الله تعالى ثم مات فقد كان هذا ممكنا في طبيعة العالم وفي بنيته لولا قول الله عز وجل " أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " فإن الله تعالى قطع قطعاً لا يرده إلا كافر بأنه لا يجعل من اجتراح السيئآت كمن لم يجترحها ونحن نوقن أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ليس منهم أحد إلا وقد اجترح سيئة فكان يلزم على هذا أن يكون من أسلم أثر بلوغه ومات أفضل من الصحابة رضي الله عنهم وهذا خلاف قول النبي ﷺ أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم ولا نصفه فإذ هذا كما قلنا فقول الله عز وجل وقول رسوله ﷺ أحق بالتصديق لا سيما مع قوله عليه السلام ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا فنحن نقطع قطعاً بما ذكرنا أنه لا سبيل إلى أن يبلغ أحد حد التكليف إلا ولا بد له من أن يجترح سيئآت الله أعلم بها وبالله التوفيق.
قال أبو محمد ومن البرهان على أنه لم يكن البتة أن يعصي نبي قوله ﷺ ما كان لنبي أن تكون له خائنة إلا عين لما قال له الأنصاري هلا أو مأت إلى في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفي عليه السلام عن جميع الأنبياء عليهم السلام أن تكون لهم خائنة إلا عين وهو أخف ما يكون من الذنوب ومن خلاف الباطن للظاهر فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها.
قال أبو محمد وأيضاً فإننا مندوبون إلى الإقتداء بالأنبياء عليهم السلام وإلى الإيتساء بهم في أفعالهم كلها قال الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " و قال تعالى " أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ " فصح يقيناً أنه لو جاز أن يقع من أحد من الأنبياء عليهم السلام ذنب تعمد صغيراً وكبيراً كان الله عز وجل قد حضنا على المعاصي وندبنا إلى الذنوب وهذا كفر مجرد ممن أجازه فقد صح يقيناً أن جميع أفعال الأنبياء التي يقصدونها خير وحق.
قال أبو محمد وأيضاً فقد صح عن النبي ﷺ عظيم إنكاره على ذي الخويصرة لعنه الله ولعن أمثاله إذ قال الكافر اعدل يا محمد إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ف قال له رسول الله ﷺ ويحك من يعدل إذا أنا لم أعدل ايأمنيني الله ولا تأمنوني وقوله عليه السلام لأم سلمة أم المؤمنين إذ سألته عن الذي قبل امرأته في رمضان إلا أخبرتها أني فعلت ذلك وغضب عليه السلام إذ قال له لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فأنكر عليه السلام إذ جعل له ذنباً بعمد وإن صغر و قال عليه السلام إني والله لأعلمكم بالله وأتقاكم لله أو كلاماً هذا معناه فإن قال قائل فهلا نفيتم عنهم عليهم السلام السهو بدليل الندب إلى الايتساء بهم عليهم السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق إنكار ما ثبت كإجازة ما لم يثبت سواء ولا فرق والسهو منهم قد ثبت بيقين وأيضاً فإن ندب الله تعالى لنا إلى الايتساء بهم عليهم السلام لا يمنع من وقوع السهو منهم لأن الايتساء بالسهو لا يمكن إلا بسهو منا ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف السهو لأننا لو قصدنا إليه لم يكن حينئذ سهواً ولا يجوز أيضاً أن ننهي عن السهو لأن الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا وقد قال تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " ونقول أيضاً إننا مأمورون إذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول الله ﷺ إذ سها وأيضاً فإن الله تعالى لا يقر الأنبياء عليهم السلام على السهو بل ينبههم في الوقت ولو لم يفعل ذلك تعالى لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول تعالى " تبياناً لكل شيء " وإذ يقول " اليوم أكملت لكم دينكم " وقوله تعالى " وقد فصل لكم ما حرم عليكم ".
قال أبو محمد فسقط قول من نسب إلى الأنبياء عليهم السلام شيئاً من الذنوب بالعمد صغيرها وكبيرها إذا لم يبق لهم شبهة يموهون بها أصلاً وإذ قد قامت البراهين على بطلانها ولحقوا بذي الخويصرة.
قال أبو محمد ولو جاز من الأنبياء عليهم السلام شيء من المعاصي وقد ندبنا إلى الايتساء بهم وبأفعالهم لكنا قد أبيحت لنا المعاصي وكنا لا ندري لعل جميع ديننا ضلال وكفر ولعل كل ما عمله عليه السلام معاص ولقد قلت يوماً لبعضهم ممن كان يجيز عليهم الصغائر بالعمد أليس من الصغائر تقبيل المرأة الأجنبية وقرصها ف قال نعم قلت تجوز أنه يظن بالنبي ﷺ أنه يقبل امرأة غيره متعمداً ف قال معاذ الله من هذا ورجع إلى الحق من حينه والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد قال الله تعالى " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً ".
قال أبو محمد ومن الباطل المحال أن يتم الله نعمته على عبد ويعصى الله بما كبر وما صغر إذ لو كان ذلك لما كانت نعمة الله تعالى عليه تامة بل ناقصة إذ خذله فيما عصى فيه و قال تعالى " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " و قال الله تعالى " لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ".
قال أبو محمد وما وقر رسول الله ﷺ ولقد بلغ الغاية القصوى في الاستهزاء برسل الله صلى الله عليهم وسلم من جوز أن يكونوا سراقا زناة ولاطة وبغائين ووالله ما نعلم كفراً أعظم من هذا ولا استهزاء بالله تعالى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هذه المقالة وليت شعري ما الذي أمنهم من كذبهم في البليغ لأنا لا ندري لعلهم بلغوا إلينا الكذب عن الله تعالى.
قال أبو محمد فنقول لهم ولعل أفعاله التي نأتى بها تبديل للدين ومعاص لله عز وجل ولا فرق.
قال أبو محمد وما نعلم أهل قرية أشد سعياً في إفساد الإسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه المقالة فإن كلتا الطائفتين الملعونتين أجازتا تبديل الدين وتحريفه وصرحت هذه الفئة مع ما أطلقت على الأنبياء من المعاصي بأن الله تعالى إنما تعبدنا في دينه بغالب ظنوننا وأنه لا حكم الله إلا ما غلب عليه ظن المرء منا وإن كان مختلفاً متناقضاً وما نمتري في أنهم ساعون في إفساد أغمار المسلمين المحسنين بهم الظن نعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد فإن قائل قائل إنكم تقولون أن الأنبياء عليهم السلام مؤاخذون بما أتوا على سبيل السهو والقصد إلى الخير إذا لم يوافق مراد الله تعالى فهلا أوخذ رسول الله ﷺ بسهوه في الصلاة قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد عفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهذه فضيلة مما فضل به على جميع النبيين عليهم السلام وهكذا نص عليه السلام في حديث الشفاعة يوم القيامة ومصير الناس من نبي إلى نبي فكل ذكر خطيئة أو سكت فلما ذكروا النبي ﷺ قال قائلهم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فبطل أن يؤاخذ بما غفره الله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد فإن قال قائل أيجوز أن يكون نبي من الأنبياء عليهم السلام يأتي معصية قبل أن يتنبأ قلنا لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون متعبداً بشريعة نبي أتى قبله كما كان عيسى عليه السلام وإما أن يكون قد نشأ في قوم درست شريعتهم ودثرت ونسيت كما في بعثة محمد ﷺ في قوم قد نسوا شريعة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام قال تعالى " ووجدك ضالا فهدى " و قال تعالى " لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم " فإن كان النبي متعبداً بشريعة ما فقد أبطلنا آنفاً أن يكون نبي يعصى ربه أصلاً وإن كان نشأ في قوم دثرت شريعتهم فهو غير متعبد ولا مأمور بما لم يأته أمر الله تعالى به فليس عاصياً لله تعالى في شيء يفعله أو يتركه إلا أننا ندري أن الله عز وجل قد طهر أنبياءه وصانهم من كل ما يعابون به لأن العيب أذى وقد حرم الله عز وجل أن يؤذى رسوله قال تعالى " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا ".
قال أبو محمد فبيقين ندري أن الله تعالى صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغية أو من أولاد بغى أو من بغايا بل بعثهم الله تعالى في حسب قومهم فإذ لا شك في هذا فبيقين ندري أن الله تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة فدخل في ذلك السرقة والعدوان والقسوة والزنا واللياطة والبغي وأذى الناس في حريمهم وأموالهم وأنفسهم وكل ما يعاب به المرء ويتشكى منه ويؤذى بذكره وقد صح عن النبي ﷺ في هذا ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن فرج انا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنبأنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري انا إسحاق بن راهويه انا وهب بن جرير بن حازم انا أبي أنبأنا محمد بن إسحاق حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمني الله منها قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لها ترعى أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم فلما خرجت فجئت أدني دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف وزمير فقلت ما هذا قالوا فلان تزوج فلانة لرجل من قريش فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي ف قال لي ما فعلت فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي ف قال لي ما فعلت قلت ما فعلت شيئاً فو الله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته.
قال أبو محمد فصح أنه عليه السلام لم يعص قط بكبيرة ولا بصغيرة لا قبل النبوة ولا بعدها ولا هم قط بمعصية صغرت أو كبرت لا قبل النبوة ولا بعدها إلا مرتين بالسمر حيث ربما كان بعض ما لم يكن نهى عنه بعد والهم حينئذ بالسمر ليس هماً بزنا ولكنه بما يحذوا إليه طبع البرية من استحسان منظر حسن فقط وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في الأنبياء عليهم السلام.
قال أبو محمد قد ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت وتزيدها هنا بيناً في ذلك وبالله تعالى التوفيق إن قوماً نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به وإنما هو كذب مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر وحكما بالزور وقتلا النفس وزنيا وعلما زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكباً وهي الزهرة وأنهما عذبا في غار ببابل وأنهما يعلمان الناس السحر وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول مرة يقال له النخعى ومرة يقال له الحنفي ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة وليس أيضاً عن رسول الله ﷺ ولكنه أوقفها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكذبة أخرى في أن حد الخمر ليس سنة رسول الله ﷺ وإنما هو شيء فعلوه وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا.
قال أبو محمد ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى " الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ " فقطع الله عز وجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق وليس شرب الخمر ولا الزنا ولا قتل النفس المحرمة ولا تعليم العواهر أسماءه عز وجل التي يرتفع بها إلى السماء ولا السحر من الحق بل كا ذلك من الباطل ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل وإذا لم تنزل به فقد بطل أن تفعله لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به وهذا باطل وشهد عز وجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما نظرنا فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا النبي بالوحي فقط وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد وكذلك قوله تعالى " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا " فأبطل عز وجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس و قال تعالى " ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون " فكذب الله عز وجل كل من قال أن ملكا نزل قط من السماء ظاهراً إلا إلى الأنبياء بالحق من عند الله عز وجل فقط و قال عز وجل " وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا " الآية فرفع الله تعالى الأشكال بهذا النص في هذه المسألة وقرن عز وجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز وجل فيها فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز وأن من قال ذلك فقد قال حجراً محجوراً أي ممتنعاً وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر وقد استعظم الله عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس وسمى هذا الفعل استكباراً وعتواً وأخبر عز وجل أننا لا نرى الملائكة أبداً إلى يوم القيامة فقط وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قبل إما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن ما في قوله " وما أنزل على الملكين " نفى لأن ينزل على الملكين ويكون هاروت وماروت حينئذٍ بدلاً من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الجن كانتا يعلمان الناس السحر وقد روينا هذا القول عن خالد ابن أبي عمران وغيره وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام وكان يقول أن هاروت وماروت علجان من أهل بابل إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين وقد اعترض بعض الجهال ف قال لي أبلغ من رفق الشيطان أن يقول للذي يتعلم السحر لا تكفر فقلت له هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات أحدهما أن نقول لك وما المانع من أن يقول الشيطان ذلك أما سخرياً وأما لما شاء الله فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا والثاني أنه قد نص الله عز وجل على أن الشيطان قال إني أخاف الله فقال تعالى " وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إلى قوله تعالى " إني أخاف الله والله شديد العقاب " وقال تعالى " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال أني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " فقد أمر الشيطان الإنسان بالكفر ثم تبرأ منه وأخبره أنه يخاف الله وغر الكفار ثم تبرأ منهم و قال أني أخاف الله فأي فرق بين أن يقول الشيطان للإنسان اكفر ويغره ثم يتبرأ منه ويقول أني أخاف الله وبين أن يعلمه السحر ويقول له لا تكفر والثالث أن معلم السحر بنص الآية قد قال للذي يتعلم منه لا تكفر فسواء كان ملكاً أو شيطاناً قد علمه على قولك ما لا يحل و قال له لا تكفر فلم تنكر هذا من الشيطان ولا تنكره بزعمك من الملك وأنت تنسب إليه أنه يعلم السحر الذي عندك ضلال وكفر وأما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق بعلم ما على أنبياء فعلماهم الدين و قال ا لهم لا تكفروا نهياً عن الكفر بحق وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما أتيا به من كفر ويهدي بهما من آمن به قال تعالى عن موسى أنه قال له " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " وكما قال تعالى " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " ثم نسخ ذلك الذي أنزل على الملكين فصار كفراً بعد أن كان إيماناً كما نسخ تعالى شرائع التوراة والانجيل فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ وبالجملة فما في الآية من نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر وإنما هو إقحام أقحم بالآية بالكذب والافك بل وفيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل " ولا يجوز أن يجعل المعطوف عليه شيئاً واحد ببرهان من نص أو إجماع أو ضرورة وإلا فلا أصلا وأيضاً فإن بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربها محدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة موضوعة إذ لو كان ذلك لما خفى مكانهما على أهل الكوفة فبطل التعليق بهاروت وماروت والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن إبليس كان ملكاً فعصا وحاشا لله من هذا لأن الله تعالى قد أكذب هذا القول بقوله تعالى " إلا إبليس كان من الجن " وبقوله " افتتخذونه وذريته أولياء من دوني " ولا ذرية للملائكة وبقوله تعالى " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " وبإخباره أنه خلق إبليس من نار السموم وصح عن النبي ﷺ أنه قال خلقت الملائكة من نور والنور غير النار بلا شك فصح أن الجن غير الملائكة والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن والجن والأنس فيهما مذموم ومحمود فإن قال قائل أن الله عز وجل ذكر أنهم قالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " وهذا تزكية لأنفسهم وقد قال تعالى " فلا تزكوا أنفسكم " قلنا وبالله تعالى التوفيق مدح المرء نفسه ينقسم قسمين أحدهما ما قصد به المرء افتخاراً بغياً وانتقاصاً لغيره فهذه هي التزكية وهو مذموم جداً والآخر ما خرج مخرج الإخبار بالحق كقول رسول الله ﷺ أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفضلت على الأنبياء وكقول يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ولا يسمى هذا تزكية ومن هذا الباب قول الملائكة ههنا برهان هذا أنه لو كان قولهم مذموماً لأنكره الله عز وجل عليهم فإذ لم ينكره الله تعالى فهو صدق ومن هذا الباب قولنا نحن المسلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس وكقول الحواريين نحن أنصار الله فكل هذا إذا قصد به الحض على الخير لا الفخر فهو خير فإن قال قائل أن الله تعالى قال لهم " إني أعلم ما لا تعلمون " قلنا نعم وما شك الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون وليس هذا إنكاراً وأما الجن فقد قلنا أنهم متعبدون بملة الإسلام وقد صح عن النبي ﷺ أن الروث والعظام طعام إخواننا من الجن وهذا بخلاف حكمنا فقد يخصهم الله عز وجل بأوامر خلاف أوامرنا كما للنساء شرائع ليست للرجال من الحيض وقطع الصلاة وغير ذلك وكما لقريش الإمامة وليست لغيرهم وكل ذلك دين الإسلام وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مؤمناً مسلماً إلا من استدل
قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل وإلا فليس مسلما وقال الطبري من بلغ الاحتلام أو الاشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال وقال أنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمها وتدريبهما على الاستدلال على ذلك وقالت الأشعرية لا يلزمها الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ.
قال أبو محمد وقال سائر أهل الإسلام كل من اعتقد بقلبه اعتقاداً لا يشك فيه وقال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإن كل ما جاء به حق وبرئ من كل دين سوى دين محمد ﷺ فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك.
قال أبو محمد فاحتجت الطائفة الأولى بأن قالت قد اتفق الجميع على أن التقليد مذموم وما لم يكن يعرف باستدلال فإنما هو تقليد لا واسطة بينهما وذكروا قول الله عز وجل " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " وقال تعالى " قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ " وقال تعالى " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ " وقال تعالى " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " وقالوا فذم الله تعالى اتباع الآباء والرؤساء قالوا وبيقين ندري أنه لا يعلم أحد أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيأ أو لا يعلمون إلا بالدليل وقالوا كل مل لم يكن يصح بدليل فهو دعوي ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما لكن بالدليل قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " قالوا فمن لا برهان له فليس صادقاً في قوله وقالوا ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا يعرف صحة الصحيح منها من بطلان الباطل منها بالحواس أصلاً فصح أنه لا يعلم ذلك إلا عن طريق الاستدلال فإذا لم يكن الاستدلال فليس المرء عالما بما لم يستدل عليه وإذا لم يكن عالما فهو شاك ضال وذكروا قول رسول الله ﷺ في مسآئله الملك في القبر ما تقول في هذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن فإنه يقول هو محمد رسول الله قال وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته قالوا وقد ذكر الله عز وجل الاستدلال على الربوبية والنبوة في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن دليل كما قلنا.
قال أبو محمد هذا كلما موهوا به قد تقصيناه لهم غاية التقصي وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين بحول الله وقوته إن شاء الله تعالى لا إله إلا هو بعد أن نقول قولاً نصصحه المشاهدة إن جمهور هذه الفرقة أبعد من كل من ينتمي إلى البحث والاستدلال عن المعرفة بصحة الدلائل فأعجبوا لهذا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
قال أبو محمد أما قولهم قد أجمع الجميع على أن التقليد مذموم وأن ما لا يعرف باستدلال فإنما هو أخذ تقليد إذ لا واسطة بينهما فإنهم شغبوا في هذا الإمكان وولبوا فتركوا التقسيم الصحيح ونعم أن التقليد لا يحل البتة وإنما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله ﷺ ممن لم يأمرنا الله عز وجل باتباعه قط ولا بأخذ قوله بل حرم علينا ذلك ونهانا عنه وأما أخذ المرء قول رسول الله ﷺ الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتباعه وتصديقه وحذرنا عن مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد فليس تقليداً بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة لله عز وجل وأداء للمفترض فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل وبرهان ما ذكرنا أن امراءً لو اتبع أحداً دون رسول الله ﷺ في قول قاله لأن فلاناً قاله فقط واعتقد أنه لو لم يقل ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضاً فإن فاعل هذا القول مقلد مخطى عاص لله تعالى ولرسوه ظالم آثم سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذي قاله الله ورسوله أو خالفه وإنما فسق لأنه اتبع من لم يؤمر باتباعه وفعل غير ما أمره الله عز وجل أن يفعله ولو أن امراءً اتبع قول الله عز وجل وقول رسول الله ﷺ لكان مطيعاً نحسناً مأجوراً غير مقلد وسواء وافق الحق أو وهم فأخطأ وإنما ذكرنا هذا لنبين أن الذي أمرنا به وافترض علينا هو اتباع ما جاء به رسول الله ﷺ فقط وأن الذي حرم علينا هو اتباع من دونه أو اختراع قول لم يأذن به الله تعالى فقط وقد صح أن التقليد باطل لا يحل فمن الباطل الممتنع أن يكون الحق باطلاً معا والمحسن مسيئاً من وجه واحد معا فإذ ذلك كذلك فمتبع من أمر الله تعالى باتباعه ليس مقلداً ولا فعله تقليداً وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فسقط تمويههم بذم التقليد وصح أنهم وضعوه في غير موضعه وأوقعوا اسم التقليد على ما ليس تقليداً وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بذم الله تعالى اتباع الأباء والكبراء فهو مما قلنا آنفا سواء بسواء لأن اتباع الأباء والكبراء وكل من دون رسول الله ﷺ فهو من التقليد المحرم المذموم فاعله فقط قال الله عز وجل " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " فهذا نص ما قلنا ولله الحمد.
قال أبو محمد وأما احتجاجهم أنه لا يعرف أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الأباء شيئاً أم لا إلا بالدلايل وإن كل ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما وذكرهم قول الله تعالى " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به مات شاكا أو جاحداً قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافراً وهو مخلد في النار وهو بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله ﷺ حتى رأى المعجزات فهذا أيضاً لو مات مات كافراً بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضاً عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر قال الله عز وجل " قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " فقد افترض الله عز وجل على كل أحد أن يقي نفسه النار فهؤلاء قسم وهم الأقل من الناس والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله ﷺ وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقاً من الله عز وجل له وتيسيراً لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والاكرة والعباد وأصحاب الحديث الأيمة الذين يذمون الكلام والجدل والمرآء في الدين.
قال أبو محمد هم الذين قال لهم الله فيهم " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وقال تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء.
قال أبو محمد قد سمى الله عز وجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم الكفر والمعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله تعالى للإيمان في قلوبهم ابتدأ وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله تعالى في ذلك استدلالاً أصلاً وبالله تعالى التوفيق وليس هؤلاء مقلدين لابابهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن اباؤهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل أبائهم ورؤسائهم والبرأة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً وشاهدناه في ذواتنا يقيناً فلقد بقينا سنين كثيرة ولا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد ﷺ نجد أنفسنا في غاية السكون إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لهما كما أخبر رسول الله ﷺ إذ سئل عن ذلك فقالوا له أن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر رسول الله ﷺ بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان وأمر ﷺ في ذلك بما أمر به من التعوذ والقرأة والتفل عن اليسار ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ولله تعالى الحمد فما زادنا يقيناً على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وقد أيقن بأن الفيل موجود سماعاً ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقيناً بصحة أنيته أصلاً لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس وعلمنا أن كنا مقتدين بالخطأ في ذلك ولله تعالى الحمد وأن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من امحض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون وليسوا مقلدين أصلاً وإنما كانوا مقلدين لو أنهم قالوا واعتدقوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبرآءنا فقط ولو أن اباءنا وكبرآءنا تركوا دين محمد ﷺ لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفاراً غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبرآءهم الذين نهوا عن اتباعهم ولم يتبعوا النبي ﷺ الذين أمروا باتباعه وبالله تعالى التوفيق وإنما كلف الله تعالى الاتيان بالبرهان إن كانوا صادقين يعني الكفار المخالفين لما جاء به محمد ﷺ هذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الاتيان بالبراهين وإلا سقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفريق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي ﷺ فلا برهان له أصلاً فكلف المجيء بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً إن كانوا صادقين وليسوا صادقين بلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله ﷺ فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك البرهان أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح بالبرهان ولا برهان على ما سواه فهو محق والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالماً فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر.
قال أبو محمد فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال فهذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بصحتها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئاً على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز وجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم في حديث رسول الله ﷺ في مساءلة الملك فلا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم كما هو لمجرده لأن رسول الله ﷺ إنما قال فيه فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول الله ولم يقل عليه الصلاة والسلام فأما المستدل فحسبنا فوز المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه وقال عليه الصلاة والسلام وأما المنافق أو المرتاب ولم يقل غير المستدل فيقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فنعم هذا قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا صفة مقلد للناس لا محقق فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم كافية وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الله عز وجل قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذه أيضاً زيادة أقحموها وهي قولهم وأمر به فهذا لا يجدونه أبداً ولكن الله تعالى ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محفوض عليه كل من اطاقه لأنه تزود من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق نعوذ بالله عز وجل من البلا وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه هذا هو الباطل المحض وأما قولهم إن الله تعالى أوجب العلم به فنعم وأما قولهم والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هي الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفاً وأول بطلانها أنها دعوى بلا برهان وبالله تعالى العزيز الحكيم نتأيد.
قال أبو محمد هذا كلما شنعوا به قد نقضناه والحمد لله رب العالمين فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراة لم يأت بها نص قط ولا إجماع وبالله التوفيق.
قال أبو محمد ونحن الآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده البراهين على بطلان قولهم ولا حول قال أبو محمد يقال لمن قال لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الاستدلال أقبل البلوغ أم بعده ولا بد من أحد المرين فلما الطبري فإنه أجاب بأن ذلك واجب قبل البلوغ.
قال أبو محمد وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفاً ولا مخاطباً وقد قال رسول الله ﷺ رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصغير حتى يحتلم فبطل جواب الطبري رحمه الله وأما الأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الإسلام وتصدء منها المسامع ويقطع ما بين قائلها وما بين الله عز وجل وهي أنهم قالوا لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤنة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق.
قال أبو محمد ما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم أنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز وجل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله ﷺ صادق أم كاذب ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قبل هؤلاء أنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضاء الله عز وجل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقناً بقلبه ولسانه أن الله تعالى ربه لا إله إلا هو وأن محمداً رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا دين غيره فإنه كافر مشرك اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان فو الله لولا خذلان الله تعالى الذي هو غالب على أمره ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة وهذا يكفي من تكلف النقص لهذه المقالة الملعونة ومن بلغ هذا المبلغ حسن السكوت عنه ونعوذ بالله من الضلال ثم نقول لهم أخبرونا عن هذا الذي أوجبتم عليه الشك في فرض أو الشك في صحة النبوة والرسالة كم تكون هذه المدة التي أوجبتم عليه فيه البقا شاكا مستدلا طالباً للدلائل وكيف أن لم يجد في قريته أو مدينته ولا في اقليمه محسناً للدلائل فرحل طالباً للدلائل فاعترضته أهوال ومخاوف وتعذر من بحر أو مرض فاتصل له ذلك ساعات وأياماً وجمعاً وشهوراً وسنين ما قولكم في ذلك فإن حدوا في المدة يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك كانوا متحكمين بلا دليلوقائلين بلا هدي من الله تعالى ولم يعجز أحد عن أن يقول في تحديد تلك المدة بزيادة أو نقصان ومن بلغ ها هنا فقد ظهر فساد قوله وأن قالوا لا يحد في ذلك حداً قلنا لهم فإن امتد كذلك حتى فنى عمره ومات في مدة استدلاله التي حددتم له وهو شاك في الله تعالى وفي النبوة أيموت مؤمناً ويجب له الجنة أم يموت كافراً وتجب له النار فإن قالوا يموت مؤمناً تجب له الجنة أتوا بأعظم الطوام وجعلوا الشكاك في الله الذين هم عندهم شكاك مؤمنين من أهل الجنة وهذا كفر محض وتناقض لا خفاء به وكانوا مع ذلك قد سمحوا في أن يبقى المرء دهره كله شاكاً في الله عز وجل وفي النبوة والرسالة فإن قالوا بل يموت كافراً تجب له النار قلنا لهم لقد أمرتموه بما فيه هلاكه وأوجبتم عليه ما فيه دماره وما يفعل الشيطان إلا هذا في أمره بما يؤدي إلى الخلود في النار وإن قالوا بل هو في حكم أهل الفترة قلنا لهم هذا باطل لأن أهل الفترة لم تأتهم النذارة ولا بلغهم خبر النبوة والنص إنما جاء في أهل الفترة ومن زاد في الخبر ما ليس فيه فقد كذب على الله عز وجل ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ما حد الاستدلال الموجب لاسم الإيمان عندكم وقد يسمع دليلا عليه اعتراض الجزية ذلك الدليل أم لا فإن قالوا يجزيه قلنا لهم ومن أين وجب أن يجزيه وهو ذليل معترض فيه وليس هذه الصفة من الدلائل المخرجة عن الجهل إلى العلم بل هي مؤدية إلى الجهل الذي كان عليه قبل الاستدلال فإن قالوا بل لا يجزيه إلا حتى يوقن أنه قد وقع على دليل لا يمكن الاعتراض فيه تكلفوا ما ليس في وسع أكثرهم وما لا يبلغه إلا قليل من الناس في طويل من الدهر وكثير من البحث ولقد درى الله تعالى أنهم أصفار من العلم بذلك يعنب أهل هذه المقالة الملعونة الخبيثة.
قال أبو محمد ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئاً من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله ﷺ مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجماء الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقرباً إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وأصغاره ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام وفيهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه.
قال أبو محمد لسنا نقول أنه لم يبلغنا أنه عليه السلام قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض قطعاً كقطعنا على ما شاهدناه أنه عليه السلام لم يقل قط هذا لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتبينه لهم هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله ﷺ فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خلاف للاجماع وخلاف لله تعالى ولرسوله ﷺ وجميع أهل الإسلام قاطبة فإن قالوا فما كانت حاجة الناس إلى الآيات المعجزات وإلى احتجاج الله عز وجل عليهم بالقرآن واعجازه به وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر وقلنا وبالله تعالى التوفيق إن الناس قسمان قسم لم تسكن قلوبهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذي يلزمهم طلب الاستدلال فرضاً ولا بد كما قلنا وقسم آخر وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق عز وجل في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى " بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " فهؤلاء آمنوا به عليه السلام بلا تكليف.
قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار لا ألأقل وقد قال بعضهم أنهم مستدلون. قال أبو محمد وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لا يدري ما معنى الاستدلال فكيف أن يستعمله.
قال أبو محمد ويلزم من قال بهذه المقالة أن لا يأكل من اللحم إلا ما ذبحه هو أو من يدري أنه مستدل وأن لا يطأ إلا زوجة أنها مستدلة ويلزم أن يشهد على نفسه بالكفر ضرورة قبل استدلاله ومدة استدلاله وأن يفارق امرأته التي تزوج في تلك المدة وأن لا يرث أخاه ولا أباه ولا أمه إلا أن يكونوا مستدلين وأن يعمل عمل الخوارج الذين يقتلون غيلة وعمل المغيرية المنصورة في ذبح كل من أمكنهم وقتله وأن يستحلوا أموال أهل الأرض بل لا يحل لهم الكف عن شيء من هذا كله لأن جهاد الكفار فرض وهذا كله أن التزموا طرد أصولهم وكفروا أنفسهم وأن لم يقولوا بذلك تناقضوا فصح أن كل من اعتقد الإسلام بقلبه ونطق به لسانه فهو مؤمن عند الله عز وجل ومن أهل الجنة سواء كان ذلك عن قبول أو نشأة أو عن استدلال وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فنقول لهم هل استدل من مخالفيكم في أقوالكم التي تدينون بها أحد أم لم يستدل قط أحد غيركم فلا بد من إقرارهم بأن مخالفيهم أيضاً قد استدلوا وهم عندكم مخطئون كمن لم يستدل وأنتم عندهم أيضاً مخطئون فإن قالوا إن الأدلة امنتنا من أن نكون مخطئين قلنا لهم وهذا نفسه هو قول خصومكم فإنهم يدعون أن أدلتهم على صواب قولهم وخطأ قولكم ولا فرق ما زالوا على هذه الدعوى مذ كانوا إلى يومنا هذا فما نراكم حصلتم من استدلالكم إلا على ما حصل عليه من لم يستدل سواء بسواء ولا فرق فإن قالوا لنا فعلى قولكم هذا يبطل الاستدلال جملة ويبطل الدليل كافة قلنا معاذ الله من هذا لكن أريناك أنه قد يستدل من يخطئ وقد يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى فقط وقد لا يستدل من يخطئ وقد لا يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى وكل ميسر لما خلق له والبرهان والدلائل الصحاح غير المموهة فمن وافق الحق الذي قامت عند غيره البراهين الصحاح بصحته فهو مصيب محق مؤمن استدل أو لم يستدل ومن يسر للباطل الذي قام البرهان عند غيره ببطلانه فهو مبطل مخطئ أو كافر سواء استدل أو لم يستدل وهذا هو الذي قام البرهان بصحته والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الوعد والوعيد
قال أبو محمد اختلف الناس في الوعد والوعيد فذهبت كل طائفة لقول منهم من قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافراً وفاسق وأن كل من مات مصراً على كبيرة من الكبائر فلم يمت مسلماً وإذا لم يمت مسلماً فهو مخلد في النار أبداً وإن من مات ولا كبيرة له أة تاب عن كبائره قبل موته فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلاً ومنهم من قال بأن كل ذنب صغير أو كبير فهو مخرج عن الإيمان والإسلام فإن مات عليه فهو غير مسلم وغير مسلم مخلد في النار وهذه م قال ات الخوارج والمعتزلة إلا أن بكر ابن أخت عبد الواحد ابن زيد قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما كافران من أهل الجنة لأنهما من أهل بدر وقد قال رسول الله ﷺ أن الله تعالى قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال فأهل بدر إن كفروا فمغفور لهم لأنهم بخلاف غيرهم وقال بعض المرجئة لا تضر مع الإسلام سيئة كما لا ينفع مع الكفر حسنة قالوا فكل مسلم ولو بلغ على معصية فهو من أهل الجنة لا يرى ناراً وإنما النار للكفار وكل هاتين الطائفتين تقربان أحداً لا يدخل النار ثم يخرج عنها بل من دخل النار فهو مخلد فيها أبداً ومن كان من أهل الجنة فهو لا يدخل النار وقال أهل السنة والحسين النجار وأصحابه وبشر بن غياث المريسي وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن كيسان الأصم البصري وغيلان ابن مروان الدمشقي القدري ومحمد بن شبيب ويونس بن عمران وأبو العباس الناشي والأشعري وأصحابه ومحمد بن كرام وأصحابه أن الكفار مخلدون في النار وأن المؤمنين كلهم في الجنة وإن كانوا أصحاب كبائر ماتوا مصرين عليها وأنهم طائفتان طائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها أي من النار إلى الجنة. وطائفة لا تدخل النار إلا أن كل من ذكرنا قالوا لله عز وجل أن يعذب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر بالنار ثم يدخلهم الجنة وله أن يغفر لهم ويدخلهم الجنة بدون أن يعذبهم.
ثم افترقوا فقالت طائفة منهم وهو محمد بن شبيب ويونس والناشي إن عذب الله تعالى واحداً من أصحاب الكبائر عذب جميعهم ولا بد ثم أدخلهم الجنة. وإن غفر لواحد منهم غفر لجميعهم ولا بد. و قالت طائفة بل يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية وقد يغفر لمن هو أعظم جرماً ويعذب من هو أقل جرماً.
و قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يغفر لمن يشاء من أصحاب الكبائر ويعذب من يشاء منهم إلا القاتل عمداً فإنه مخلد في النار أبداً وقالت طائفة منهم من لقى الله عز وجل مسلماً تائباً من كل كبيرة أو لم يكن عمل كبيرة قط فسيئآته كلها مغفورة وهو من أهل الجنة لا يدخل النار ولو بلغت سيئآته ما شاء الله أن يبلغ ومن لقى الله عز وجل وله كبيرة لم يتب منها فالحكم في ذلك الموازنة فمن رجحت حسناته على كبائره وسيئآته كلها تسقط وهو من أهل الجنة ولا يدخل النار وإن استوت حسناته مع كبائره وسيئآته فهؤلاء أهل الأعراف ولهم وقفة ولا يدخلون النار ثم يدخلون الجنة ومن رجحت كبائره وسيئآته بحسناته فهؤلاء مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة رسول الله ﷺ وبرحمة الله تعالى وكل من ذكرنا يجازون في الجنة بعد بما فضل لهم من الحسنات وأما من لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله تعالى فهم كلهم سواء في الجنة ممن رجحت له حسنة فصاعداً.
قال أبو محمد فأما من قال بأن صاحب الكبيرة يخلد وصاحب الذنب كذلك فإن حجتهم قول الله عز وجل " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقوله تعالى " مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " وقوله تعالى " والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وقوله تعالى " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها " وبقوله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما " وقوله " ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن " وقوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " وقوله تعالى " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة " الآية وقوله تعالى " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " وقوله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا " إلى قوله تعالى " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وقوله تعالى " الذين يأكلون الربا " الآية وذكروا أحاديث صحت عن النبي ﷺ في وعيد شارب الخمر وقاتل الهرة ومن قتل نفسه بسم أو حديد أو تردى من جبل فإنه يفعل ذلك به في جهنم خالداً ومن قتل نفسه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار وذكروا أن الكبيرة تزيل اسم الإيمان فبعضهم قال إلى شرك وبعضهم قال إلى كفر نعمة وبعضهم قال إلى نفاق وبعضهم قال إلى فسق فإذ ليس مؤمناً فلا يدخل الجنة لأنه لا يدخل الجنة المؤمنون هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة أصلاً غير ما ذكرنا وأما من خص القاتل بالتخليد فإنهم احتجوا بقوله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فقط وأما من قطع باسقاط الوعيد عن كل مسلم فاحتجوا بقول الله تعالى " لا يصلاها إلا الاشقى الذي كذب وتولى " قالوا وهذه الآية مثبتة أن كل من توعده الله عز وجل على قتل أو زنا أو ربا أو غير ذلك فإنما هم الكفار خاصة لا غيرهم واحتجوا بقول رسول الله ﷺ من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر وقول الله عز وجل " إن رحمة الله قريب من المحسنين " قالوا ومن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد أحسن فهو محسن فرحمة الله قريب منه ومن رحمه الله فلا يعذب وقالوا كما أن الكفر محبط لكل حسنة فإن الإيمان يكفر كل سيئة والرحمة والعفو أولى بالله عز وجل.
قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلاً أو يدخل فيما ذكرنا ولا يخرج عنه وبالله تعالى التوفيق وأما من قال إن الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقد يعذب من هو أقل ذنوباً ممن يغفر له فإنهم احتجوا بقول الله عز وجل " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وبعموم قوله تعالى " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وبقول رسول الله ﷺ خمس صلوات كتبهن الله على العبد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وجعلوا الآيتين اللتين ذكرنا قاضيتين على جميع الآيات التي تعلقت بها سائر الطوائف وقالوا لله الأمر كله لا معقب لحكمه فهو يفعل ما يشاء ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا.
قال أبو محمد وأما من قال بمثل هذا إلا أنه قال الله تعالى إن عذب واحداً منهم عذب الجميع وإن غفر لواحد منهم غفر للجميع فإنهم قدرية جنحوا بهذا القول نحو العدل ورأوا أن المغفرة لواحد وتعذيب من له مثل ذنوبه جور ومحاباة ولا يوصف الله عز وجل بذلك وأما من قال بالموازنة فإنهم احتجوا فقالوا إن آيات الوعيد وأخبار الوعيد التي احتج بها من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج فإنها لا يجوز أن تخص بالتعلق بها دون آيات العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط الوعيد وهي لا يجوز التعلق بها دون الآيات التي احتج بها من أثبت الوعيد بل الواجب جمع جميع تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها حق وكلها من عند الله وكلها مجمل تفسيرها بآيات الموازنة وأحاديث الشفاعة التي هي بيان لعموم تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها من عند الله قالوا ووجدنا الله عز وجل قد قال " وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا " وقال تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل " الآية وقال تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقال تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " وقال تعالى " فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئاً " الآية وقال تعالى " ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب " وقال تعالى " وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ " وقال تعالى " لتجزى كل نفس بما تسعى " وقال تعالى " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " إلى قوله " الجزاء الأوفى " وقال تعالى " وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك " وقال تعالى " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا " الآية وقال تعالى " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " وقال تعالى " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم " وقال تعالى " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " الآية وقال تعالى " لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا " الآية وقال تعالى " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " وقال تعالى " إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا " وقال تعالى " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " وقال تعالى " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " إلى قوله تعالى " قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد " إلى قوله تعالى " وما أنا بظلام للعبيد " وقال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه " إلى آخر السورة وقال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئآت " وقال تعالى " وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " وقال تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" هذا نص كلامه يوم القيامة وهو القاضي على كل مجمل قالوا فنص الله عز وجل أنه يضع الموازين القسط وأنه لا يظلم أحداً شيئاً ولا مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة من خير ومن شر فصح أن السيئة لا تحبط الحسنة وأن الإيمان لا يسقط الكبائر ونص الله تعالى أنه تجزى كل نفس بما كسبت وما عملت وما سعت وأنه ليس لأحد إلا ما سعى وأنه سيجزى بذلك من أساء بما عمل ومن أحسن بالحسنى وأنه تعالى يوفي الناس أعمالهم فدخل في ذلك الخير والشر وأنه تعالى يجازي بكل خير وبكل سوء وعمل وهذا كله يبطل قول من قال بالتخليد ضرورة وقول من قال باسقاط الوعيد جملة لأن المعتزلة تقول أن الإيمان يضيع ويحبط وهذا خلاف قول الله تعالى أنه لا يضيع إيماننا ولا عمل عامل منا وقالوا هم أن الخير ساقط بسيئة واحدة وقال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئآت " فقالوا هم أن السيئآت يذهبن الحسنات وقد نص تعالى أن الأعمال لا يحبطها إلا الشرك والموت عليه وقال تعالى " من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " فلو كانت سيئة أو كبيرة توجب الخلود في جهنم وتحبط الأعمال الحسنة لكانت كل سيئة أو كل كبيرة كفراً ولتساوت السيئآت كلها وهذا خلاف النصوص وعلمنا بما ذكرنا أن الذين قال الله تعالى فيهم " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " هم الذين رجحت حسناتهم على سيئآتهم فسقط كل سيئة قدموها وصح أن قوله تعالى " وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " هو فيمن رجحت كبائرهم حسناتهم وإن السيئة الموجبة للخلود هي الكفر لأن النصوص جاءت بتقسيم السيئآت فقال تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " فهذه سيئآت مغفورة باجتناب الكبائر وقال تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وقال تعالى " ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " فأخبر تعالى أن من السيئات المجازى لها ما هو مقدار ذرة ومنها ما هو أكبر ولا شك أن الكفر أكبر السيئآت فلو كانت كل كبيرة جزاءها الخلود لكانت كلها كفراً ولكانت كلها سواء وليست كذلك بالنص وأما وعيد الله بالخلود في القاتل وغيره فلو لم يأت إلا هذه النصوص لوجب الوقوف عندها لكنه قد قال تعالى " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض وقد صح أن القاتل ليس كافراً وإن الزاني ليس كافراً وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفاراً بما ذكرنا قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات وأنهم مأمورون بالصلوات وأن زكاة أموالهم مقبوضة وأنهم لا يقتلون وأنه إن عفى عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل ربه وأنه يرث ويورث وتؤكل ذبيحته فإذ ليس كافراً فبيقين ندري أن خلوده إنما هو مقام مدة ما وإن الصلى الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلى الخلود لا يجوز البتة غير هذا وبهذا تتألف النصوص وتتفق ومن المعهود في المخاطبة أن من وفد من بلد إلى بلد فحبس فيه لأمر أوجب احتباسه فيه مدة ما فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذي حبس فيه فمن دخل في النار ثم أخرجه منها فقد انقطع عنه صليها فليس من أهلها وإنما أهلها وأهل صليها على الاطلاق والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبداً فهكذا جاء في الحديث الصحيح فقد ذكر عليه السلام فيه من يدخل النار بذنوبه ثم يخرج منها ثم قال ﷺ وأما أهل النار الذين هم أهلها يعني الكفار المخلدين فيها وقد قال عز وجل " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فقد بين عليه السلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فبالقرآن وكلام رسول الله ﷺ صح أن ممر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط جهنم وينجي الله أولياءه من حرها وهم الذين لا كبائر لهم أو لهم كبائر تابوا عنها ورجحت حسناتهم بكبائرهم أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم وأنه تعالى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ثم يخرجهم عنها إلى الجنة بإيمانهم ويمحق الكفار بتخليدهم في النار كما قال تعالى " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " وأيضاً فإن كل آية وعيد وخبر وعيد تعلق به من قال بتخليد المذنبين فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها لأنهم يقولون أن من أتى بتلك الكبائر ثم تاب سقط عنه الوعيد فقد تركوا ظاهر تلك النصوص فإن قالوا إنما قلنا ذلك بنصوص اخر أوجبت ذلك قيل لهم نعم وكذلك فعلنا بنصوص أخر وهي آيات الموازنة وأنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق ويقال لمن أسقط آيات الوعيد جملة وقال أنها كلها إنما جاءت في الكفار إن هذا باطل لأن نص القرآن بالوعيد على الفار من الزحف ليس إلا على المؤمن بيقين بنص الآية في قوله تعالى " ومن يولهم يومئذ دبره " ولا يمكن أن يكون هذا في كافر أصلاً فسقط قول من قال بالتخليد وقول من قال بإسقاط الوعيد ولم يبق إلا قول من أجمل جواز المغفرة وجوز العقاب.
قال أبو محمد فوجدنا هذا القول مجملاً قد فسرته آيات الموازنة وقوله تعالى الذي تعلقوا به " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " حق على ظاهرها وعلى عمومها وقد فسرتها بإقرارهم آيات أخر لأنه لا يختلف في أن الله تعالى يغفر أن يشرك به لمن تاب من الشرك بلا شك وكذلك قوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فهذا كله حق إلا أنه قد بين من هم الذين شاء أن يغفر لهم فإن صرتم إلى بيان الله تعالى فهو الحق وأن أبيتم إلا الثبات على الأجمال فأخبرونا عن قول الله تعالى " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً " وقوله تعالى " بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " أترون أن هذا العموم تقولون به فتجيزون أنه يغفر الكفر لأنه ذنب من الذنوب أم لا وأخبرونا عن قول الله عز وجل حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه يقول له تعالى يوم القيمة " يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " إلى قوله " وأنت على كل شيء شهيد " إلى قوله تجري من تحتها الأنهار أيدخل النصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه الهين من دون الله تعالى في جواز المغفرة لهم لصدق قول الله تعالى في هذا القول من التخبير بين المغفرة لهم أو تعذيبهم وأخبرونا عن قوله تعالى " قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " فمن قولهم أن المغفرة لا تكون البتة لمن كفر ومات كافراً وأنهم خارجون من هذا العموم ومن هذه الجملة بقوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " قيل لهم ولم خصصتم هذه الجملة بهذا النص ولم تخصوا قوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " بقوله " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " وبقوله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " وبقوله تعالى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " وهذا خبر لا نسخ فيه فإن قالوا نعم إلا أن يشاء أن يغفر لهم قيل لهم قد أخبر الله تعالى أنه لا يشاء ذلك بإخباره تعالى أنه في ذلك اليوم يجزي كل نفس ما كسبت ولا فرق.
قال أبو محمد وقد أخبر النبي ﷺ أن الرجل يأتي يوم القيمة وله صدقة وصيام وصلاة فيوجد قد سفك دم هذا وشتم هذا فتؤخذ حسناته كلها فيقتص لهم منها فإذا لم يبق له حسنة قذف من سيئاتهم عليه ورمى في النار وهكذا أخبر عليه السلام في قوم يخرجون من النار حتى إذا نقوا وهذبوا أدخلوا الجنة وقد بين عليه السلام ذلك بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة شعير من خير ثم من في قلبه مثقال برة من خير ثم من في قلبه مثقال حبة من خردل ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدنى أدنى أدنى من ذلك ثم من لم يعمل خيراً قط إلا شهادة الإسلام فوجب الوقوف عند هذه النصوص كلها المفسرة للنص المجمل ثم يقال أخبرونا عمن لم يعمل شراً قط إلا اللمم ومن هم بالشر فلم يفعله فمن قول أهل الحق أنه مغفور له جملة بقوله تعالى " إلا اللمم " وبقول رسول الله ﷺ أن الله تجاوز قال أبو محمد وهذا ينقسم أقساماً أحدها من هم بسيئة أي شيء كانت من السيئآت ثم تركها مختاراً لله تعالى فهذا تكتب له حسنة فإن تركها مغلوباً لا مختاراً لم تكتب له حسنة ولا سيئة تفضيلاً من الله عز وجل ولو عملها كتبت له سيئة واحدة ولو هم بحسنة ولم يعلمها كتبت له حسنة واحدة فإن عملها كتب له عشر حسنات وهذا كله نص رسول الله ﷺ وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا فذهب إلى أن الهم بالسيئة إصرار عليها فقلت له هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تماد عليه أن يفعله وأما من هم بما لم يفعل بعد فليس إصراراً قال الله تعالى: " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ثم نسألهم عن عمل بالسيئات حاشا الكبائر عدداً عظيماً ولم يأت كبيرة قط ومات على ذلك أيجوزون أن يعذبه الله تعالى على ما عمل من السيئات أم يقولون أنها مغفورة له ولا بد فإن قالوا أنها مغفورة ولا بد صدقوا وكانوا قد خصوا قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وتركوا حمل هذه الآية على عمومها فلا ينكروا ذلك على من خصها أيضاً بنص آخر وإن قالوا بل جائز أن يعذبهم الله تعالى على ذلك أكذبهم الله بقوله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً " ونعوذ بالله من تكذيب الله عز وجل ثم نسألهم عمن عمل من الكبائر ومات عليها وعمل حسنات رجحت بكبائره عند الموازنة أيجوز أن يعذبه الله تعالى بما عمل من تلك الكبائر أم هي مغفورة له ساقطة عنه فإن قالوا بل هي مغفورة وساقطة صدقوا وكانوا قد خصوا عموم قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وجعلوا هؤلاء ممن شاء ولا بد أن يغفر لهم وإن قالوا بل جايز أن يعذبهم أكذبهم الله تعالى بقوله " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " وبقوله " إن الحسنات يذهبن السيئات ".
قال أبو محمد: وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلاً فقد صح يقيناً أن هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك فبقي الذين لم يشاء الله تعالى أن يغفر لهم ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في الموازنة على حسناته فهو الذين يجازون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة وبرحمة الله عز وجل فقالوا من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ومنهم من يعذبه قلنا لهم أعندكم بهذا البيان نص وهم لا يجدونه أبداً فظهر تحكمهم بلا برهان وخلافهم لجميع الآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة لأن الله تعالى قال إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولا خلاف في أنه تعالى يغفر الشرك لمن آمن فصح أنها مجملة تفسيرها ساير الآيات والأخبار وكذلك حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإنهم متفقون على أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئاً إلا أنه قتل وزنى وسرق فإنه قد يعذب ويقولون إن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأييد بل يعذب ثم يخرج عن النار.
قال أبو محمد: هذا ترك منهم أيضاً لظاهر هذا الخبر.
قال أبو محمد: ولا فرق بين قول الله تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " وبين قوله " وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " كلاهما خبران جاز إبطال أحدهما جاز إبطال الآخر ومعاذ الله من هذا القول وكذلك قد منع الله تعالى من هذا القول بقوله تعالى " لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد " ونحن نقول أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن كل أحد فهو في مشيئة الله تعالى إلا أننا نقول أنه تعالى قد بين من يغفر له ومن يعذب وإن الموازين حق والموازنة حق والشفاعة حق وبالله تعالى التوفيق حدثنا محمد بن سعيد بن بيان حدثنا أحمد بن عبد النصير حدثنا القاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الختني حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله تعالى " وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص " قال ما وعدوا فيه من خير وشر وهذا هو نص وإني وإن واعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي قال أبو محمد: وهذا لا شيء قد جعل فخر صبي أحمق كافر حجة على الله تعالى والعرب تفخر بالظلم قال الراجز: أحيا أباه هاشم بن حرمله ترى الملوك حوله مغربله يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له وقد جعلت العرب مخلف الوعد كاذبا قال الشاعر أنشده أبو عبيدة معمر بن المثنى: أتوعدني وراء بني رباح كذبت لتقصرن يداك دوني فإن قالوا خصوا وعيد الشرك بالموازنة قلنا لا يجوز لأن الله تعالى منع من ذلك قال تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " فمن حبط عمله فلا خير له.
قال أبو محمد: وأهل النار متفاضلون في عذاب النار فأقلهم عذاباً أبو طالب فإنه توضع جمرتان من نار في أخمصيه إلى أن يبلغ الأمر إلى قوله تعالى " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقوله تعالى "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" ولا يكون الأشد إلا إلى جلب إلا دون وقال تعالى " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ".
قال أبو محمد: والكفار معذبون على المعاصي التي عملوا من غير الكفر برهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " فنص تعالى على أن الكفار يعذبون على ترك الصلاة وعلى ترك الطعام للمسكين.
قال أبو محمد: وأما من عمل منهم العتق والصدقة أو نحو ذلك من أعمال البر فحابط كل ذلك لأن الله عز وجل قال أنه من مات وهو كافر حيط عمله لكن لا يعذب الله أحداً إلا على ما عمل ما لم يعمل قال الله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فلما كان من لا يطعم المسكين من الكفار يعذب على ذلك عذاباً زائداً فالذي أطعم المسكين مع كفره لا يعذب ذلك العذاب الزائد فهو أقل عذاباً لأنه لم يفعل من الشر ما عمل من هو أشد عذاباً لأنه عمل خيراً.
قال أبو محمد: وكل كافر عمل خيراً وشراً ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير مكتوب مجازى به في الجنة وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه برهان ذلك حديث حكيم بن حزام عن رسول الله ﷺ أنه قال يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم فقال له رسول الله ﷺ أسلمت على ما سلف لك من خير فأخبر أنه خير وأنه له إذا أسلم وقالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه كان يصل الرحم ويقرى الضيف أينفع ذلك قال لا لأنه لم يقل يوماً " وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ " فأخبر عليه السلام أنه لم ينتفع بذلك لأنه لم يسلم فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك وأما مؤاخذته بما عمل فحديث ابن مسعود رضي الله عنه بنص ما قلنا عن رسول الله ﷺ كما قلناه فإن اعترض معترض بقول الله تعالى " لئن أشركت ليحبطن عملك " ومن أسلم فليس من الخاسرين وقد بين ذلك بقوله " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " وإن اعترضوا فيما قلنا من المؤاخذة بما عمل في الكفر بقوله تعالى " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " قلنا لهم هذا حجة لنا لأن من انتهى عن الكفر غفر له وإن انتهى عن الزنا غفر له وإن لم ينته عن الزنا لم يغفر له ما انتهى عنه ولم يغفر له ما لم ينته عنه ولم يقل تعالى إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم سائر ذنوبهم والزيادة على الآية كذب على الله تعالى وهي أعمال متغايرة كما ترى ليست التوبة عن بعضها توبة عن سائرها فلكل واحد منها حكم فإن ذكروا حديث عمرو بن العاص عن النبي ﷺ الإسلام يجب ما قبله فقد قلنا أن الإسلام اسم لجميع الطاعات فمن أصر على المعصية فليس فعله في المعصية التي يتمادى عليها إسلاماً ولا إيماناً كما قال رسول الله ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فصح أن الإسلام والإيمان هو جميع الطاعات فإذا أسلم من الكفر وتاب من جميع معاصيه فهو الإسلام الذي يجب ما قبله وإذا لم يتب من معاصيه فلم يحسن في الإسلام فهو مأخوذ بالأول والآخر كما قال رسول الله ﷺ وبهذا تتفق الأحاديث وكذلك قوله عليه السلام والهجرة تجب ما قبلها فقد صح عنه عليه السلام أن المهاجر من هجر ما نهاه الله عنه فمن تاب من جميع المعاصي التي سلفت منه فقد هجر ما نهاه الله عنه فهذه هي الهجرة التي تجب ما قبلها وأما قوله عليه السلام والحج يجب ما قبله فقد جاء أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فهذا على الموازنة التي ربنا عز وجل عالم بمراتبها ومقاديرها وإنما نقف حيث وقفنا الله تعالى ورسوله ﷺ وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واستدركنا قول رسول الله ﷺ في قاتل نفسه حرم عليه الجنة وأوجب له النار مع قوله من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم عليه النار وأوجب له الجنة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " فصح أن كلامه ﷺ كله وحي من عند الله تعالى وقال عز وجل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فمن عند الله تعالى وأنه لا اختلاف في شيء منه وأنه كله متفق عليه فإذ ذلك كذلك فواجب ضم هذه الأخبار بعضها إلى بعض فيلوح الحق حينئذ بحول الله وقوته فمعنى قوله ﷺ في القاتل حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار مبني على الموازنة فإن رجحت كبيرة قتله نفسه على حسناته حرم الله عليه الجنة حتى يقتص منه بالنار التي أوجبها الله تعالى جزاء على فعله وبرهان هذا حديث الذي أسلم وهاجر مع عمرو بن الحممة الدوسي ثم قتل نفسه لجراح جرح به فتألم به فقطع عروق يده فنزف حتى مات فرآه بعض أصحاب النبي ﷺ في حال حسنة إلا يده وذكر أنه قيل له لن يصلح منك ما أفسدت فقال رسول الله صلى الله وسلم اللهم وليديه فاغفر ومعنى قول رسول الله ﷺ من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهره منفرداً لكن يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد ﷺ والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام ومعناه حينئذ أن الله عز وجل أوجب له الجنة ولا بد إما بعد الاقتصاص وإما دون الاقتصاص على ما توجبه الموازنة وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها القاطنين فيها على ما بينا قبل من قوله تعالى " لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا " وقوله تعالى " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها " فنص الآية أنها في الكفار هكذا في نص الآية.
قال أبو محمد: وأما الكفارة فإن الله تعالى قال: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ".
قال أبو محمد: ومن المحال أن يحرم الله تعالى علينا أمراً ويفرق بين أحكامه ويجعل بعضه مغفوراً باجتناب بعض ومؤاخذاً به إن لم يجتنب البعض الآخر ثم لا يبين لنا المهلكات من غيرها فنظرنا في ذلك فوجدنا قوماً يقولون أن كل ذنب فهو كبيرة.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لأن نص القرآن مفرق كما قلنا بين الكبائر وغيرها وبالضرورة ندري أنه لا يقال كبيرة إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها والكبائر أيضاً تتفاضل فالشرك أكبر مما دونه والقتل أكبر من غيره وقد قال رسول الله ﷺ أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وأنه لكبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فأخبر عليه السلام أنهما كبير وما هما بكبير وهذا بين لأنهما كبيران بالإضافة إلى الصغائر المغفورة باجتناب الكبائر وليسا بكبيرين بالإضافة إلى الكفر والقتل.
قال أبو محمد: فبطل القول المذكور فنظرنا في ذلك فوجدنا معرفة الكبير من الذنوب مما ليس بكبير منها لا يعلم البتة إلا بنص وارد فيها إذ هذا من أحكام الله تعالى التي لا تعرف إلا من عنده تعالى فبحثنا عن ذلك فوجدنا الله تعالى قد نص بالوعيد على ذنوب في القرآن وعلى لسان رسوله ﷺ ووجدنا ذنوباً أخر لم ينص عليها بوعيد فعلمنا يقيناً أن كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار أو توعد عليه رسوله ﷺ بالنار فهو كبير وكل ما نص عليه رسول الله صلى الله وسلم باستعظامه فهو كبير كقوله عليه السلام اتقوا السبع الموبقات الشرك والسحر والقتل والزنا وذكر الحديث وكقوله عليه السلام عقوق الوالدين من الكبائر وكل ما لم يأت نص باستعظامه ولا جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير ولا يمكن أن يكون الوعيد بالنار على الصغائر على انفرادها لأنها مغفورة باجتناب الكبائر فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق.
الموافاة
قال أبو محمد: اختلف المتكلمون في معنى عبروا عنه بلفظ الموافاة وهم أنهم قالوا في إنسان مؤمن صالح مجتهد في العبادة ثم مات مرتداً كافراً وآخر كافر متمرد أو فاس ثم مات مسلماً تائباً كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله تعالى فهذب هشام بن عمرو الفوطي وجميع الأشعرية إلى أن الله عز وجل لم يزل راضياً عن الذي مات مسلماً تائباً ولم يزل ساخطاً على الذي مات كافراً أو فاسقاً واحتجوا في ذلك بأن الله عز وجل لا يتغير علمه ولا يرضى ما سخط ولا يسخط ما رضي وقالت الأشعرية الرضا من الله عز وجل لا يتغير منه تعالى صفات الذات لأين ولآن ولا يتغير إن وذهب سائر المسلمين إلى أن الله عز وجل كان ساخطاً على الكافر والفاسق ثم رضي الله عنهما إذا أسلم الكافر وتاب الفاسق وأنه كان تعالى راضياً عن المسلم وعن الصالح ثم سخط عليهما إذا كفر المسلم وفسق الصالح.
قال أبو محمد: احتجاج الأشعرية ها هنا هو احتجاج اليهود في إبطال النسخ ولا فرق ونحن نبين بطلان احتجاجهم وبطلان قولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أما قولهم عن علم الله عز وجل لا يتغير فصحيح ولكن معلوماته تتغير ولم نقل أن علمه يتغير ومعاذ الله من هذا ولم يزل علمه تعالى واحداً يعلم كل شيء على تصرفه في جميع حالاته فلم يزل يعلم أن زيداً سيكون صغيراً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم ميتاً ثم مبعوثاً ثم في الجنة أو في النار ولم يزل يعلم أن سيؤمن ثم يكفر أو أنه يكفر ثم يؤمن أو أنه يكفر ولا يؤمن أو أنه يؤمن ولا يكفر وكذلك القول في الفسق والصلاح ومعلوماته تعالى في ذلك متغيرة مختلفة ومن كابر هذا فقد كابر العيان والمشاهدات وأما قولهم أن الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبغاء بلا صلاة وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كله كما قال تعالى " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " ثم فرض علينا الصلاة والصوم وحرم علينا الخمر فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر ورضي لنا خلاف ذلك وهذا لا ينكره مسلم ولم يزل الله تعالى عليماً أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ثم أنه سيحرمه ويسخطه وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم أنه يحله ويرضاه كما علم عز وجل أنه سيحيى من أحياه مدة كذا وأنه يعز من أعزه مدة ثم يذله وهكذا المؤمن يموت مرتداً والكافر يموت مسلماً فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافراً ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق ونص القرآن يشهد بذلك قال تعالى " ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم " فصح يقيناً أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انت قال هذه الأحوال من الإنسان الواحد وقوله تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط ومن المحل أن يحبط عمل لم يكن محسوباً قط فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم مات كافراً أنه كان محسوباً ثم حبط إذا ارتد وكذلك قال الله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " فصح أنه لا يمحو إلا ما كان قد كتبه ومن المحل أن يمحى ما لم يكن مكتوباً وهذا بطلان قولهم يقيناً ولله الحمد وكذلك نص قوله تعالى " أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فهذا نص قولنا وبطلان قولهم لأن الله تعالى سمى أفعالهم الماضية سيئات والسيئات مذمومة عنده تعالى بلا شك ثم أخبر تعالى أنه أحالها وبدلها حسنات مرضية فمن أنكر هذا فهو مكذب لله تعالى والله تعالى مكذب له وكذلك قال الله تعالى أنه سخط أكل آدم من الشجرة وذهاب يونس مغاضباً ثم أخبر عز وجل أنه تاب عليهما واجتبى يونس بعد أن لامه ولا يشك كل ذي عقل أن اللائمة غير الاجتباء.
قال أبو محمد: ثم نقول لهم أفي الكافر كفر إذا كان كافراً قبل أن يؤمن وفي الفاسق فسق قبل أن يتوب وفي المؤمن إيمان قبل أن يرتد أم لا فإن قالوا لا كابروا وأحالوا وإن قالوا نعم قلنا لهم فهل يسخط الله الكفر والفسق أو يرضى عنهما فإن قالوا بل يسخطهما تركوا قولهم وإن قالوا بل يرضى عن الكفر والفسق كفروا ونسألهم عن قتل وحشى حمزة رضي الله عنه إرضاء كان لله تعالى فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا بل ما كان إلا سخطاً سألناهم أيؤاخذه الله تعالى به إذا أسلم فمن قولهم لا وهكذا في كل حسنة وسيئة فظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الكلام في من لم تبلغه الدعوة
ومن تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه قال أبو محمد: قال الله عز وجل " لأنذركم به ومن بلغ " وقال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " فنص تعالى ذلك على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه وهكذا جاء النص عن رسول الله ﷺ أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف والأصلح الأصم ومن كان في الفترة والمجنون فيقول المجنون يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ويقول الخرف والأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها فيوقد لهم نار ويقال لهم ادخلوها فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله ﷺ بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً لانقطاع الطرق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض.
قال أبو محمد: ورأيت قوماً يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلاً بها ولا من لم تبلغه.
قال أبو محمد: وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلى الله وسلم بعث إلى الإنس كلهم وإلى الجن كلهم وإلى كل من لم يولد إذ بلغ بعد الولادة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى آمراً أن يقول " إني رسول الله إليكم جميعاً " وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحداً وقال تعالى " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " فأبطل سبحانه أن يكون أحد سدى والسدى هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهي فأبطل عز وجل هذا الأمر ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط وأن من بلغه ذكر النبي ﷺ حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه فإذا بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به وأتباعه وطلب الدين اللازم له والخروج عن وطنه لذلك وإلا فقد استحق الكفر والخلود في النار والعذاب بنص القرآن وكل ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أن في حين بعث النبي ﷺ يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ومعرفة شرائعه فإن ماتوا في تلك الحال ماتوا كفاراً إلى النار ويبطل هذا قول الله عز وجل " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وليس في وسع أحد علم الغيب فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة أنه لا يلزم أحداً شيء من الشرائع حتى تبلغه قلنا لا حجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم واحتمال بنيتهم إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفاً يعذبون به إن لم يفعلوه وإنما كلفوه تكليف من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله ﷺ أن له أمراً من الحكم مجملاً ولم يبلغه نصه ففرض عليه اجتهاد نفسه في طلب ذلك الأمر وإلا فهو عاص لله عز وجل قال الله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وبقوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " وأما من تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع إلى ما تاب عنه فإنه إن كان توبته تلك وهو معتقد للعودة فهو عابث مستهزئ مخادع لله تعالى قال الله تعالى " يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم " إلى قوله " عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وأما من كانت توبته نصوحاً ثابت العزيمة في أن لا يعود فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة لكل ما تاب عنه بالنص قال عز وجل " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً " فإن عاد بعد ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد غفره الله له أبداً فإن ارتد ومات كافراً فقد سقط عنه الكفر وغيره.
قال أبو محمد: ولا تكون التوبة إلا بالندم والاستغفار وترك المعاودة والعزيمة على ذلك والخروج من مظلمة إن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن يفجور المعروف بابن الأخشيد وهو أحد أركان المعتزلة وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة من الأتراك وولى أبوه الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي فرأيت له في بعض كتبه يقول أن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك الكبيرة.
قال أبو محمد: هذا أشنع ما يكون من قول المرجئة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله عالماً بأنه مسيء فيه مستغفر منه ومن كان بخلاف هذه الصفة لكن مستحسناً لما فعل غير نادم عليه فليس مسلماً فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن الأخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها وهذا خلاف الوعيد فإن قال قائل فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن أفتقطعون على قبول توبة التائب وعمل العامل للخير إن كل ذلك مقبول وهل تقطعون على المكثر من السيئات أنه في النار قلنا وبالله تعالى التوفيق أن الأعمال لها شروط من توفية النية حقها وتوفية العمل حقه فلو أيقنا أن العمل وقع كاملاً كما أمر الله تعالى لقطعنا على قبول الله عز وجل له وأما التوبة فإذا وقعت نصوحاً فنحن نقطع بقبولها وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في النفوس ولعل المظهر الخير مبطن للكفر أو مبطن على كباير لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء وكذلك المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن فاستحق الجنة أو لعل له حسنات في باطن أمره تفيء على سيئاته فيكون من أهل الجنة فلهذا وجب أن لا نقطع على أحد بعينه بجنة ولا نار حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم في الجنة وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأهل بدر وأخل السوابق فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك على لسان رسوله ﷺ وحاشا من مات معلناً للكفر فإنا نقطع عليه بالنار ونقف فيمن عدا هؤلاء إذا أننا نقطع على الصفات فنقول من مات معلناً للكفر أو مبطناً له فهو في النار خالداً فيها ومن لقي الله تعالى راجح الحسنات على السيئات والكبائر أو متسايهما فهو في الجنة لا يعذب بالنار ومن لقي الله تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله قال أبو محمد: ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال وهو أن من كان مظهر الشيء من الديانات متحملاً للأذى فيه غير مستجلب بما يلقي من ذلك حالاً فإنه مقطوع على باطنه وظاهره قطعاً لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو بعدهم فإن هؤلاء رضي الله عنهم رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئاً واحتملوا من المضض ما لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح لهم ذلك فيهم عند أحد فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله عز وجل وعلى خيرهم وفضلهم وكذلك نقطع على أن عمر بن عبيد كان يدين بأبطال القدر بلا شك في باطن أمره وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كانا في باطن أمرهما يدينان الله تعالى بالقياس وأن داود بن علي كان في باطن الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك وأن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك وبأن القرآن غير مخلوق بلا شك وهكذا كل من تناصرت أحواله وظهر جده في معتقد وترك المسامحة فيه واحتمل الأذى والمضض من أجله.
قال أبو محمد: وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل ذي عقد من أن يتبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه أو صبر عليه وأما من كان بغير هذه الصفة فلا نقطع على عقده وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الشفاعة والميزان والحوض وعذاب القبر والكتبة
قال أبو محمد: اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج وكل من تبع أن لا يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها وذهب أهل السنة والأشعرية والكرامية وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة واحتج المانعون بقول الله عز وجل " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وبقوله عز وجل " يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله " وبقوله تعالى " قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً " وبقوله تعالى " واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة " وبقوله تعالى " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " وبقوله تعالى " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " وبقوله تعالى " وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ".
قال أبو محمد: من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض السنن دون بعض ولا على القرآن دون بيان رسول الله ﷺ الذي قال له ربه عز وجل " لتبين للناس ما نزل إليهم " وقد نص الله على صحة الشفاعة في القرآن فقال تعالى " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً " فأوجب عزل وجل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهداً بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة بنقل الكواف لها قال تعالى " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً " وقال تعالى " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عز وجل ممن أذن له فيها ورضي قوله ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد ﷺ لأنه أفضل ولد آدم عليه السلام وقال تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وكم من ملوك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " وقال تعالى " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقيناً أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز وجل وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار قال تعالى لا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا نعوذ بالله منها فإذ لا شك فيه فقد صح يقيناً أن الشفاعة التي أوجب الله عز وجل لمن أذن له واتخذ عنده عهداً ورضي قوله فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت.
قال أبو محمد: وهما شفاعتان إحداهما الموقف ومسعه الحال وهو المقام المحمود الذي جاء النص في القرآن به في قوله " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " وهكذا جاء الخبر الثابت نصاً والشفاعة الثانية في إخراج أهل الكبائر من النار طبقة طبقة على ما صح في ذلك الخبر وأما قول الله تعالى " قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ولا تملك نفس لنفس شيئاً " فما خالفناهم في هذا أصلاً وليس هذا من الشفاعة في شيء فنعم لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً ولا رشداً ولا هدى وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى وضراعة ودعاء وقال بعض منكري الشفاعة أن الشفاعة ليست غلا في المحسنين فقط واحتجوا بقوله تعالى " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن من أذن الله في إخراجه من النار وأدخله الجنة وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه وهذا حق وفضل الله تعالى على من قد غفر له ذنوب بأن رجحت حسناته على كبائره أو بأن لم تكن له كبيرة أو بأن تاب عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر به إلى الجنة ففيما ذا يشفع له وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره حسناته فأدخل النار ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة وكذلك الخلق في كونهم في الموقف هم أيضاً في مقام شنيع فهم أيضاً محتاجون إلى الشفاعة وبالله تعالى التوفيق وبما صحت الأخبار من ذلك نقول.
وأما الميزان فقد أنكره قوم فخالفوا كلام الله تعالى وإقداماً وتنطع آخرون فقالوا هو ميزان بكفتين من ذهب وهذا إقدام آخر لا يحل قال الله عز وجل " ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ".
قال أبو محمد: وأمور الآخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن أو بما جاء عن رسول الله ﷺ ولم يأت عنه عليه السلام شيء يصح في صفة الميزان ولو صح عنه عليه السلام في ذلك شيء لقلنا به فإذ لا يصح عنه عليه السلام في ذلك فلا يحل لأحد أن يقول على الله عز وجل ما لم يخبرنا به لكن نقول كما قال الله عز وجل " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " إلى قوله " وكفى بنا حاسبين " وقال تعالى " والوزن يومئذ الحق " وقال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " فنقطع على أن الموازين توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد قال تعالى عن الكفار " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " وليس هذا على أن لا توزن أعمالهم بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف قد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " إلى قوله " فكنتم بها تكذبون " فأخبر عز وجل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيات الله عز وجل كفار بلا شك ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عز وجل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر من مقدار الذرة التي لا تحس وزنها في موازيننا أصلاً فما زاد ولا ندري كيف تلك الموازين إلا أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثفل ممن تصدق بكذآنة وليس هذا وزناً وندري أن إثم القاتل أعظم من إثم اللاطم وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي التطوع بل بعض الفرائض أعظم من بعض فقد صح عن النبي ﷺ أن من صلى الصبح في جماعة كمن قام ليلة ومن صلى العتمة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال فإنما يوزن عمل العبد خيره مع شره ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل وأما من قال بما لا يدري أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قاله قياساً على موازين الدنيا وقد أخطأ في قياسه إذ في موازين الدنيا ما لا كفة له كالقرطسون وأما نحن فإنما اتبعنا النصوص الواردة في ذلك فقط ولا نقول إلا بما جاء به قرآن أو سنة صحيحة عن النبي ﷺ ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ولا نكذب إلا بما فيهما إبطاله وبالله تعالى التوفيق.
وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي ﷺ ولمن ورد عليه من أمته ولا ندري لمن أنكره متعلقاً ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي ﷺ في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق.
وأما الصراط فقد ذكرناه في الباب الأول الذي قبل هذا وأنه كما قال رسول الله ﷺ يوضع الصراط بين ظهراني جهنم ويمر علهي الناس فمخدوج وناج ومكردس في نار جهنم وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون ذلك إلى من يقع في النار وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى السماء وهو معنى قول الله تعالى " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين " وقال تعالى " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " وقال تعالى " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك " وقال تعالى " إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
قال أبو محمد وكل هذا ما لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام إلا أنه لا يعلم أحد من الناس كيفية ذلك الكتاب.
عذاب القبر قال أبو محمد ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله ﷺ به.
قال أبو محمد: وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وبقوله قال أبو محمد: وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى " وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا هو عذاب القبر وقال " إنما توفون أجوركم يوم القيامة " وقال تعالى في آل فرعون " النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " فهذا العرض المذكور هو عذاب القبر وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع والغريق تأكله دواب البحر والمحرق والمصلوب والمعلق فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان لهؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مساءلة ونعوذ بالله من هذا بل كل ميت فلا بد له من فتنة وسؤال وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم وينقلبون إلى الجنة أو النار وأيضاً فإن جسد كل إنسان فلا بد من العود إلى التراب يوماً ما كما قال الله تعالى " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " فكل من ذكرنا من مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رماداً أو رجيعاً ويتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس أثر خروجها من الجسد فهو قبر لها إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثة وأحياناً ثلاثاً وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء و " الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " و " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه " وكذلك قوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها " إلى قوله " إلى أجل مسمى " فصح بنص القرآن أن روح من مات لا يرجع إلى جسده إلا إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة وكذلك أخبر رسول الله ﷺ أنه رأى الأرواح ليلة أسرى به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أهل الشقاء وأخير عليه السلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقاً قبل أن يكون لهم قبور فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوماً قد جيفوا فقال عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم فلم ينكر عليه السلام على المسلمين قولهم أنهم قد جيفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له.
قال أبو محمد: ولم يأت قط عن رسول الله ﷺ في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه عليه السالم لقلنا به فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقول وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوى تركه شعبة وغيره وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضاً عن الصحابة رضي الله عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد ابن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن منصور ابن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحاً قبل أن يصلب فقيل له هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق فمال إليها فعزاها وقال أن هذه الجثث ليست بشيء وأن الأرواح عند الله فقالت أسماء وما يمنعني وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وحدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني ثنا أبو موسى محمد بن المثني الزمن ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي اسحق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود في قول الله عز وجل " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال ابن مسعود هي التي في البقرة " وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخلاف من الصحابة رضي الله عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان قال أبو محمد: وقد صح عن النبي ﷺ أنه رأى موسى عليه السالم قائماً في قبره يصلي ليلة الإسراء وأخبر أنه رآه في السماء السادسة أو السابعة وبلا شك إنما رأى روحه وأما جسده فموارى بالتراب بلا شك فعلى هذا أن موضع كل روح يسمى قبراً فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث كانت وبالله تعالى التوفيق.
مستقر الأرواح
قال أبو محمد اختلف الناس في مستقر الأرواح وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببيرهونت وهو بئر بحضرموت وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية وهذا قول فاسد لأنه لا دليل عليه أصلاً وما لا دليل عليه فهو ساقط ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكاناً آخر غير ما ادعاه هؤلاء وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول وبالله تعالى التوفيق.
وذهب عوام أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها وهذا قول لا حجة له أصلاً تصححه الأخبر ضعيف لا يحتج بمثله لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث وما كان هكذا فهو ساقط أيضاً وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلاً ومن عجائب أصحاب هذه المقالة الفاسدة قولهم أن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفني وهكذا أبداً وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام وزاد بعضهم فقال إن صحت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب وهذا أيضاً حمق آخر ودعاوي في غاية الفساد وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذب أو ينعم وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله ﷺ كان ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ولا أنه يركب فيه حياة ولا أنه يعذب ولا ينتقم وهذا كله مفحم في كلام النبي ﷺ وإنما في الحديث أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب فلا يحول تراباً وأنه منه ابتداء خلق المرء ومنه يبتدأ إنشاؤه ثانية فقط وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره وأن عجب الذنب خاصة تتبدد أجزاؤه وهي عظام تحسها لا تحول تراباً وأن الله تعالى يبتدئ الإنشاء الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان ثم ركب عليه سائره وإذ هذا ممكن لو لم يأت به نص فخبر رسول الله ﷺ أحق بالتصديق من كل خبر لأنه عن الله عز وجل قال تعالى " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " وقال تعالى " مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا " وقال أبو بكر بن كيسان الأصم لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد.
قال أبو محمد: وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين الم قال تين في باب الكلام في الروح والنفس من كتابنا هذا بحول الله وقوته والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله الله تعالى ونبيه ﷺ لا يتعداه فهو البرهان الواضحوهو أن الله تعالى قال " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " وقال تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا " فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
قال أبو محمد: وهي العاقلة الحساسة وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء ثم أقرها تعالى حيث شاء لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها عز وجل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت لا تزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء كما قال تعالى " ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى " وقال عز وجل " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً " الآية وكذلك أخبر رسول الله ﷺ أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وهذا نص قولنا والحمد لله فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله ﷺ ليلة أسرى بع عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه السلام وأرواح أهل السقاوة عن يساره عليه السلام وذلك عند منقطع العناصر وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه وقال على هذا أجمع أهل العلم.
قال أبو محمد: وهو قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا وهذا هو قول الله عز وجل " فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " وقوله تعالى " وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ " ولا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور فتقوم الساعة ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد وهي الحياة الثانية ويحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين أبداً.
قال أبو محمد: قول بعض الأشعرية معنى قول النبي ﷺ في العهد المأخوذ في قول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم " إن إذ هاهنا بمعنى إذا فقول في غاية السقوط لوجوه خمسة أولها أنه دعوى بلا دليل والثانية أن إذ بمعنى إذا لا يعرف في اللغة وثالثها أنه لو صح له تأويله هذا الفاسد وهو لا يصح لكان كلاماً لا يعقل ولا يفهم وإنما أورده عز وجل حجة علينا ولا يحتج الله عز وجل إلا بما يفهم لا بما لا يفهم لأن الله تعالى قد تطول علينا بإسقاط الأصر عنا ولا أصر أعظن من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ورابعها أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن والعيان يبطل هذا لأننا نشاهد كثيراً من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولد عليه إلى أن مات وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين وخامسها أن الله عز وجل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا بذلك على أن الذكر يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام علينا الحجة بذلك الإشهاد دليلاً كراهية أن نقول يوم القيامة أنا كنا نحن فيها عن هذا غافلين أي عن ذلك الإشهاد المذكور فصح أن ذلك الإشهاد قبل هذه الدار التي نحن فيها التي أخبرنا الله عز وجل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضاً فبطل بذلك قول بعض الأشعرية وغيرها وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى وكلام رسول الله ﷺ إليها وهذا هو الباطل الذي لا يحل ونحن ولله الحمد إنما أتينا إلى ما قاله عز وجل وما صح عن رسول ﷺ فقلنا به ولم نحكم في ذلك بطراً ولا هوى ولا رددناهما إلى قول أحد بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن والحمد لله رب العالمين كثيراً وهذا هو الحق الذي لا يحق تعديه.
قال أبو محمد: وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم وأنهم غير أصحاب اليمين وكذلك أخبر عليهم السلام أنه رآهم في السموات ليلة أسرى به في سماء سماء وكذلك الشهداء أيضاً هم في الجنة لقول الله عز وجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " وهذا الرزق للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة وقد بين رسول الله ﷺ بالحديث الذي روي نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش وروينا هذا الحديث مبيناً من طريق ابن مسعود رضي الله عنه وأنهم الشهداء وبهذا تتألف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل كيف تخرج الأنبياء عليهم السلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة قيل له وبالله التوفيق لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة والخروج عنها قبل يوم القيامة فقد خلق الله عز وجل فيها آدم عليه السلام وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا والملائكة في الجنة ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا وكل ما جاء به نص قرآن أو سنة فلا ينكره إلا جاهل أو مغفل أو رديء الدين وأما الذي ينكر ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار فالمنع من هذا إجماع من جميع الأمة متيقن مقطوع به وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء أو تفضلاً من الله عز وجل فلا سبيل إلى خروجه منها أبداً بالنص وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ
قال أبو محمد: اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم فقالت الأزارقة من الخوارج أما أطفال المشركين ففي النار وذهبت طائفة إلى أنهم يوقد لهم يوم القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ومن لم يدخلها منهم أدخل النار وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول.
قال أبو محمد: فأما الأزارقة فاحتجوا بقول الله تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً أنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " ويقول روي عن رسول الله ﷺ أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قلت يا رسول الله أين أطفالي منك قال في الجنة قالت فأطفال من غيرك قال في النار فأعادت عليه فقال لها إن شئت أسمعتك تضاغيهم وبحديث آخر فيه الوائدة والموءودة في النار وقالوا إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنون لأنه لا يدخل الجنة الأنفس مسلمة فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجاً عن الإسلام والكفر وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه من المسلمين.
قال أبو محمد: هذا كلما احتجوا به ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلاً وكله لا حجة لهم فيه البتة أما قول نوح عليه السلام فلم يقل ذلك على كل كافر بل قال ذلك على كفار قومه خاصة لأن الله تعالى قال له " أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فأيقن نوح عليه السلام بهذا الوحي أنه لا يحدث فيهم مؤمن أبداً وإن كل من ولدوه إن ولدوه لم يكن إلا كافراً ولا بد وهذا هو نص الآية لأنه تعالى حكي أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " وإنما أراد كفار وقته الذين كانوا على الأرض حينئذ فقط ولو كان للأزارقة أدنى علم وفقه لعلموا أن هذا من كلام نوح عليه السلام ليس على كل كافر لكن على قوم نوح خاصة لأن إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم كانا أبواهما كافرين مشركين وقد ولدا خير الأنس والجن من المؤمنين وأكمل الناس إيماناً ولكن الأزارقة كانوا أعراباً جهالاً كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وهكذا صح عن النبي ﷺ من طريق الأسود بن سريع التميمي أنه عليه السلام قال أوليس خياركم أولاد المشركين.
قال أبو محمد: وهل كان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم الذين يتولاهم الأزارقة كابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وخديجة أم المؤمنين وغيرهم رضي الله عنهم إلا أولاد الكفار فهل ولد آباؤهم كفاراً وهل ولدوا إلا أهل الإيمان الصريح ثم آباء الأزارقة أنفسهم كوالدنا نافع ابن الأزرق وغيرهم من شيوخهم هل كانوا إلا أولاد المشركين ولكن من يضلل الله فلا هادي له وأما حديث خديجة رضي الله عنها فساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير وأما حديث الوائدة فإنه جاء كما نذكره حدثنا يوسف بن عبد البر أنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التميمي قال سمعت داود بن أبي هند يحدث عن عامر الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت أنا وأخي رسول الله ﷺ فقلنا له أن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتصل الرحم فهل ينفعها من عملها ذلك شيء قال لا قلنا فإن أمنا وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال رسول الله ﷺ الموءودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم.
قال أبو محمد: وهذه اللفظة يعني لم تبلغ الحنث ليست بلا شك من كلام رسول الله ﷺ ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه فلما أخبر عليه السلام بأن تلك الموءودة في النار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما أنها لم تبلغ الحنث وتصحيحها لأنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظنها لا يجوز إلا هذا القول لأن كلامه عليه السلام لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه عز وجل بل كلامه عليه السلام يصدق بعضه بعضاً ويوافق لما أخبر به عز وجل ومعاذ الله من غير ذلك وقد صح أخبار النبي ﷺ بأن أطفال المشركين في الجنة قال الله تعالى " وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ " فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة فكان هذا مبين لأن أخبار النبي ﷺ بأن تلك الموءودة في النار أخبار عن أنها قد كانت بغت الحنث بخلاف ظن أخويها وقد روي هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه لم تبلغ الحنث ورواه أيضاً داود بن أبي هند عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر فأما حديث عبيدة فحدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال أنا وهب بن ميسرة قال حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيدة ابن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد قال أتيت النبي ﷺ أنا وأخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا كانت تقرى الضيف وتصل الرحم في الجاهلية فهل ينفعها ذلك شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية فهل ينفع ذلك أختنا شيئاً قال لا الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الإسلام فيعفوا الله عنها وأما حديث ابن أبي عدي فحدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري حدثنا أبو بدر عبد بن أحمد الهروي الأنصاري حدثنا أبو محمد سعيد الخليل بن أحمد السجستاني حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود ابن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال انطلقت أنا وأخي إلى النبي ﷺ فقلنا يا رسول الله إن مليكة كانت تصل الرحم وتقرى الضيف وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لها في الجاهلية فهل قال أبو محمد: هكذا رويناه لها بالهاء على أنها أخت الوائدة.
قال أبو محمد: وهذا حديث قد رويناه مختصراً كما حدثاه عبد الله ابن ربيع التميمي حدثنا عمر ابن عبد الملك الخولاني حدثنا محمد ابن بكر الوراق البصري حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر الشعبي قال قال رسول الله ﷺ الوائدة والموءودة في النار قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال أبي فحدثني أبو إسحاق بن عامر حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي ﷺ.
قال أبو محمد: وهذا مختصر وهو على ما ذكرنا أنه عليه السلام إنما عنى بذلك التي بلغت لا يجوز غير هذا لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بقول رسول الله ﷺ هم من آبائهم فإنما قاله عليه السلام في الحكم لا في الدين ولله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وأيضاً فلا متعلق لهم بهذا اللفظ أصلاً لأنه إنما فيه أنهم من آبائهم وهذا لا شك فيه أنهم توالدوا من آبائهم ولم يقل عليه السلام أنهم على دين آبائهم وأما قولهم ينبغي أن تصلوا على أطفال المشركين وتورثوهم وترثوهم وأن لا تتركونهم يلتزموا دين آبائهم إذا بلغوا فإنها ردة فليس لهم أن يعترضوا على الله تعالى فليس تركنا الصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلى عليهم وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين فإن العبد مؤمن فاضل لا يرث ولا يورث وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات وكثير من الفقهاء يورثون الكافر مال العبد من عبيده يسلم ثم يموت قبل أن يباع عليه وكثير من الفقهاء يورثون المسلمين مال المرتد إذ مات كافراً مرتداً وقتل على الردة وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسروق بن الأجدع وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا ولله تعالى أن يفرق بين أحكام من شاء من عباده وإنما نقف حيث أوقفنا النص ولا مزيد وكذلك دفنهم في مقابر آبائهم أيضاً وكذلك تركهم يخرجون إلى أديان آبائهم إذا بلغوا فإن الله تعالى أوجب علينا أن نتركهم وذلك ولا نعترض على أحكام الله عز وجل ولا يسأل عما يفعل وقد قال رسول الله ﷺ كل مولود على الملة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه.
قال أبو محمد فبطل أن يكون لهم في شيء مما ذكرنا متعلق وإنما هو تشغيب موهوا به لأن كا ما ذكرنا فإنما هي أحكام مجردة فقط وليس في شيء من هذه الاستدلالات نص على أن أطفال المشركين كفار ولا على أنهم غير كفار وهذه النكتتان هما اللتان قصدنا بالكلام فقط وبالله تعالى التوفيق وأما من قال فيهم بالوقف فإنهم احتجوا بقول رسول الله ﷺ إذ سئل عن الأطفال يموتون فقال عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وبقوله ﷺ لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ مات صبي من أبناء الأنصار فقالت عصفور من عصافير الجنة فقال لها عليه السلام وما يدريك يا عائشة أن الله خلق خلقاً للنار وهم في أصلاب آبائهم.
قال أبو محمد وهذان الخبران لا حجة لهم في شيء منهما إلا أنهما إنما قال هما رسول الله ﷺ قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة وقد قال تعالى آمراً لرسوله ﷺ أن يقول " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخير وكما قال رسول الله ﷺ عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدر أو هو عليه السلام لا يقول إلا ما جاء به الوحي كما أمر الله عز وجل أن يقول " أن اتبع إلا ما يوحى إلي " فحكم كل شيء من الدين لم يأت به الوحي أن يتوقف فيه المرء فإذا جاء للبيان فلا يحل التوقف عن القول بما جاء به النص وقد صح الإجماع على أن ما علمت الأطفال قبل بلوغهم من قتل أو وطئ أجنبية أو شرب خمر أو قذف أو تعطيل صلاة أو صوم فإنهم غير مؤاخذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخذ الله عز وجل أحداً بما لم يفعله بل قد صح عن رسول الله ﷺ أن من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فمن المحال المنفي أن يكون الله عز وجل يؤاخذ الأطفال بما لم يعملوا مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بما عملوا ولا يختلف اثنان في أن إنساناً بالغاً مات مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بالزنا الذي لم يعمله وقد أكذب الله عز وجل من ظن هذا بقوله الصادق " الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " وبقوله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فصح أنه لا يجزي أحد بما لم يعمل ولا مما لم يسن فصح أن قول رسول الله ﷺ الله أعلم بما كانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد وفي هذا اختلفنا لا فيما عداه وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو كان كيف كان يكون فقط ونعم هذا حق لا يشك فيه مسلم فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة في شيء من هذين الخبرين إذ لم يصح عن رسول الله ﷺ في هذه المسألة بيان وأما من قال أنهم يعذبون بعذاب آبائهم فباطل لأن الله تعالى يقول " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " وأما من قال أنهم توقد لهم نار فباطل لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين وفيمن لا يبلغه ذكر الإسلام من البالغين على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد فلما بطلت هذه الأقاويل كلها وجب النظر فيما صح من النصوص من حكم هذه المسألة ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " وقال عز وجل " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " إلى قوله " لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " إلى قوله " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " فنص عز وجل على أن فطر الناس على الإيمان وأن الإيمان هو صبغة الله تعالى وقال عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " فصح يقيناً أن كل نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم عقلاً مميزون فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم حاشا من بدل هذا العهد وهذه الفطرة وهذه الصبغة وخرج عنها إلى غيرها ومات على التبديل وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيروا شيئاً من ذلك فهم من أهل الجنة وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وروي عنه عليه السلام أنه قال على الملة فأباه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاً وهل يجدون فهيا من جدعاء حتى تكونوا أنتم الذي تجدعونها وهذا تفسير الآيات المذكورات حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق السكن حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحجاج بن المنهال قال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ الله العهد عليهم في أصلاب آبائهم حيث قال " ألست بربكم قالوا بلى " وقد صح أيضاً عن رسول الله ﷺ من طريق عياض بن حمار المجاشعي قال عن الله تعالى أنه قال خلقت عبادي حفناء كلهم فاجتالهم الشياطين عن دينهم فصح يقيناً أنه كل من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفاً وهذا حديث تدخل فيه الملائكة والجن والإنس عباد له عز وجل مخلوقين وأيضاً فإن الله عز وجل أخبر بقول إبليس له تعالى أن يغوي الناس فقال تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " فصح يقيناً أن الغواية داخلة على الإيمان وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان وكل مؤمن ففي الجنة وأيضاً فإن الله تعالى قال " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وليست هذه صفة الصبيان فصح أنهم لا يدخلون النار ولا دار إلا الجنة أو النار فإذا لم يدخلوا النار فهم بلا شك في الجنة وقد صح عن رسول الله ﷺ في الرؤيا الكبيرة التي رآها أنه رأى إبراهيم عليه السلام في روضة خضراً مفتخر وفيها من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وأكثرهم فسأل عليه السلام عنهم فأخبر أنهم من مات من أولاد الناس قبل أن يبلغوا فقيل له يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين فارتفع الإشكال وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة ولا يحل لأحد تعدى ما صح بالقرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم أن النار دار جزاء فالجنة كذلك ولا جزاء للصبيان قلنا وبالله تعالى التوفيق إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة قد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط وأن الجنة دار جزاء وتفضل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم ولمن لا عمل له دار تفضل من الله تعالى مجرد وقد قال قوم أن الصبان هم خدم أهل الجنة وقد ذكر الله تعالى الوالدان المخلدين في غير موضع من كتابه وأنهم خدم أهل الجنة فلعلهم هؤلاء والله أعلم.
قال أبو محمد: وأما المجانين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حفناء مؤمنين ولم يغيروا ولا بدلوا فماتوا مؤمنين فهم في الجنة حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي بالثغري قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن المفرج القاضي حدثنا محمد بن أيوب السموط البرقي أنبأنا محمد بن عمر بن عبد الخالق البزاز حدثنا محمد بن المثني أبو موسى الزمن حدثنا معاذ بن هشام الدستواني حدثنا أبي عن قتادة عن الأسود بن سريع التميمي عن النبي ﷺ قال يعرض على الله الأصم الذي لا يسمع شيئاً والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً ويقول الأحمق جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ويقول الذي مات في الفترة ما أتانا لك من رسول قال البزاز وذهب عني ما قال الرابع قال فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله إليهم ادخلوا النار فوا الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلام.
الكلام في القيامة وتغيير الأجساد
اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيمة وعلى تكثير من أنكر ذلك ومعنى هذا القول أن لمكث الناس وتناسلهم في دار الابتلا التي هي الدنيا أمداً يعلمه الله تعالى فإذا انتهى ذلك الأمد مات كل من في الأرض ثم يحيى الله عز وجل كل من مات مذ خلق الله عز وجل الحيوان إلى انقضاء الأمد المذكور ورد أرواحهم التي كانت بأعيانها وجمعهم في موقف واحد وحاسبهم عن جميع أعمالهم ووفاهم جزاؤهم ففريق من الجن والإنس في الجنة وفريق في السعير وبهذا جاء القرآن والسنن قال تعالى " من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وقال تعالى " وإن الله يبعث من في القبور " وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " إلى آخر الآية وقال تعالى " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " وقال تعالى فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبث مائة عام " إلى قوله " وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً " الآية وقال تعالى عن المسيح عليه السلام " وأحيي الموتى بإذن الله " ولا يمكن البتة أن يكون الإحيا المذكور في جميع هذه الآيات إلا رد الروح إلى الجسد ورجوع الحس والحركة الإرادية التي بعد عدمها منه لم يكن غير هذا البتة إلا أن أبا العاص حكم بن المنذر بن سعيد القاضي أخبرني عن إسماعيل بن عبد الله الرعيني أنه كان ينكر بعث الأجساد ويقول أن النفس حال فراقها الجسد تصير إلى معادها في الجنة أو النار ووقفت على هذا القول بعض العارفين بإسماعيل فذكر لي ثقاة منهم أنهم سمعوه يقول أن الله تعالى يأخذ من الأجساد جزء الحياة منها.
قال أبو محمد: وهذا تلبيس من القول لم يخرج به عن ما حكي لي عنه حكم بن المنذر لأنه ليس في الأجساد جزء الحياة إلا النفس وحدها.
قال أبو محمد: ولم ألق إسماعيل الرعيني قط على أني قد أدركته وكان ساكناً معي في مدينة من مداين الأندلس تسمى نجاية مدة ولكنه كان مختفياً وكان له اجتهاد عظيم ونسك وعبادة وصلاة وصيام والله أعلم وحكم بن المنذر ثقة في قوله بعيد من الكذب وتبرأ منه حكم بن المنذر وكان قبل ذلك يجمعهما مذهب بن مسرة في القدر وتبرأ منه أيضاً إبراهيم بن سهل الأريواني وكان من روس المرية وتبرأ منه أيضاً صهره أحمد الطبيب وجماعة من المرية وتولته جماعة منهم وبلغني عنه أنه كان يحتج لقوله هذا بقول رسول الله ﷺ إذا وقف على ميت فقال أما هذا فقد قامت قيامته وبأنه عليه السلام كانت الأعراب تسأله عن الساعة فينظر إلى أصغرهم فيخبرهم أنه استوفى عن يمت حتى تقوم قيامتهم أو ساعتهم.
قال أبو محمد: وإنما عني رسول الله ﷺ بهذا قيام الموت فقط بعد ذلك إلى يوم البعث كما قال عز وجل " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " فنص تعالى على أن البعث يوم القيامة بعد الموت بلفظة ثم التي هي للمهلة وهكذا أخبر عز وجل عن قولهم يوم القيامة " قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ " وأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة وأنه يحيي العظام ويبعث من في القبور في مواضع كثيرة من القرآن وبرهان ضروري وهو أن الجنة والنار موضعان ومكانان وكل موضع ومكان ومساحة متناهية بحدوده بالبرهان الذي قدمنا على وجوب تناهي الإجسام وتناهى كل ما له عدد وبقول الله تعالى " جنة عرضها السماوات والأرض " فلو لم يكن لتولد الخلق نهاية لكانوا أبداً يحدثون بلا آخر وقد علمنا أن مصيرهم الجنة أو النار ومحال ممتنع غير ممكن أن يسع ما لا نهاية له فيما له نهاية من الأماكن فوجب ضرورة أن للخلق نهاية فإذ ذلك واجب فقد وجب تناهى عالم الذر والتناسل ضرورة وإنما كلامنا هذا مع من يؤمن بالقرآن وبنبوة محمد ﷺ وادعى الإسلام وأما من أنكر الإسلام فكلامنا معه على ما رتبناه في ديواننا هذا من النقض على أهل الإلحاد حتى تثبت نبوة محمد ﷺ وصحة ما جاء به فنرجع إليه بعد التنازع وبالله تعالى التوفيق وقد نص الله تعالى على أن العظام يعيدها ويحييها كما كانت أول مرة وأما اللحم فإنما هو كسوة كما قال " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " إلى قوله " فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " فأخبر عز جل أن عنصر الإنسان إنما هو العظام الذي انتقلت عن السلالة التي من طين إلى النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام وأن اللحم كسوة العظام وهذا أمر مشاهد لأن اللحم يذهب بالمرض حتى لا يبقى منه ما لا قدر له ثم يكثر عليه لحم آخر إذا خصب الجسم وكذلك أخبرنا عز وجل أنه يبدل الخلق في الآخرة فقال " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " وفي الآثار الثابتة أن جلود الكفار تغلظ حتى تكون نيفاً وسبعين ذراعاً وأن ضرسه في النار كأحد وكذلك نجد اللحم الذي في جسد الإنسان يتغذى به حيوان آخر فيستحيل لحماً لذلك الحيوان إذ ينقلب دوداً فصح بنص القرآن العظام هي التي تحيى يوم القيامة ومن أنكر ما جاء به القرآن فلا حظ له في الإسلام
الكلام في خلق الجنة والنار
ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد وذهب جمهور المسلمين إلى أنهما قد خلقتا وما نعلم لمن قال أنهما لم يخلقا بعد حجة أصلاً أكثر من أن بعضهم قال قد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر من عملها غرس له في الجنة كذا وكذا شجرة وبقول الله تعالى حاكياً عن امرأة فرعون أنها قالت " رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة " قالوا ولو كانت مخلوقة لم يكن في الدعاء في استئناف البناء والغرس معنى.
قال أبو محمد: وإنما قلنا أنهما مخلوقتان على الجملة كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى فيها ما يشاء من البنيان.
قال أبو محمد: والبرهان على أنهما مخلوقتان بعد أخبار النبي ﷺ أنه رأى الجنة ليلة الإسراء وأخبر عليه السلام أنه رأى سدرة المنتهى في السماء السادسة وقال تعالى " عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى " فصح أن جنة المأوى هي السماء السادسة وقد أخبر الله عز وجل أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة فقال تعالى " لهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون " فليس لأحد بعد هذا أن يقول أنها جنة غير جنة الخلد وأخبر عليه السالم أنه رأي الأنبياء عليهم السلام في السماوات سماء سماء ولا شك في أن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الجنة فصح أن الجنات هي السماوات وكذلك أخبر عليه السلام أن الفردوس الأعلى من الجنة التي أمرنا الله تعالى أن نسأله إياها فوقها عرش الرحمن والعرش مخلوق بعد الجنة فالجنة مخلوقة وكذلك أخبر عليه السلام أن النار اشتكت إلى رباه فأذن لها بنفسين وأن ذلك أشد ما نجده من الحر والبرد وكان القاضي منذر بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول أنها ليست التي كان في آدم عليه السلام وامرأته واحتج في ذلك بأشياء منها أنه لو كانت جنة الخلد لما أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين واحتج أيضاً بأن جنة الخلد لا كذب فيها وقد كذب فيها إبليس وقال من دخل الجنة لم يخرج منها وآدم وامرأته عليهما السلام قد خرجا منها.
قال أبو محمد: كل هذا لا دليل له فيه أما قوله أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين فقد علمنا أن أكله من الشجرة لم يكن ظنه في صواباً ولا أكله لها صواباً وإنما كان ظناً ولا حجة فيما كان هذه صفته والله عز وجل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة بل قد كان في علم الله تعالى أنه سيخرجه منها فأكل عليه السلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن له ولا تيقن به لنفسه وأما قوله أن الجنة لا كذب فيها وأن من دخلها لم يخرج منها وقد كذب فيها إبليس وقد خرج منها آدم وامرأته فهذا لا حجة له فيه وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عز وجل عنها حيث يقول " لا تسمع فيها لاغية " فإنما هذا على المستأنف لا على ما سلف ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع واحتج أيضاً بقول الله عز وجل لآدم عليه السلام " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " قال وقد عرى فيها آدم عليه السلام.
قال أبو محمد: وهذا لا يحجة فيه بل هو حجة عليه لأن الله عز وجل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى وهذه صفة الجنة بلا شك وليس في شيء مما دون السماء مكان هذه صفته بلا شك بل كل موضع دون السماء فإنه لا بد أن يجاع فيه ويعرى ويظمأ ويضحى ولا بد من ذلك ضرورة فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته وليس هذا غير الجنة البتة وإنما عرى آدم حين أكل من الشجرة فأهبط عقوبة له وقال أيضاً قال الله عز وجل " لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً " وأخبر آدم أنه لا يضحى.
قال أبو محمد: وهذا أعظم حجة عليه لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لأضحى فيه ولا بد فصح أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها فهي جنة الخلد بلا شك وأيضاً فإن قوله عز وجل " اسكن أنت وزوجك الجنة " إشارة إلى بالألف واللام ولا يكون ذلك إلى على معهود ولا تنطلق الجنة هكذا إلا على جنة الخلد ولا ينطلق هذا الاسم على غيرها إلا بالإضافة وأيضاً فلو أسكن آدم عليه السلام جنة في الأرض لم كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض عقوبة بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى " وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " فصح يقيناً بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض فصح أنها لم تكن في الأرض البتة وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في بقاء أهل الجنة والنار أبداً
قال أبو محمد: اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ولا للنار ولا لعذابها الأجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوماً من الروافض فأما جهم فقال أن الجنة وانلار يفنيان ويفنى أهلهما وقال أبو الهذيل أن الجنة والنار لا يفنيان ولا يفنى أهلهما إلا أن حركاتهم تفنى ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون وقالت تلك الطائفة من الروافض أن أهل الجنة يخرجون من الجنة وكذلك أهل النار إلى حيث شاء الله.
قال أبو محمد: أما هذه المقالة ففي غاية الغثاثة والتعري من شيء يشغب به فكيف من إقناع أو برهان وما كان هكذا فهو ساقط وأما قول أبي الهذيل فإنه لا حجة له إلا أنه قال كلما قال أبو محمد: فظن أبو الهذيل لجهله بحدود الكلام وطبايع الموجودات أن ما لم يخرج إلى الفعل فإنه يقع عليه العدد وهذا خطأ فاحش لأن ما لم يخرج إلى الفعل فليس شيئاً ولا يجوز أن يقع العدد إلا على شيء وإنما يقع العدد على ما خرج إلى الفعل من حركات أهل النار والجنة متى ما خرج فهو محدود متناه وهكذا أبداً وقد أحكمنا هذا المعنى في أول هذا الكتاب في باب إيجاب حدوث العالم وتناهي الموجودات فأغنى عن إعادته وبالله تعالى التوفيق فبطل ما موه به أبو الهذيل ولله الحمد ثم نقول أن قوله هذا خلاف للإجماع المتيقن وأيضاً فإن الذي فر منه في الحركات فإنه لازم له في مدد سكونهم وتنعمهم وتألمهم لأنه مقر بأنهم يبقون ساكنين متنعمين متألمين بالعذاب وبالضرورة ندري أن للسكون والنعيم والعذاب مدداً يعد كل ذلك كما تعد الحركة ومددها ولا فرق أيضاً فلو كان ما قاله أبو الهذيل صحيحاً لكان أهل الجنة في عذاب واصب وفي صفة المخدور والمفلوج ومن أخذه الكابوس ومن سقى البنج وهذا غاية النكد والشقاء ونعوذ بالله من هذا الحال وأما جهم بن صفوان فإنه احتج بقول الله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " وبقوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " وقال كما لا يجوز أن يوجد شيء لم يزل غير الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يوجد شيء لا يزال غير الله تعالى.
قال أبو محمد: ما نعلم له حجة غير هذا أصلاً وكل هذا لا حجة له فيه أما قوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " فإنما عنى تعالى الاستحالة من شيء إلى شيء ومن حال إلى حال وهذا عام لجميع المخلوقات دون الله تعالى وكذلك مدد النعيم في الجنة والعذاب في النار كلما فنيت مدة أحدث الله عز وجل أخرى وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر يدل على هذا ما نذكره بعد أن شاء الله تعالى من الدلائل على خلود الجنة والنار وأهلها وأما قوله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " فإن اسم الشيء لا يقع إلا على موجود والإحصاء لا يقع على ما ذكرنا إلا على ما خرج إلى الفعل ووجد بعد وإذا لم يخرج من الفعل فهو لا شيء بعد ولا يجوز أن يعد لا شيء وكل ما خرج إلى الفعل من مدة بقاء الجنة والنار وأهلهما فمحصي بلا شك ثم يحدث الله تعالى لهم مدداً آخر وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر وقالوا هل أحاط الله تعالى علماً بجميع مدة الجنة والنار أم لا فإن قلتم لا جهلتم الله وإن قلتم نعم جعلتم مدتها محاطاً بها وهذا هو التناهي نفسه.
قال أبو محمد: إن الله تعالى إنما يعلم بالأشياء على ما هي عليه لأن من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فهو جاهل به مخطئ في اعتقاده ظان للباطل وليس علماً ولا حقاً ولا هو عالم به وهذا ما لا شك فيه وعلم الله عز وجل هو الحق اليقين على ما هي معلوماته عليه فكل ما كان ذا نهاية فهو في علم الله تعالى ذو نهاية ولا سبيل إلى غير هذا البتة وليس للجنة والنار مدد غير متناهية محاط بها وإنما لهما مدد كل ما خرج منها إلى الفعل فهو محصي محاط بعدده وما لم يخرج إلى الفعل فليس بمحصي لكن علم الله تعالى أحاط أنه لا نهاية لهما وأما قوله كما لا يجوز أن يوجد شيء غير الله تعالى لا نهاية له لم يزل فإن هذه قضية فاسدة وقياس فاسد لا يصح والفرق محال في الوجود كما ذكرنا في الرد على من قال بأن العالم لم يزل فأغنى عن إعادته وليس كذلك قولنا لا يزال لأن إحداث الله تعالى شيئاً بعد شيء أبداً بلا غاية متوهم ممكن لا حوالة فيه فقياس الممكن المتوهم على الممتنع المستحيل الذي لا يتوهم باطل عند القائلين بالقياس فكيف عند من لا يقول به فإن قال قائل أن كل ما ماله أول فله آخر قلنا له هذه قضية فاسدة ودعوى مجزدة وما وجب هذا قط لا بقضية عقل ولا بخبر لأن كون الموجودات لها أوائل معلوم بالضرورة لأن ما وجد بعد فقد حصره عدد زمان وجوده وكل ما حصره عدد فلذلك العدد أول ضرورة وهو قولنا واحد ثم يتمادى العدد أبداً فيمكن الزيادة بلا نهاية وتمادي الموجود بخلاف المبدأ لأنه إذا أبقى وقتاً جاز أن يبقى وقتين وهكذا أبداً بلا نهاية وكل ما خرج من مدد البقاء إلى حد الفعل فذو نهاية با شك كذلك من العدد أيضاً ولم نقل أن بقاء الناس في هذه الدنيا له نهاية إلا من النص ولو أخبر الله تعالى بذلك لأمكن وجاز أن تبقى الدنيا أبداً بلا نهاية ولكان الله تعالى قادراً على ذلك ولكن النص لا يحل خلافه وكذلك لولا قال أبو محمد: والبرهان على بقاء الجنة والنار بلا نهاية قول الله تعالى " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " وقوله تعالى في غير موضع من القرآن " خالدين فيها أبدًا " وقوله تعالى " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " مع صحة الإجماع بذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص لو أقام أهل النار في النار ما شاء الله أن يبقوا لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيها منها.
قال أبو محمد: وهذا إنما هو في أهل الإسلام الداخلين في النار بكبائرهم ثم يخرجون منها بالشفاعة ويبقى ذلك المكان خالياً ولا يحل لأحد أن يظن في الصالحين الفاضلين خلاف القرآن وحاشا لهما من ذلك وبالله تعالى التوفيق تم كتاب الإيمان والوعيد وتوابعه بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم === لا إله إلى الله عدة للقائه الكلام في الإمامة والمفاضلة ===
قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله ﷺ حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة.
قال أبو محمد: وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه والقرآن والسنة قد ورد بإيجاب الإمام من ذلك قول الله تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم إما لأنها ترد في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافاً مجرداً عليهم وهذا الذي لا بد منه ضرورة وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعداً بينهما أو بينهم ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا الإسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ولا يجوز إلا إمام واحد إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد واحتج هؤلاء بقول الأنصار أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير واحتجوا أيضاً بأمر علي والحسن مع معاوية رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضي الله عنهم ما ذكرنا لم يكن صواباً بل كان خطأ إذا أداهم إليه الاجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون ولا بد إذا اختلف القائلان على قولين متنافين من أن يكون أحدهما حقاً والآخر خطأ وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله ﷺ قد قال إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما وقال تعالى " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " وقال تعالى " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا وأما من طريق النظر والمصلحة فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة وأكثر فإن منع من ذلك مانع كان متحكماً بلا برهان ومدعياً بلا دليل وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في كل عالم إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية إمام أو يكون كل أحد إماماً وخليفة في منزله وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا فصح أن قول الأنصار رضي الله عنهم وهلة وخطأ رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادي عليه وأما أمر علي والحسن ومعاوية فقد صح عن النبي ﷺ أنه أنذر بخارحة تخرج من طائفتين من أمة يقتلها أولي الطائفتين بالحق فكان قاتل تلك الطائفة علي رضي الله عنه فهو صاحب الحق بلا شك وكذلك أنذر عليه السلام بأن عماراً تقتله الفئة الباغية فصح أن علياً هو صاحب الحق وكان علي السابق إلى الإمامة فصح بعد أنه صاحبها وأن من نازعه فيها فمخطئ فمعاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد ولا حجة في خطأ المخطئ فبطل قول هذه الطائفة وأيضاً فإن قول الأنصار رضي الله عنهم منا أمير يخرج على أنهم إنما أرادوا أن يلي وال منهم فإذا مات ولي من المهاجرين آخر وهكذا أبداً لا على أن يكون إمامان في وقت وهذا هو الأظهر من كلامهم وأما علي ومعاوية رضي الله عنهما فما سلم قط أحدهما للآخر بل كل واحد منهما يزعم أنه المحق وكذلك كان الحسن رضي الله عنه إلى أن أسلم الأمر إلى معاوية فإذ هذا كذلك فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبي الصباح وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على قريش فذهب أهل السنة وجميع الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان من ولد فهر بن مالك وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك وإن كانت أمه من قريش ولا في حليف ولا في مولى وذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جايزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشياً كان أو عربياً أو ابن عبد وقال ضرار بن عمرو الغطفاني إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة فالواجب أن يقدم الحبشي لأنه قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك خاصة نقول بنص رسول الله ﷺ على أن الأئمة من قريش وعلى أن الإمامة في قريش وهذه رواية جاءت مجيء التواتر ورواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية وروي جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار رضي الله عنهم يوم السقيفة وهم أهل الدار والمنعة والعدة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله ﷺ على أن الحق لغيرهم في ذلك فإن قال قائل أن قول رسول الله ﷺ الأئمة من قريش يدخل في ذلك الحليف والمولى وابن الأخت لقول رسول الله ﷺ مولي القوم منهم ومن أنفسهم وابن أخت القوم منهم فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الإجماع قد تيقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء جوزها في هؤلاء ومن منعها من غير قريش منعها من الحليف والمولى وابن الأخت فإذا صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا فيمن ليس قرشياً صح بالإجماع أن حليف قريش ومولاهم وابن أختهم كحكم من ليس قرشياً وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقال قوم أن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه العالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد ما قلنا نعم لا يقع على هؤلاء إلا بالإضافة لا بالإطلاق في قال فلان إمام في الدين وإمام بني فلان فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأمة إلا على المتولي لأمور أهل الإسلام فإن قال قائل بأن اسم الإمارة واقع بلا خلاف على من ولي جهة من جهات المسلمين وقد سمي بالأمارة كل من ولاه رسول الله ﷺ جهة من الجهات أو سرية أو جيشاً وهؤلاء مؤمنون فما المانع من أن يوقع على كل واحد اسم أمير المؤمنين فجوابنا وبالله التوفيق أن الكذب محرم بلا خلاف وكل ما ذكرنا فإنما هو أمير لبعض المؤمنين لا لكلهم فلو سمي أمير المؤمنين لكان مسميه بذلك كاذباً لأن هذه اللفظة تقتضي عموم جميع المؤمنين وهو ليس كذلك وإنما هو أمير بعض المؤمنين فصح أنه ليس يجوز البتة أن يوقع اسم الإمامة مطلقاً ولا اسم أمير المؤمنين إلا على القرشي المتولي لجميع أمور المؤمنين كلهم أو الواجب له ذلك وإن عصاه كثير من المؤمنين وخرجوا عن الواجب عليهم من طاعته والمفترض عليهم من بيعته فكانوا بذلك فئة باغية حلالاً قتالهم وحربهم وكذلك اسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضاً إلا لمن هذه صفته وبالله التوفيق واختلف القائلون بأن الإمامة لا تجوز إلا في صلبة قريش فقالت طائفة هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلى في ولد العباس بن عبد المطلب وهو قول الراوندية وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد علي ابن أبي طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والحارث والعباس وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس وكان له في ذلك تأليف مجموع وروينا كتاباً مؤلفاً لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال أبو محمد: فأما هذه الفرق الأربع فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة لا وجه لها وإنما الكلام مع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد علي فقط لكثرة عددهم.
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى أن الخلافة لا تجوز إلى في ولد العباس فقط على أن الخلفاء من ولده وكل من له حظ من علم من غير الخلفاء منهم لا يرضون بهذا ولا يقولون به لكن تلك الطائفة قالت كان العباس عصب رسول الله ﷺ ووارثه فإذا كان ذلك قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء لأن ميراث العباس رضي الله عنه لو وجب له لكان ذلك في المال خاصة وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات أنها تورث فبطل هذا التمويه جملة ولله الحمد ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولاه رسول الله ﷺ مكاناً ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه وهذا ما لا يقولونه فكيف وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة حاشا الروافض أن رسول الله ﷺ قال لا نورث ما تركناه صدقة فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل " وورث سليمان داود " وبقوله تعالى حاكياً عن زكريا عليه السلام أنه قال " فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة فيه لأن الرواة حملة الأخبار وجميع التواريخ القديمة كلها وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلاً يوجب العلم أن داود عليه السلام كان له بنون غير سليمان عليه السلام فصح أنه ورث النبوة وبرهان ذلك أنهم كلهم مجمعون على أنه عليه السلام ولي مكان أبيه عليهما السلام وليس له إلا اثنتي عشرة سنة ولداود أربعة وعشرون ابناً كباراً وصغاراً وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا عليهما السلام وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قوله عليه السلام " يرثني ويرث من آل يعقوب " وهم مئوا ألوف يرث عنه النبوة فقط وأيضاً فمن المحال أن يرغب زكريا عليه السلام في ولد يحجب عصبته عن ميراث فإنما يرغب في هذه الخطة ذو الحرص على الدنيا وحطامها وقد نزه الله عز وجل مريم عليها السلام التي كانت في كفالته من المعجزات قال تعالى " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " إلى قوله " إنك سميع الدعاء " وعلى هذا المعنى دعا فقال " هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً " وأما من اغتر بقوله تعالى حاكياً عنه عليه السلام أنه قال " وإني خفت الموالي من ورائي " قيل له بطلان هذا الظن أن الله تعالى لم يعطه ولداً يكون له عقب فيتصل الميراث لهم بل أعطاه ولداً محصوراً لا يقرب النساء قال تعالى " وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين " فصح ضرورة أنه عليه السلام إنما طلب ولداً نبياً لا ولداً يرث المال وأيضاً فلم يكن العباس محيطاً بميراث النبي ﷺ وإنما كان يكون له ثلاثة أثمانه فقط وأما ميراث المكانة فقد كان العباس رضي الله عنه حياً قائماً إذ مات النبي ﷺ فما ادعي العباس لنفسه قط في ذلك حقاً لا حينئذ ولا بعد ذلك وجاءت الشورى فما ذكر فيها ولا أنكر هو ولا غيره ترك ذكره فيها فصح أنه رأى محدث فاسد لا وجه للاشتغال به والخلفاء من ولده والأفاضل منهم من غير الخلفاء لا يرون لأنفسهم بهذه الدعوى ترفعاً عن سقوطها ووهيها وبالله تعالى التوفيق " وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي بن أبي طالب أنه الخليفة بعده وأن الصحابة بعده عليه السلام اتفقوا على ظلمه وعلى كتمان نص النبي ﷺ وهؤلاء المسمون الروافض وطائفة قالت لم ينص النبي ﷺ على علي لكنه كان أفصل الناس بعد رسول الله ﷺ وأحقهم بالأمر وهؤلاء هم الزيدية نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثم اختلفت الزيدية فرقاً فقالت طائفة أن الصحابة ظلموه وكفروا من خالفه من الصحابة وهم الجارودية وقالت أخرى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يظلموه لكنه طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنهما إماما هدى ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم وذكرت طائفة أن هذا كان مذهب الفقيه الحسن بن صالح بن حي الهمداني.
قال أبو محمد: وهذا خطأ وقد رأيت لهشام بن الحكم الرافضي الكوفي في كتابه المعروف بالميزان وقد ذكر الحسن بن حي وأن مذهبه كان أن الإمامة في جميع ولد فهر بن مالك.
قال أبو محمد: وهذا الذي لا يليق بالحسن بن حي غيره فإنه كان أحد أئمة الدين وهشام ابن الحكم أعلم به ممن نسب إليه غير ذلك لأن هشاماً كان جاره بالكوفة وأعرف الناس به وأدركه وشاهده والحسن بن حي رحمه الله يحتج بمعاوية رضي الله عنه وبابن الزبير رضي الله عنهما وهذا مشهور عنه في كتبه ورواياته من روي عنه وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع ولد علي بن أبي طالب من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وجب سل السيف معه وقالت الروافض الإمامة في علي وحده بالنص عليه ثم في الحسن ثم في الحسين وادعوا نصاً آخر من النبي ﷺ عليهما بعد أبيهما ثم علي بن الحسين لقول الله عز وجل " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " قالوا فولد الحسين أحق من أخيه ثم محمد بن علي بن الحسين ثم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين وهذا مذهب جميع متكلميهم كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وداود المواري وداود الرقي وعلي بن منصور وعلي بن هيثم وأبي علي السكاك تلميذ هشام بن الحكم ومحمد بن جعفر بن النعمان شيطان الطاق وأبي ملك الحضرمي وغيرهم ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر وهم قليل وقالت طائفة جعفر حي لم يمت وقال جمهور الرافضة بإمامة ابنه موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي بن موسى ثم علي بن محمد بن علي بن موسى ثم الحسن بن علي ثم مات الحسن عن غير عقب فافترقوا فرقاً وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن بن علي ولد فأخفاه وقيل بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل وهو الأشهر وقال بعضهم بل من جارية اسمها نرجس وقال بعضهم بل من جارية له اسمها سوسن والأظهر أن اسمها صقيل لأن صقيل هذه ادعت الحمل بعد الحسن بن علي سيدها فوقف ميراثه لذلك سبع سنين ونازعها في ذلك أخوه جعفر بن علي وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة وتعصب لجعفر آخرون ثم انفش ذلك الحمل وبطل وأخذ الميراث جعفر أخوه وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين وزادت فتنة الروافض بصقيل هذه ودعواها إلى أن حبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها وقد عير بها أنها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب فوجدت فيه وحملت إلى قصر المعتضد فبقيت هنالك إلى أن ماتت في القصر في أيام المقتدر فهم إلى اليوم ينتظرون ضالة منذ مائة عام وثمانين عاماً وكانت طائفة قديمة قد بادت كان رئيسهم المختار بن أبي عبيد وكيسان أبا عمرة وغيرهما يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين محمد أخوه المعروف بابن الحنيفة ومن هذه الطائفة كان السيد الحميري وكثير عزة الشاعران وكانوا يقولون أن محمد ابن الحنيفة حي بجبل رضوي ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف.
قال أبو محمد: وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء.
قال أبو محمد: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونا ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه لأن من صدق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري فيصير الخصم يومئذ مكابراً منقطعاً أن ثبت على ما كان عليه إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها منها قول رسول الله ﷺ لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
قال أبو محمد: وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه السلام لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولي الأمر بعد رسول الله ﷺ صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً ولا كان خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل فقد صح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله ﷺ بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط وأيضاً فإنما قال له رسول الله ﷺ هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون استقله فخلفه فلحق علي برسول الله ﷺ فشكى ذلك إليه فقال له رسول الله ﷺ حينئذ أنت مني بمنزلة هارون من موسى يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختاراً استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام هارون عليه السلام أيضاً مختاراً لاستخلافه ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالاً سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلاً على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين.
قال أبو محمد: وعمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا لا بد من أن يكون إمام معصوم عنده جميع الشريعة ترجع الناس إليه في أحكام الدين ليكونوا مما تعبدوا به على يقين.
قال أبو محمد: هذا لا شك فيه وذلك معروف ببراهينه الواضحة واعلامه المعجزة وآياته الباهرة وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله ﷺ إلينا تبيان دينه الذي ألزمنا إياه ﷺ فكان كلامه وعهوده وما بلغ من كلام الله تعالى حجة نافذة معصومة من كل آفة إلى من بحضرته وإلى من كان في حياته غائباً عن حضرته وإلى كل من يأتي بعد موته ﷺ إلى يوم القيامة من جن وإنس قال عز وجل " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " فهذا نص ما قلنا وإبطال اتباع أحد دون رسول الله ﷺ وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لتنفيذ الإمام عهود الله تعالى الواردة إلينا على من عند فقط لا لأن يأتي الناس ما لا يشاؤنه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله ﷺ ووجدنا علي رضي الله عنه إذ دعي إلى التحاكم إلى القرآن أجاب وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق فإن كان علي أصاب في ذلك فهو قولنا وإن كان أجاب إلى الباطل فهذه غير صفته رضي الله عنه ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإمام ل قال علي حينئذ كيف تطلبون تحكيم القرآن وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله ﷺ فإن قالوا إذ مات رسول الله ﷺ فلا بد من إمام يبلغ الدين قلنا هذا باطل ودعوى بلا برهان وقول لا دليل على صحته وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله ﷺ بيانه وتبليغه فقط سواء في ذلك من كان بحضرته ومن غاب عنه ومن جاء بعده إذ ليس في شخصه ﷺ إذا لم يتكلم بيان عن شيء من الدين فالمراد منه عليه السلام كلام باق أبداً مبلغ إلى كل من في الأرض وأيضاً فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبداً لا ننقض ذلك عليهم بمن كان غائباً عن حضرة الإمام في أقطار الأرض إذ لا سبيل إلى أن يشاهد الإمام جميع أهل الأرض الذين في المشرق والمغرب من فقير وضعيف وامرأة ومريض ومشغول بمعاشه الذي يضيع إن أغفله فلا بد من التبليغ عن الإمام فالتبليغ عن رسول الله ﷺ أولى بالاتباع من التبليغ عمن هو دونه وهذا ما لا انفكاك لهم منه.
قال أبو محمد: لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ما أمروا قط في غير منازل سكناهم وما حكموا على قرية فما فوقها بحكم فما الحاجة إليهم لا سيما مذ مائة عام وثمانين عاماً فإنهم يدعون إماماً ضالاً لم يخلق كعنقاء مغرب وهم أولو فحش وقحة وبهتان ودعوى كاذبة لم يعجز عن مثلها أحد وأيضاً فإن الإمام المعصوم لا يعرف أنه معصوم إلا بمعجزة ظاهرة عليه أو بنص تنقله العلماء عن النبي ﷺ على كل إمام بعينه واسمه ونسبه وإلا فهي دعوى لا يعجز عن مثلها أحد لنفسه أو لمن شاء ولقد يلزم كل ذي عقل سليم أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الجهل الغث البارد السخيف الذي ترتفع عقول الصبيان عنه وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وبرهان آخر ضروري وهو أن رسول الله ﷺ مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين فما منهم أحد أشار إلى علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله ﷺ نص عليه ولا ادعى ذلك قط لا في ذلك الوقت ولا بعده ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت ولا بعده ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب أكثرهم موتون في صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهد عاهده رسول الله ﷺ إليهم وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى إلا رواية واحدة واهية عن مجهولين إلى مجهول يكنى بالحمراء لا يعرف من هو في الخلق ووجدنا علياً رضي الله عنه تأخر عن البيعة ستة أشهر فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعاً مراجعاً غير مكره فكيف حل لعلي رضي الله عنه عند هؤلاء النوكى أن يبائع طايعاً رجلاً إما كافراً وإما فاسقاً جاحداً لنص رسول الله ﷺ ويعينه على أمره ويجالسه في مجالسه ويواليه إلى أن مات ثم يبايع بعده عمر بن الخطاب مبادراً غير متردد ساعة فما فوقها غير مكره بل طائعاً وصحبه وأعانه على أمره وانكحه من ابنته فاطمة رضي الله عنها ثم أقبل ادخاله في الشورى أحد ستة رجال فكيف حل لعلي عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضالة وكفر ويغر الأمة هذا الغرور وهذا الأمر أدى أبا كامل إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه في زعمه أعان الكفار على كفرهم وأيدهم على كتمان الديانة وعلى ما لا يتم الدين إلا به.
قال أبو محمد: ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه انه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت وهو الأسد الشجاع قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله ﷺ مرات يوم الجمل وصفين فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين وما الذي ألف بين بصار الناس على كتمان حق علي ومنعه ما هو أحق به مذ مات رسول الله ﷺ إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا إلى نفسه فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة وبذلوا دماءهم دونه ورأوه حينئذ صاحب الأمر والأولى بالحق ممن نازعه فما الذي منعه ومنعهم من الكلام وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام أو يوم السقيفة وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكاً عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر فما سئلها ولا أجبر عليها ولا كلفها وهو متصرف بينهم في أموره فلولا أنه رأى الحق فيها واستدرك أمره فبايع طالباً حظ نفسه في دينه راجعاً إلى الحق لما بايع فإن قالت الروافض أنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع إلى الباطل فهذا هو الباطل حقاً لا ما فعل علي رضي الله عنه ثم ولى علي رضي الله عنه فما غير حكماً من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان ولا أبطل عهداً من عهودهم ولو كان ذلك عنده باطلاً لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه وقد ارتفعت التقية عنه وأيضاً فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنه ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عن جميعهم وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ليس معه أحد غير الزبير بن العوام ثم استبان الحق للزبير رضي الله عنه فبايع سريعاً وبقي علي وحده لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس ولا يمنع أحد من لقائه فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون عن غلبة أو عن ظهور حقه إليهم فأوجب ذلك الانقياد لبيعته أو فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه فإن قالوا بايعوه بغلبة كذبوا لأنه لم يكن هنالك قتال ولا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا وقت طويل ينفسح للوعيد ولا سلاح مأخوذ ومحال أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال كلهم عشيرة واحدة قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم موطنين على الموت متعرضين مع ذلك للحرب مع قيصر الروم بمؤنة وغيرها ولكسرى والفرس ببصرى من يخاطبهم يدعوه إلى اتباعه وأن يكون كأحد من بين يديه هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب فمن المحال الممتنع أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ولا إلى موال ولا إلى عصبة ولا مال فرجعوا إليه وهو عندهم مبطل وبايعوه بلا تردد ولا تطويل وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا خوف ولا ظهور الحق إليهم فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك دون طمع يتعجلونه من مال أو جاه بل فيما ترك العز والدنيا والرياسة وتسليم كل ذلك إلى رجل لا عشيرة له ولا منعة ولا حاجب ولا حرس على بابه ولا قصر ممتنع فيه ولا موالي ولا مال فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في الشجاعة ومعه جماعة من بني هاشم وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالماً وعن منعه وزجره بل فد علم والله علي رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وإن من خالفه على الباطل فأذعن للحق بعد أن عرضت له فيه كبوة كذلك الأنصار رضي الله عنهم وإذ قد بطل كل هذا فلم يبق إلا أن علياً والأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه لا لاجتهاد كاجتهادهم ولا لظن كظنونهم فإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار وزالت الرياسة عنهم فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي ﷺ على إمامة علي ومن المحال أن تتفق آراؤهم كلهم على معونة من ظلمهم وغصبهم حقهم إلا أن تدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة ثم لو أمكنت لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان وإن الناس كلهم نسوه وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأيضاً فإن كان جميع أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فمن أين وقع إلى الروافض أمره ومن بلغه إليهم وكل هذا عو هوس ومحال فبطل أمر النص على علي رضي الله عنه بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله ﷺ فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة ولذلك انحرفوا عنه قيل له هذا تمويه ضعيف كاذب لأنه إن ساغ لكم ذلك في بني عبد شمس وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني عامر لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلاً أو رجالاً فقتل من بني عامر بن لؤي رجلاً واحداً وهو عمرو بن ود وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالاً وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عقبة والعاص بن سهل بن العاص بلا شك وشارك في قتل عتبة بن ربيعة وقيل قتل عقبة بن أبي معيط وقيل قتله غيره وهو عاصم بن ثابت الأنصاري ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل ولا لأحد منهم يوم السقيفة حل ولا عقد ولا رأي ولا أمر اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلاً إلى علي في ذلك الوقت عصبية للقرابة لا تديناً وكان ابنه يزيد وخالد بن سعيد بن العاص والحارث بن هشام ابن المغيرة والمخزومي مائلين إلى الأنصار تديناً والأنصار قتلوا أبا جهل بن هشام أخاه وقد كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي حين قصة عثمان وبعدها حتى قتله معاوية على ذلك فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة أو من بني عدي بن كعب حتى يظن أهل القحة أنهما حقدا عليه ثم أخبرونا من قتل من الأنصار أو من جرح منهم أو من أذى منهم ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها بعضهم متقدم وبعضهم مساو له وبعضهم متأخر عنه فأي حقد كان له في قلوب الأنصار حتى يتفقوا كلهم على جحد النص عليه وعلى إبطال حقه وعلى ترك ذكر اسمه جملة وإيثار سعد بن عبادة عليه ثم على إيثار أبي بكر عليه وعمر عليه والمسارعة إلى بيعته بالخلافة دونه وهو معهم وبين أظهرهم يرونه غدواً وعشياً لا يحول بينهم وبينه أحد ثم أخبرونا من قتل علي من أقارب أولاد المهاجرين من العرب من مضر وربيعة واليمن وقضاعة حتى يصفقوا كلهم على كراهية ولايته ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه إن هذه لعجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلاً ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له دونهم لو كان للروافض حياء أو عقل ولقد كان لأبي بكر رحمه الله ورضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي فما منعهم ذلك من بيعته وهو أسوأ الناس أثراً عند كفارهم ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي رضي الله عنه فليت شعري ما الذي أوجب أن ينسى آثار هؤلاء كلهم ويعادوا علياً من بينهم كلهم لولا قلة حياء الروافض وصفاقة وجوههم حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد مولى رسول الله ﷺ ورافع بن خديج الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري وأبي هريرة وأبي الدراء وجماعة غير هؤلاء من المهاجرين أنهم لم يبايعوا علياً إذ ولي الخلافة ثم بايعوا معاوية ويزيد ابنه من أدركه وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك.
قال أبو محمد: حمق الرافضة وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار والعار والنار وقلة المبالاة بالفضائح وليت شعري أي حماسة وأي كلمة حسنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو أحد منهم وإنما كان هؤلاء ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة فلما أصفق المسلمون على ما أصفقوا عليه كائناً من كان دخلوا في الجماعة وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير رضي الله عنه ومروان فإنهم قعدوا عنهما فلما انفرد عبد الملك بن مروان بايعه من أدركه منهم لا رضا عنه ولا عداوة لابن الزبير ولا تفضيلاً لعبد الملك علي ابن الزبير لكن لما ذكرنا وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية فلاحت نوكة هؤلاء المجانين والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وهذا زيد بن حارثة قتل يوم بدر حنظلة بن أبي سفيان وهذا الزبير بن العوام قتل يوم بدر أيضاً عبيدة بن سعيد بن العاص وهذا عمر بن الخطاب قتل يومئذ العاص بن هشام بن المغيرة فهلا عاداهم أهل هؤلاء المقتولين وما الذي خص علياً أولياء من قتل دون سائر من قلنا لولا جنون الرافضة وعدم الحياء من وجوههم ثم لو كان ما ذكروه حقاً فما الذي كان دعا عمر إلى إدخاله في الشورى مع من أدخله فيها ولو أخرجه منها كما أخرج سعيد بن زيد أو قصد إلى رجل غيره فولاه ما اعترض عليه أحد في ذلك بكلمة فصح ضرورة بكل ما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير عالين ولا مقصرين رضي الله عنهم أجمعين وأنهم قدموا الأحق فالأحق والأفضل فالأفضل وساووه بنظرائه منهم ثم أوضح برهان وأبين بيان في بطلان أكاذيب الرافضة أن علياً رضي الله عنه لما ادعي إلى نفسه بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف المهاجرين والأنصار إلى بيعته فهل ذلك أحد من الناس أن أحداً منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أو هل تاب أحد منهم من جحده للنص على إماماته أو قال أحد منهم لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر هذا الرجل أن عقولاً خفي عليها هذا الظاهر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أن يهديها ثم مات عمر رضي الله عنه وترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة علي أحدهم ولم يكن في تلك الأيام الثلاثة سلطان يخاف ولا رئيس يتوقى ولا مخافة من أحد ولا جند معد للتغلب أفترى لو كان لعلي رضي الله عنه حق ظاهر يختص به من نص عليه من رسول الله ﷺ أو من فضل بائن على من معه ينفرد به عنهم أما كان الواجب على علي أن يقول أيها الناس كم هذا الظلم لي وكم هذا الكتمان بحقي وكم هذا الجحد لنص رسول الله ﷺ وكم هذا الإعراض عن فضلي البائن على هؤلاء المقرونين لي فإذ لم يفعل لا يدري لماذا أما كان في بني هاشم أحد له دين يقول هذا الكلام أما العباس عمه وجميع العالمين على توقيره وتعظيمه حتى أن عمر توسل به إلى الله تعالى بحضرة الناس في الاستسقاء وأما أحد بنيه وأما عقيل أخوه وأما أحد بني جعفر أخيه أو غيرهم فإذ لم يكن في بني هاشم أحد يتقي الله عز وجل ولا يأخذه في قول الحق مادهنة أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأ صار وغيرهم واحد يقول يا معشر المسلمين قد زالت الرقبة وهذا علي له حق واجب بالنص وله فضل بائن ظاهر لا يمترى فيه فبايعوه فأمره بين أن أصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ومن الجزيرة إلى أقصى اليمن إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه وليس هناك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه وقتلوا أنفسهم دونه فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال ثم العجب إذ كان غيظهم عليه هذا الغيظ واتفاقهم على جحده حقه هذا الاتفاق كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه أم كيف أكرموه وبروه وأدخلوه في الشورى وقال هشام بن الحكم كيف يحسن الظن بالصحابة أن لا يكتموا النص على علي وهم قد اقتتلوا وقتل بعضهم بعضاً فهل يحسن بهم الظن في هذا.
قال أبو محمد: لو علم الفاسق أن هذا القول أعظم حجة عليه لم ينطق بهذا السخف لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من قاتل حين افترق الناس فكل ما لحق المقتتلين منهم من حسن الظن بهم أو من سوء الظن بهم فهو لاحق لعلي في قتاله ولا فرق بينه وبين سائر الصحابة في ذلك كله وبالله تعالى التوفيق فإن خصه متحكم كان كمن خص غيره منهم متحكماً ولا فرق وأيضاً فإن اقتتالهم رضي الله عنهم أوكد برهان على أنهم لم يغاروا على ما رأوه باطلاً بل قاتل كل فريق منهم على ما رأوه حقاً ورضي بالموت دون الصبر على خلاف ما عنده وطائفة منهم قعدت إذ لم تر الحق في القتال فدل على أنه لو كان عندهم نص على علي أو عند واحد منهم لأظهروه أو لأظهره كما أظهروا ما رأوا أن يبذلوا أنفسهم للقتال والموت دونه فإن قالوا قد أقررتم أنه لا بد من إمام فبأي شيء يعرف الإمام لا سيما وأنتم خاصة معشر أهل الظاهر لا بنص قرآن أو خبر صحيح وهذا أيضاً مما سألنا عنه أصحاب القياس والرأي.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله التوفيق أن رسول ﷺ نص على وجوب الإمامة وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة وافترض علينا بنص قوله الطاعة للقرشي إماماً واحداً لا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عز وجل فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته كما صح النص على صفة الشهود في الأحكام وصفة المساكين والفقراء الواجب لهم الزكاة وصفة من يؤم في الصلاة وصفة من يجوز نكاحها من النساء وكذلك سائر الشريعة كلها ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء إذ لم يكلفنا الله عز وجل ذلك فكل قرشي بالغ عاقل بادر إثر موت الإمام الذي لم يعهد إلى أحد فبايعه واحد فصاعداً فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله ﷺ الذي أمر الكتاب باتباعها فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك أو أقيم عليه الحد والحق فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره منهم فإن قالوا قد اختلف الناس في تأويل القرآن والسنة ومنع من تأويلهما بغير نص آخر قلنا أن التأويل الذي لم يقم عليه برهان تحريف الكلم عن مواضعه وقد جاء النص بالمنع من ذلك وليس الاختلاف حجة وإنما الحجة في نص القرآن والسنن وما اقتضاء لفظهما العربي الذي خوطبنا به وبه ألزمتنا الشريعة.
قال أبو محمد: ثم نسألهم فنقول لهم أن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم إنما هي وجهان فقط أحدهما النص عليه باسمه والثاني شدة الفاقة إليه في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره ولا مزيد فأخبروني بأي شيء صار محمد بن علي بن الحسين أولى بالإمامة من أخوته زيد وعمر وعبد الله وعلي والحسين فإن ادعوا نصاً من أبيه عليه أو من النبي ﷺ أنه الباقر لم يكن ذلك ببدع من كذبهم ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على ابن الحنفية وإن ادعوا أنه كان من فضل من اخوته كانت أيضاً دعوى بلا برهان والفضل لا يقطع على ما عند الله عز وجل فيه بما يبدو من الإنسان فقد يكون باطنه خلاف ظاهره وكذلك يسألون أيضاً ما الذي جعل موسى بن جعفر أولى بالإمامة من أخيه محمد أو إسحاق أو علي فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلاً وكذلك أيضاً يسألون ما الذي خص علي بن موسى بالإمامة دون اخوته وهم سبعة عشر ذكراً فلا يجدون شيئاً غير الدعوى وكذلك يسألون ما الذي جعل محمد بن علي بن موسى أولى بالإمامة من أخيه علي بن علي وما الذي جعل علي بن محمد أولى بالإمامة من أخيه موسى بن محمد وما الذي جعل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى أحق بالإمامة من أخيه جعفر بن علي فهل هاهنا شيء غير الدعوى الكاذبة الذي لا حياء لصاحبها والتي لو ادعى مثلها مدع للحسن بن الحسن أو لعبد الله بن الحسن أو لأخيه الحسن بن الحسن أو لابن أخيه علي بن الحسن أو لمحمد بن عبد الله القائم بالمدينة أو لأخيه إبراهيم أو لرجل من ولد العباس أو من بني أمية أو من أي قوم من الناس كان لساواهم في الحماقة ومثل هذا لا يشتغل به من له مسكة من عقل أو منحة من دين ولو قلت أو رقعة من الحياء فبطل وجه النص وأما وجه الحاجة إليه في بيان الشريعة فما ظهر قط من أكثر أئمتهم بيان لشيء مما اختلف فيه الناس وما بأيديهم من ذلك شيء إلا دعاوي مفتعلة قد اختلفوا أيضاً فيها كما اختلف غيرهم من الفرق سواء سواء إلا أنهم أسوأ حالاً من غيرهم لأن كل من قلد إنساناً كأصحاب أبي حنيفة لأبي حنيفة وأصحاب مالك لمالك وأصحاب الشافعي للشافعي وأصحاب أحمد لأحمد فإن لهؤلاء المذكورين أصحاباً مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ونقلوها هم عنه ولا سبيل إلى اتصال خبر عندهم ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى أن هذا قول موسى بن جعفر ولا أنه قول علي بن موسى ولا أنه قول محمد بن علي بن موسى ولا أنه قول علي بن محمد ولا أنه قول الحسن بن علي وأما من بعد الحسن بن علي فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة وأما من قبل موسى بن جعفر فلو جمع كل ما روى في الفقه عن الحسن والحسين رضي الله عنهما لما بلغ عشر أوراق فما ترى المصلحة التي يدعونها في إمامهم ظهرت ولا نفع الله تعالى بها قط في علم ولا عمل لا عندهم ولا عند غيرهم ولا ظهر منهم بعد الحسين رضي الله عنه من هؤلاء الذين سموا أحداً ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن وقد قرأنا صفة هؤلاء المخاذلين المنتمين إلى الإمامية القائلين بأن الدين عند أئمتهم فما رأينا إلا دعاوي باردة وارأ فاسدة كأسخف ما يكون من الأقوال ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت أو مفسوحاً لهم فيه فإن يكونوا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الضلال وسقطت الحجة في الديانة عن جميع الناس وبطل الدين ولم يلزم فرض الإسلام وهذا فكر مجرد وهم لا يقولون بهذا أو يكونوا مأمورين بالكلام والبيان فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن صحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإلهام في ذلك فإذ قد صاروا إلى هذا الشغب فإن لا يضيق عن أحد من الناس ولا يعجز خصومهم عن أن يدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم قال هشام بن الحكم لا بد أن يكون في أخوة الإمام آفات يبين بها أنهم لا يستحقون الإمامة.
قال أبو محمد: وهذه دعوى مردودة تزيد في الحماقة ولا ندري في زيد وعمرو وعبد الله والحسن وعلي بن علي بن الحسين آفات تمنع إلا أن الحسن أخا زيد ومحمد كان أعرج وما علمنا أن العرج عيب يمنع من الإمامة إنما هو عيب في العبيد المتخذين للمشي وما يعجز خصومهم أن يدعوا في محمد بن علي وفي جعفر بن محمد وفي سائر أئمتهم تلك الآفات التي ادعاها هشام لأخوتهم ثم أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين فنسألهم من أي علم هذا الصغير جميع علم الشريعة وقد عدم توقيف أبيه له عليها لصغره فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحي فهذه نبوة وكفر صريح وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة وأن يدعوا له معجزة تصحح قوله فهذه دعوى باطلة ما ظهر منها قط شيء أو يدعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى.
قال أبو محمد: ولو لم يكن من الحجة على أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويزين لكل أمة عملها إلا وجود من يعتقد هذه الأقوال السخيفة لكان أقوى حجة وأوضح برهان وإلا فما خلق الله عقلاً يسع فيه مثل هذه الحماقات والحمد لله على عظيم منته علينا وهو المسؤول منه دوامها بمنه آمنين.
قال أبو محمد: وأيضاً فلو كان الأمر في الإمامة على ما يقول هؤلاء السخفاء لما كان الحسن رضي الله عنه في سعة من أن يسلمها لمعاوية رضي الله عنه فيعينه على الضلال وعلى إبطال الحق وهدم الدين فيكون شريكه في كل مظلمة ويبطل عهد رسول الله ﷺ ويوافقه على ذلك الحسين أخوه رضي الله عنهما فما نقض قط بيعة معاوية إلى أن مات فكيف استحل الحسن والحسين رضي الله عنهما إبطال عهد رسول الله ﷺ إليهما طائعين غير مكرهين فلما مات معاوية قام الحسين يطلب حقه إذ رأى أنها بيعة ضلالة فلولا أنه رأى بيعة معاوية حقاً لما سلمها له ولفعل كما فعل بيزيد إذ ولي يزيد هذا مالا يمتري فيه ذو إنصاف هذا ومع الحسن أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه فتالله لولا أن الحسن رضي الله عنه علم أنه في سعة من إسلامها إلى معاوية وفي سعة من أن لا يسلمها لما جمع بين الأمرين فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي حقه وسلمها بعد ذلك لغير ضرورة وذلك له مباح بل هو الأفضل بلا شك لأن جده رسول الله ﷺ قد خطب بذلك على المنبر بحضرة المسلمين وأراهم الحسن معه على المنبر وقال أن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين رويناه من طريق البخاري حدثنا صدقة أنبأنا ابن عيينة أنا موسى أنا الحسن سمع أبا بكرة يقول أنه سمع ذلك وشهده من رسول الله ﷺ وهذا من أعلامه ﷺ وإنذاره بالغيوب التي لا تعلم البتة إلا بالوحي ولقد امتنع زيادة وهو فقعة القاع لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة وحتى أرضاه وولاه فإن ادعوا أنه قد كان في ذلك عند الحسن عهد فقد كفروا لأن رسول الله ﷺ لا يأمر أحداً بالعون على إطفاء نور الإسلام بالكفر وعلى نقض عهود الله تعالى بالباطل عن غير ضرورة ولا إكراه وهذه صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما عند الروافض واحتج بعض الإمامية وجميع الزيدية بأن علياً كان أحق الناس بالإمامة لبينونة فضله على جميعهم ولكثرة فضائله دونهم.
قال أبو محمد: وهذا يقع الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الكلام في المفاضلة بين أصحاب رسول الله ﷺ وأن الكلام هاهنا في الإمامة فقط فنقول وبالله تعالى التوفيق عبكم أنكم وجدتم لعلي رضي الله عنه فضائل معلومة كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله ﷺ وسعة العلم والزهد فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضي الله عنهما حتى أوجبتم لهما بذلك فضلاً في شيء مما ذكرنا على سعد بن أبي وقاس وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس هذا ما لا يقدر أحد على أن يدعي لهما فيه كلمة فما فوقها يعني مما يكونان به فوق من قد ذكرنا في شيء من هذه الفضائل فلم يبق إلا دعوى النص عليهما وهذا ما لا يعجز عن مثله أحد ولو استجازت الخوارج التوقح بالكذب في دعوى النص على عبد الله بن وهب الراسي لما كان إلا مثل الرافضة في ذلك سواء بسواء ولو استحلت الأموية أن تجاهر بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر الرافضة لقوله تعالى " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل أنه كان منصوراً " ولكن كل أمة ما عدا الرافضة والنصارى فإنها تستحي وتصون أنفسها عما لا تصون النصارى والروافض أنفسهم عنه من الكذب الفاضح البارد وقلة الحياء فيما يأتون به ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وكذلك لا يجدون لعلي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل على سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ولا على أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ولا على ابن عمه الحسن بن الحسن وكذلك لا يجدون لمحمد بن علي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل ولا ورع على عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ولا على محمد بن عمر وبن أبي بكر المنكدر ولا على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ولا على أخيه زيد بن علي ولا على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ولا على عمر بن عبد العزيز وكذلك لا يجدون لجعفر بن محمد بسوقا في علم ولا في دين ولا في عمل على محمد بن مسلم الزهري ولا على ابن أبي ذؤيب ولا على عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ولا على بيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر ولا على ابني عمه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وعلى بن الحسن بن الحسن بن الحسن بل كل من ذكرنا فوقه في العلم والزهد وكلهم أرفع محلاً في الفتيا والحديث لا يمنع أحد منهم من شيء من ذلك وهذا ابن عباس رضي الله عنه قد جمع فقه في عشرين كتاباً ويبلغ حديثه نحو ذلك إذا تقصى ولا تبلغ فتيا الحسن والحسين ورقتين ويبلغ حديثهما ورقة أو ورقتين وكذلك على بن الحسين إلا أن محمد بن علي يبلغ حديثه وفتياه جزأ صغيراً وكذلك جعفر بن محمد وهم يقولون أن الإمام عنده جميع علم الشريعة فما بال من ذكرنا أظهروا بعض ذلك وهو الأقل الأنقص وكتموا سائره وهو الأكثر الأعظم فإن كان فرضهم الكتمان فقد خالفوا الحق إذ أعلنوا ما أعلنوا وإن كان فرضهم البيان فقد خالفوا الحق إذ كتموا ما كتموا وأما من بعد جعفر بن محمد فما عرفنا لهم علماً أصلاً لا من رواية ولا من فتيا على قرب عدهم منا ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حدث الناس عنه فبطلت دعواهم الظاهرة الكاذبة اللائحة السخيفة التي هي من خرافات السمر ومضاحك السخفاء فإن رجعوا إلى ادعاء المعجزات لهم قلنا لهم أن المعجزات لا تثبت إلا بنقل التواتر لا بنقل الأحاد الثقات فكيف بولد الوقحا الكذابين الذين لا يدري من هم وقد وجدنا من يروي لبشر الحافي وشيبان الراعي ورابعة العدوية أضعاف ما يدعونه من الكذب للأئمتهم وأظهر وأفشى وكل ذلك حماقة لا يشتغل ذو دين ولا ذو عقل بها ونحمد الله على السلامة فإذ قد بطل ما يدعونه ولله تعالى الحمد فلنقل على الإمامة بعد رسول الله ﷺ بالبرهان وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: قد اختلف الناس في هذا فقالت طائفة أن النبي ﷺ لم يستخلف أحداً ثم اختلفوا فقال بعضهم لكن لما استخلف أبا بكر رضي الله عنه على الصلاة كان ذلك دليلاً على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمور وقال بعضهم لا ولكن كان ابينهم فضلاً فقدموه لذلك وقالت طائفة بل نص رسول الله ﷺ على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصاً جلياً.
قال أبو محمد: وبهذا نقول لبراهين أحدها أطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " فقد أصفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله ﷺ ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو لا يجوز غير هذه البتة في اللغة بلا خلاف تقول استخلف فلا فلاناً يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه فإن قام مكانه دون أن يستخلفه هو لم يقل إلا خلف فلان فلاناً يخلفه فهو خالف ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضروريين أحدهما أنه لا يستحق أبو بكر هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله ﷺ وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقيناً أن خلافته المسمى هو بها هي غير خلافته على الصلاة والثاني أن كل من استخلفه رسول الله ﷺ في حياته كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان ابن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله ﷺ على الإطلاق فصح يقيناً بالضرورة التي لا محيد عنها أنها للخلافة بعده على أمته ومن الممتنع أن يجمعوا على ذلك وهو عليه السلام لم يستخلفه نصاً ولم لم يكن هاهنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر أولى بهذه التسمية من غيره ممن ذكرنا وهذا برهان ضروري نعارض به جميع الخصوم وأيضاً فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت أن رجعت ولم أجدك كأنها تريد الموت قال فأت أبا بكر وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر وأيضاً فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله ﷺ قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي توفي فيه عليه السلام لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فاكتب كتاباً وأعهد عهداً لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وروي أيضاً ويأبي الله والنبيون إلا أبا بكر فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده.
قال أبو محمد: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو ابلسوا أسفاً لاحتججنا بما روى اقتدروا باللذين من بعيد أبي بكر وعمر.
قال أبو محمد: ولكنه لم يصح ويعيذنا من الاحتجاج بما لا يصح.
قال أبو محمد: واحتج من قال لم يستخلف رسول الله ﷺ بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال أن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وأن لا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني رسول الله ﷺ وبما روى عن عائشة رضي الله عنها من كان رسول الله ﷺ مستخلفاً لو استخلف فمن المحال أن يعارض الإجماع من الصحابة الذي ذكرنا والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله ﷺ من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما مما لا يقوم به حجة مما له وجه ظاهر من أن هذا الأثر خفي على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله ﷺ كالاستئذان وغيره أو أنه أراد استخلافاً بعهد مكتوب ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بكتاب مكتوب وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك نصاً وقد يخرج كلامها على سؤال سائل وإنما الحجة في روايتها لا في قولها وأما من ادعى أنه إنما قدم قياساً على تقديمه إلى الصلاة فباطل بيقين لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة إذ يستحق الإمامة في الصلاة اقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ولا يستحق الخلاف إلا قرشي فكيف والقياس كله باطل.
قال أبو محمد: في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله تعالى قال مخاطباً لنبيه ﷺ في الأعراب " فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً " وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ولم يغز عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات ﷺ وقال تعالى أيضاً " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل " فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله ﷺ وغلق باب التوبة فقال تعالى " قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً " فأخبر تعالى أنهم سيدعوهم غير النبي ﷺ إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم.
قال أبو محمد: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله ﷺ إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجب طاعة أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم وليس هذا بموجب تقليدهم في غير ما أمر الله تعالى بطاعتهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر بذلك إلا في دعائهم إلى قتال هؤلاء القوم وفيما يجب الطاعة فيه للأئمة جملة وبالله تعالى التوفيق.
وأما ما أفتوا به باجتهادهم فما أوجبوا هم قط اتباع أقوالهم فيه فكيف أن يوجب ذلك غيرهم وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فإن هذا إجماع الأئمة كلها إذ ليس أحد من أهل العلم إلا وقد خالف بعض فتاوي هؤلاء الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم فصح ما ذكرنا والحمد لله رب العالمين. فصل قال أبو محمد: وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة ولا إمامة صبي لم يبلغ إلا الرافضة فإنها يجيز إمامة الصغير الذي لم يبلغ والحمل في بطن أمه وهذا خطأ لأن من لم يبلغ فهو غير مخاطب والإمام مخاطب بإقامة الدين وبالله تعالى التوفيق.
قال الباقلاني واجب أن يكون الإمام أفضل الأمة.
قال أبو محمد: وهذا خطأ متيقن لبرهانين أحدهما أنه لا يمكن أن يعرف الأفضل إلا بالظن في ظاهر أمره وقد قال تعالى " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " والثاني أن قريشاً قد كثرت وطبقت الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال ولا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلاً ثم يكفي من بطلان هذا القول إجماع الأمة على بطلانه فإن جميع من أدرك من الصحابة رضي الله عنه من جميع المسلمين في ذلك العصر قد أجمعوا على صحة إمامة الحسن أو معاوية وقد كان في أفضل منهم بلا شك كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وابن عمر وغيرهم فلو كان ما قاله الباقلاني حقاً لكانت إمامة الحسن ومعاوية باطلة وحاشا لله عز وجل من ذلك.
وأيضاً فإن هذا القول الذي قاله هذا المذكور دعوي فاسدة ولا على صحتها دليل لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من قول صاحب ولا من قياس والعجب كله أن يقول أنه جائز أن يكون في هذه الأمة من أفضل من رسول الله ﷺ من حيث بعث إلى أن مات ثم لا يجيز أن يكون أحد أفضل من الإمام. قال أبو محمد: وهذا القول منه في النبي ﷺ كفر مجرد ولا خفاء به وفيه خلاف لأهل الإسلام وإنما يجب أن يكون الإمام قرشياً بالغاً ذكراً مميزاً بريئاً من المعاصي الظاهرة حاكماً بالقرآن والسنة فقط ولا يجوز خلعه ما دام يمكن منعه من الظلم فإن لم يمكن إلا بإزالته ففرض أن يقام كل ما يوصل به إلى دفع الظلم لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة
قال أبو محمد: اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام فذهب بعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة وجميع الشيعة إلى أن أفضل الأمة بعد رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب وقد روينا هذا القول نصاً عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين والفقهاء وذهبت الخوارج كلها وبعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة إلى أن أفضل الصحابة بعد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر.
وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ جعفر بن أبي طالب وبهذا قال أبو عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد وعيسى بن حاضر قال عيسى وبعد جعفر حمزة رضي الله عنه.
وروينا عن نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مات رسول الله ﷺ وثلاث رجال لا يعد أحد عليهم بفضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر وروينا عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها تذكرت الفضل ومن هو خير فقالت ومن هو خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله ﷺ وروينا عن مسروق بن الأجدع وتميم بن حذلم وإبراهيم النخعي وغيرهم أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ عبد الله بن مسعود قال تميم وهو من كبار التابعين رأيت أبا بكر وعمر فما رأيت مثل عبد الله بن مسعود وروينا عن بعض من أدرك النبي ﷺ أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب وأنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما وبلغني عن محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري أنه كان يذهب إلى هذا القول.
قال داود بن علي الفقيه رضي الله عنه أفضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله ﷺ وأفضل الصحابة الأولون من المهاجرين ثم الأولون من الأنصار ثم بعدهم منهم ولا نقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته ولقد رأينا من متقدمي أهل العمل ممن يذهب إلى هذا القول وقال لي يوسف بن عبد الله بن عبد البر النميري غير ما مرة أن هذا هو قوله ومعتقده.
قال أبو محمد: والذي نقول به وندين الله تعالى عليه ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام نساء رسول الله ﷺ ثم أبو بكر ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أن أمة محمد ﷺ أفضل الأمم لقول الله عز وجل " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وإن هذه قاضية على قوله تعالى لبني إسرائيل " وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ " وإنها مبينة لأن مراد الله تعالى من ذلك عالم الأمم حاشا هذه الأمة.
قال أبو محمد: ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الكلام المهمل دون تحقيق المعنى المراد بذلك الكلام فإنه طمس للمعاني وصد عن إدراك الصواب وتعريج عن الحق وإبعاد عن الفهم وتخليط وعمي فنبدأ بعون الله تعالى وتأييده بتقسيم وجوه الفضل التي بها يستحق التفاضل فإذا استبان معنى الفضل وعلى ماذا تقع هذه اللفظة فبالضرورة نعلم حينئذ أن من وجدت فيه هذه الصفات أكثر فهو أفضل بلا شك فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أن الفضل ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما فضل اختصاص من الله عز وجل بلا عمل وفضل مجازاة من الله تعالى بعمل فأما فضل الاختصاص دون عمل فإنه يشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق والجمادات والأعراض كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الخلق وكفضل الأنبياء في ابتداء خلقهم على سائر الجن والأنس وكفضل إبراهيم ابن النبي ﷺ على سائر الأطفال وكفضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق وكفضل ذبيحة إبراهيم عليه السلام على سائر الذبائح وكفضل مكة على سائر البلاد وكفضل المدينة بعد مكة على غيرها من البلاد وكفضل المساجد على سائر البقاع وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة وكفضل شهر رمضان على سائر الشهور وكفضل يوم الجمعة وعرفة وعاشوراء والعشر على سائر الأيام وكفضل ليلة القدر على سائر الليالي وكفضل صلاة الفرض على النافلة وكفضل صلاة العصر وصلاة الصبح على سائر الصلوات وكفضل السجود على القعود وكفضل بعض الذكر على بعض فهذا هو فضل الاختصاص المجرد بلا عمل فأما فضل المجازاة بالعمل فلا يكون البتة إلا للحي الناطق من الملائكة والأنس والجن فقط وهذا هو القسم الذي تنازع الناس فيه في هذا الباب الذي نتكلم فيه الآن من أحق به فوجب أن ننظر أيضاً في أقسام هذا القسم التي بها يستحق الفضل فيه والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله وقوته ثم ننظر حينئذٍ من هو أحق به وأسعد بالنسوق فيه فيكون بلا شك أفضل ممن هو أقل حظاً فيها بلا شك وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله تعالى نستعين إن العامل يفضل العامل في عمله بسبعة أوجه لا ثامن لها وهي المائية وهي عين العمل وذاته والكمية وهي العرض في العمل والكيفية والكم والزمان والمكان والإضافة فأما المائية فهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موافاة كلها ويكون الآخر يضيع بعض فروضه وله نوافل أو يكون كلاهما وفي جميع فرضه ويعملان نوافل زائدة إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل الآخر كأن يكون أحدهما يكثر الذكر في الصلاة والآخر يكثر في الذكر في حال جلوسه وما أشبه هذا وكإنسانين قاتل أحدهما في المعركة والموضع المخوف وقاتل الآخر في الردء أو جاهد أحدهما واشتغل الآخر بصيام وصلاة تطوع أو يجتهدان فيصادف أحدهما ويحرمه الآخر فيفضل أحدهما الآخر في هذه الوجوه بنفس عمله أو بان ذات عمله أفضل من ذات عمل الآخر فهذا التفاضل في المائية من العمل وأما الكمية وهي العرض فإن يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله تعالى لا يمزج به شيئاً البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله إلا أنه ربما مزج بعمله شيئاً من حب البر في الدنيا وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه وربما مزجه بشيء من الرياء ففضله الأول بعرضه في عمله وأما الكيفية فأن يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقوقه ورتبه لا منتقصاً ولا متزيداً ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسننه وإن لم يعطل منه فرضاً أو يكون أحدهما يصفى عمله من الكبائر وربما أتي الآخر ببعض الكبائر ففضله الآخر بكيفية عمله وأما الكم فأن يستويا في أداء الفرض ويكون أحدهما أكثر نوافل ففضله هذا بكثرة عدد نوافله كما روي في رجلين أسلما وهاجرا أيام رسول الله ﷺ ثم استشهد أحدهما وعاش الآخر بعده سنة ثم مات على فراشه فرأى بعض أصحاب النبي ﷺ أحدهما في النوم وهو آخرهما موتاً في أفضل من حال الشهيد فسأل عن ذلك رسول الله ﷺ فقال عليه السلام كلاماً معناه فأين صلاته وصيامه بعده ففضل أحدهما الآخر بالزيادة التي زادها عليه في عدد أعماله وأما الزمان فكمن عمل في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين وعمل غيره بعد قوة الإسلام وفي زمن رخاء وأمن فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك ولذلك قال رسول الله ﷺ دعو إلى أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهباً ننفقه نحن في سبيل الله عز وجل بعد ذلك قال الله تعالى " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ".
قال أبو محمد: هذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو محمد: وهذا يكذب قول أبي هاشم محمد بن علي الجبائي وقول محمد بن الطيب الباقلاني فإن الجبائي قال جائز أن طال عمر امرئ أن يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء وقال الباقلاني جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حيث بعث بالنبوة إلى أن مات.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد وردة وخروج عن دين الإسلام بلا مرية وتكذيب لرسول الله ﷺ في إخباره أنا لا ندرك أحداً من أصحابه وفي إخباره عليه السلام عن أصحابه رضي الله عنهم بأنه ليس مثلهم وإنه أتقاهم وأعلمهم بما يأتي وما يذر وكذلك قالت الخوارج والشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله عز وجل على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا عليا والحسن والحسين وعمار بن ياسر والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى وكلاب النار على عثمان وعلي وطلحة والزبير ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وكذلك القليل من الجهاد والصدقة في زمان الشدائد أفضل من كثيرهما في وقت القوة والسعة وكذلك صدقة المرء بدرهم في زمان فقره وصحته يرجو الحياة ويخاف الفقر أفضل من الكبير يتصدق به في عرض غناه وفي وصيته بعد موته وقد صح عن رسول الله ﷺ سبق درهم مائة ألف وهو إنسان كان له درهمان تصدق بأحدهما والآخر عمد إلى عرض ماله تصدق منه بمائة ألف وكذلك صبر المرء على أداء الفرائض في حال خوفه ومرضه وقليل تنقله في زمان مرضه وخوفه أفضل من عمله وكثير تنقله في زمان صحته وأمنه ففضل من ذكرنا غيرهم بزمان عملهم وكذلك من وفق لعمل الخير في زمان آخر أجله هو أفضل ممن خلط في زمان آخر أجله وأما المكان فكصلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما وتفضل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ بمائة درجة وكصيام في بلد العدو أو في الجهاد على صيام في غير الجهاد ففضل من عمل في المكان الفاضل غيره ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله وإن تساوى العملان وأما الإضافة فركعة من نبي أو ركعة مع نبي أو صدقة من نبي أو صدقة معه أو ذكر منه أو ذكر معه وسائر أعمال البر منه أو معه فقليل ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفاً من قول الله عز وجل " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " وإخباره عليه السلام أم أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ نصف مد من أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وبهذا قطعنا على أن كل عمل عملوه بأنفسهم بعد موت النبي ﷺ لا يوازي شيئاً من البر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي ﷺ ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي ﷺ ولو كان غير ما نقول لجاز أن يكون أنس وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن بسر وعبد الله بن الحارث بن جزء وسهل ابن سعد الساعدي رضي الله عنهم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وسائر السابقين من المهاجرين والأنصار المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين لأن بعض أولئك عبدوا الله عز وجل بعد موت أولئك بعضهم بعد موت بعض بتسعين عاماً فما بين ذلك إلى خمسين عاماً وهذا ما لا يقوله أحد يعتد به.
قال أبو محمد: وبهذا قطعنا على أن من كان من الصحابة حين موت رسول الله ﷺ أفضل من آخر منهم فإن ذلك المفضول لا يلحق درجة الفاضل له حينئذ أبداً وإن طال عمر المفضول وتعجل موت الفاضل وبهذا أيضاً لم نقطع على فضل أحد منهم رضي الله عنهم حاشا من ورد فيه النص من النبي ﷺ ممن مات منهم في حياة النبي ﷺ بل نقف في هؤلاء على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فهذه وجوه الفضائل بالأعمال التي لا يفضل ذو عمل ذا عمل فيما سواها البتة نتيجة هذه الوجوه كلها وثمرتها ونتيجة فضل الاختصاص المجرد دون عمل أيضاً لا ثالث لهما البتة أحدهما إيجاب الله تعالى تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول فهذا الوجه يشترك فيه كل فاضل بعمل أو اختصاص مجرد بلا عمل من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق وقد أمرنا الله تعالى بتعظيم الكعبة والمساجد ويوم الجمعة والشهر الحرام وشهر رمضان وناقة صالح وإبراهيم ابن رسول الله ﷺ وذكر الله والملائكة والنبيين على حميعهم صلوات الله وسلامه والصحابة أكثر تعظيمنا وتوقيرنا غير ما ذكرنا من المواضع والأيام والنوق والأطفال والكلام والناس هذا ما لا شك فيه وهذا خاصة كل فاضل لا يخلو منها فاضل أصلاً ولا يكون البتة إلا لفاضل والوجه الثاني هو إيجاب الله تعالى للفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول إذ لا يجوز عند أحد من خلق الله تعالى أن يأمر بإجلال المفضول أكثر من إجلال الفاضل ولا أن يكون المفضول أعلى درجة في الجنة من الفاضل ولو جاز ذلك لبطل معنى الفضل جملة ولكان لفظاً لا حقيقة له ولا معنى تحية وهذا الوجه الثاني الذي هو علو الدرجة في الجنة هو خاصة لكل فاضل بعمل فقط من الملائكة والأنس والجن وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فكل مأمور بتعظيمه فاضل وكل فاضل فمأمور بتعظيمه وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهين كإحسان المرء إلى جاره وغلامه وأجيره ولا يكون ذلك تعظيماً وقد يبر الإنسان جاره والشيخ من أكرته ولا يسمى ذلك تعظيماً وقد يوقر الإنسان من يخاف ضره ولا يسمى ذلك تعظيماً وقد يتذلل الإنسان للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيماً وفرض قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وأبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وقال عز وجل " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " فقد صح بيقين أن ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل لأن التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل هو مودة في الله ومحبة فيه وولاية له وأما البر الواجب للأبوين الكافرين والتذلل لهما والإحسان إليهما فكل ذلك مرتبط بالعداوة لله تعالى وللبراءة منه وإسقاط المودة كما قال الله تعالى في نص القرآن وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد يكون دخول الجنة اختصاصاً مجرداً دون عمل وذلك للأطفال كما ذكرنا قبل فإذا قد صح ما ذكرنا قبل يقيناً بلا خلاف من أحد في شيء منه فبيقين ندري أنه لا تعظيم يستحقه أحد من الناس في الدنيا بإيجاب الله تعالى ذلك علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم السلام أوجب ولا أوكد مما ألزمنا الله تعالى من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي ﷺ بقول الله تعالى " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " فأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مسلم هذا سوى حق إعظامهن بالصحبة مع رسول الله ﷺ فلهن رضي الله تعالى عنهن مع ذلك حق الصحبة له كسائر الصحابة إلا أن لهن من الاختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه السلام ولطيف المنزلة عنده عليه السلام والقرب منه والحظوة لديه ما ليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم فهن أعلى درجة في الصحبة من جميع الصحابة ثم فضلن سائر الصحابة بحق زائد وهو حق الأمومية الواجب لهن كلهن بنص القرآن فوجدنا الحق الذي به استحق الصحابة الفضل قد شاركنهم فيه وفضلنهم فيه أيضاً ثم فضلنهم بحق زائد وهو حق الأمومية ثم وجدناهن لا عمل من الصلاة والصدقة والصيام والحج وحضور الجهاد يسبق فيه صاحب من الصحابة إلا كان فيهن فقد كن يجهدن أنفسهن في ضيق عيشهن على الكد في العمل بالصدقة والعتق ويشهدن الجهاد معه عليه السلام وفي هذا كفاية بينة في أنهن أفضل من كل صاحب ثم لا شك عند كل مسلم وبشهادة نص القرآن إذ خيرهن الله عز وجل بين الدنيا وبين الدار الآخرة والله ورسوله فاخترن الله تعالى ورسوله ﷺ والدار الآخرة فهن أزواجه في الآخرة بيقين فإذ هن كذلك فهن معه ﷺ بلا شك في درجة واحدة في الجنة في قصوره وعلى سرره إذ لا يمكن البتة أن يحال بينه وبينهن في الجنة ولا أن ينحط عليه السلام إلى درجة يسفل فيها عن أحد من الصحابة هذا ما لا يظنه مسلم فإذ لا شك في حصولهن على هذه المنزلة فبالنص والإجماع علمنا أنهن لم يؤتين ذلك اختصاصاً مجرداً دون عمل بل باستحقاقهن لذلك باختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة إذ أمره الله عز وجل أن يخيرهن فاخترن الله عز وجل ونبيه ﷺ وهو أفضل الناس ثم قد حصل لهن أفضل الأعمال في جميع الوجوه السبعة التي قدمنا آنفاً أنه لا يكون التفاضل إلا بها في الأعمال خاصة ثم قد حصل لهن على ذلك أوكد التعظيم في الدنيا ثم قد حصل لهن أرفع الدرجات في الآخرة فلا وجه من وجوه الفضل إلا ولن فيه أعلى الحظوظ كلها بلا شك ومارية أم إبراهيم داخلة معهن في ذلك لأنها معه عليه السلام في الجنة ومع انبها منه بلا شك فإذ قد ثبت كل ذلك على رغم الأبي فقد وجب ضرورة أن يشهد لهن كلهن بأنهن أفضل من جميع الخلق كلهن بعد الملائكة والنبيين عليهم السلام وكيف ومعنا نص النبي ﷺ كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا محمد بنا أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقى الصموت ثنا أحمد بن عمر وبن عبد الخالق البزاز ثنا أحمد بن عمر وحدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك قال عائشة قال من الرجال قال فأبوها حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي قال حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب ابن قيس حدثنا أحمد بن محمد الأشقر حدثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى بن خالد بن عبد الله هو الطحان عن خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ بعثه إلى جيش ذات السلاسل قال فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك فقال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر فعد رجالاً فهذان عدلان أنس وعمر ويشهد أن رسول الله ﷺ أخبر بأن عائشة أحب الناس إليه ثم أبوها وقد قال الله عز وجل عنه عليه السلام " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " فصح أن كلامه عليه السلام أنها أحب الناس إليه وحي أوحاه الله تعالى إليه ليكون كذلك ويخبر بذلك لا عن هوى له ومن ظن ذلك فقد كذب الله تعالى لكن لاستحقاقها لذلك الفضل في الدين والتقدم فيه على جميع الناس الموجب لأن يحبها رسول الله ﷺ أكثر من محبته لجميع الناس فقد فضلها رسول الله ﷺ على أبيها وعلى عمر وعلي وعلى فاطمة تفضيلاً ظاهراً بلا شك فإن قال قائل فقل إن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لكونه مع أبيه عليه السلام في الجنة في درجة واحدة قلنا له وبالله تعالى التوفيق إن إبراهيم بن رسول الله ﷺ ما استحق تلك المنزلة بعمل كان منه وإنما هو اختصاص مجرد وإنما تقع المفاضلة بين الفاضلين إذا كان فضلهما واحداً من وجه واحد فتفاضلا فيه وأما إن كان الفضل من وجهين اثنين فلا سبيل إلى المفاضلة بينهما لأن معنى قول القائل أي هذين أفضل إنما هو أي هذين أكثر أوصافاً في الباب الذي اشتركا فيها ألا ترى أنه لا يقال أيهما أفضل رمضان أو ناقة صالح ولا أيهما أفضل الكعبة أو الصلاة بل نقول أيهما أفضل مكة أو المدينة وأيهما أفضل رمضان أو ذو الحجة وأيهما أفضل الزكاة أم الصلاة وأيهما أفضل ناقة صالح أو ناقة غيره من الأنبياء فقد صح أن التفاضل إنما يكون في وجه اشترك فيه المسؤول عنهما فبسق أحدهما فيه فاستحق أن يكون أفضل وفضل إبراهيم ليس على عمل أصلاً وإنما هو اختصاص مجرد وإكرام لأبيه ﷺ وأما نساؤه عليه السلام فكونهن وكون سائر أصحابه عليهم السلام في الجنة إنما هو جزاء لهن ولهم على أعمالهن وأعمالهم قال الله بعد ذكر الصحابة رضي الله عنهم " جزاء بما كانوا يعملون " وقال بعد ذكر الصحابة " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً " وقال تعالى مخاطباً لنسائه عليه السلام " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين " وهذا نص قولنا ولله الحمد وقال تعالى " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " وقال تعالى " غرف من فوقها غرف مبنية " وقال تعالى " وإن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " فإن قال قائل فكيف تقولون في قوله عليه السلام لن يدخل الجنة أحد بعمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل قلنا نعم هذا حق موافق للآيات المذكورة وهكذا نقول أنه لو عمل الإنسان دهره كله ما استحق على الله تعالى شيئاً لأنه لا يجب على الله تعالى شيء إذ لا موجب للأشياء الواجبة غيره تعالى لأنه المبتدي لكل ما في العالم والخالق له فلولا أن الله تعالى رحم عباده فحكم بأن طاعتهم له يعطيهم بها الجنة لما وجب ذلك عليه فصح أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله مجرداً دون رحمة الله تعالى لكن يدخلها برحمة الله تعالى التي جعل بها الجنة جزاء على أعمالهم التي أطاعوه بها فاتفقت الآيات مع هذا الحديث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإذ لا شك في هذا كله فقد امتنع يقيناً أن يجازى بالأفضل من كان أنقص فضلاً وأن يجازي بالأنقص من كان أتم فضلاً وصح ضرورة أنه لا يجزى أحد من أهل الأعمال في الجنة إلا بما استحقه برحمة الله تعالى جزاء على عمله ولله تعالى أن يتفضل على من شاء بما شاء وجائز أن يقدم على ذوي الأعمال الرفيعة قال تعالى " يختص برحمته من يشاء " وقال تعالى " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " فلا يجوز خلاف هذه النصوص لأحد لأن من خالفها كذب القرآن ولولا هذه النصوص لما أبعدنا أن يعذب الله تعالى على الطاعة له وأن ينعم على معصيته وأن يجازي الأفضل بالأنقص والأنقص بالأفضل لأن كل شيء ملكه وخلقه لا مالك لشيء سواه ولا معقب لحكمه ولا حق لأحد عليه لكن قد أمنا ذلك كله بأخبار الله تعالى أنه لا يجازي ذا عمل إلا بعمله وأنه يتفضل على من يشاء فلزم الإقرار بكل ذلك وبالله تعالى التوفيق فلو قال قائل أيما أفضل في الجنة وأعلى قدراً مكان إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أو مكان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قلنا مكان إبراهيم أعلى بلا شك ولكن ذلك المكان اختصاص مجرد لإبراهيم المذكور لم يستحقه بعمل ولا استحق أيضاً أن يقصر به عنه ومواضيع هؤلاء المذكورين جزاء لهم على قدر فضلهم وسوابقهم وكذلك نساؤه ﷺ مكانهن جزاء لهن على قدر فضلهن وسوابقهن فلا يقال أن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أفضل من أبي بكر أو عمر ولا يقال أيضاً أن أبا بكر وعمر أفضل من إبراهيم والمفاضلة واقعة بين الصحابة وبين نساء رسول الله ﷺ لأن أعمالهم وسوابهم لها مراتب متناسبة بلا شك فإن قال قائل أنهن لولا رسول الله ﷺ ما حصلن تلك الدرجة وإنما تلك الدرجة له عليه السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق نعم ولا شك أيضاً في أن جميع الصحابة لولا رسول الله ﷺ ما حصلوا أيضاً على الدرج التي لهم فيها فإنما هي إذا على قولكم لرسول الله ﷺ كما قلتم ولا فرق وبقي الفضل والتقدم لهن كما كان في كل ذلك ولا فرق.
قال أبو محمد: وأما فضلهن على بنات النبي ﷺ فبين بنص القرآن لا شك فيه قال الله عز وجل " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول " فهذا بيان قاطع لا يسع أحداً جهله فإن عارضنا معارض بقول رسول الله ﷺ خير نسائها فاطمة بنت محمد قلنا له وبالله تعالى التوفيق في هذا الحديث بيان جلي لما قلنا وهو أنه عليه السلام لم يقل خير النساء فاطمة وإنما قال خير نسائها فخص ولم يعم وتفضيل الله عز وجل لنساء النبي ﷺ على النساء عموم لا خصوص لا يجوز أن يستثني منه أحد إلا من استثناه نص آخر فصح أنه عليه السلام إنما فضل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه ﷺ فاتفقت الآية مع الحديث وقال رسول الله ﷺ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فهذا أيضاً عموم موافق الآية ووجب أن يستثني ما خصه النبي ﷺ بقوله نسائها من هذا العموم فصح أن نساءه عليه السلام افضل النساء جملة حاشا اللواتي خصهن الله تعالى بالنبوة كأم إسحاق وأم موسى وأم عيسى عليهم السلام وقد نص الله تعالى على هذا بقوله الصادق " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " ولا خلاف بين المسلمين في أن جميع الأنبياء كل نبي منهم أفضل ممن ليس بنبي من سائر الناس ومن خالف هذا فقد كفر وكذلك أخبر عليه السلام فاطمة أنها سيدة نساء المؤمنين ولم يدخل نفسه ﷺ في هذه الجملة بل أخبر عمن سواه وبرهان آخر وهو قول الله تعالى مخاطباً لهن " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ".
قال أبو محمد: فهذا فضل ظاهر وبيان لائح في أنهن أفضل من جميع الصحابة رضي الله عنهم وبهذه الآية صحة متيقنة لا يمتري فيها مسلم فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة وسائر الصحابة رضي الله عنهم إذا عمل الواحد منهم عملاً يستحق عليه مقداراً ما من الأجر وعملت امرأة من نساء النبي ﷺ مثل ذلك العمل بعينه كان لها مثل ذلك المقدار من الأجر فإذا كان نصيف الصحابى وفاطمة رضي الله عنهم يفي بأكثر من مثل جبل أحد ذهباً ممن بعده كان للمرأة من نسائه عليه السلام في نصيفها أكثر من مثلي جبلين اثنين مثل جبل أحد ذهباً وهذه فضيلة ليست لأحد بعد الأنبياء عليهم السلام إلا هن وقد صح عن النبي ﷺ أنه يوعك كوعك رجلين من أصحابه لأن له على ذلك كفلين من الأجر.
قال أبو محمد: وليس بعد هذا بيان في فضلهن على كل أحد من الصحابة إلا من أعمى الله قلبه عن الحق ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وقد اعترض علينا بعض أصحابنا في هذا المكان بقول الله تعالى عن أهل الكتاب إذ آمنوا " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " قال فيلزم أنهم أفضل منا فقلت له أن هذه الآية والخبر الذي فيه ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر مؤمن أهل الكتاب والعبد الناصح ومعتق أمته ثم يتزوجها فيهما بيان الوجه الذي أجروا به مرتين وهو الإيمان بالنبي ﷺ وبالنبي الأول المبعوث بالكتاب الأول ونحن نؤمن بهذا كله كما آمنوا فنحن شركاء ذلك المؤمن منهم في ذينك الإيمانين وكذلك العبد الناصح يؤجر لطاعة سيده أجراً ولطاعة الله أجراً وكذلك معتق أمته ثم يتزوجها يؤجر على عتقه أجراً ثم على نكاحه إذا أراد به وجه الله تعالى أجراً ثانياً فصح بالنص يقيناً أن هؤلاء إنما يؤتون أجرهم مرتين في خاص من أعمالهم لا في جميع أعمالهم وليس في هذا ما يمنع من أن يؤجر غيرهم في غير هذه الأعمال أكثر من أجور هؤلاء وأيضاً فإنما يضاعف لهؤلاء على ما عمله أهل طبقتهم وليست المضاعفة لأجور نساء النبي ﷺ مرتين من هذا في ورد ولا صدر لأن المضاعفة لهن إنما هي في كل عمل عملنه بنص القرآن إذ يقول تعالى " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين " فكل عمل عمله صاحب من الصحابة له فيه أجر فلكل امرأة منهن في مثل ذلك العمل أجران والمضاعفة لهن إنما تكون على ما عمله طبقتهن من الصحابة قد علمنا أن بين عمل الصاحب وعمل غيره أعظم مما بين أحد ذهباً ونصف مد شعير فيقع لكل واحدة منهن مثلا ذلك مرتين وهذا لا يخفى على ذي حس سليم فبطلت المعارضة التي ذكرناها والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: واعترض علينا أيضاً بعض الناس في الحديث الذي فيه أن عائشة أحب الناس إليه ومن الرجال أبوها بأن قال قد صح عن النبي ﷺ أنه قال لأسامة بن زيد أن أباه أحب الناس إلي وأن هذا أحب الناس إلي بعده وصح أنه عليه السلام قال للأنصار أنكم أحب الناس إلي.
قال أبو محمد: وأما هذا اللفظ الذي في حديث أسامة بن زيد أنه أحب الناس إليه عليه السلام فقد روي من طريق حماد بن سلمة عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه وأما الذي فيه ذكر أسامة وزيد رضي الله عنهما فإنما رواه عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله عن أبيه وعمر بن حمزة هذا ضعيف والصحيح من هذا الخبر هو ما رواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي ﷺ بإسناد لا مغمز فيه فذكر فيه أنه عليه السلام قال يعني لزيد بن حارثة إيم الله إن كان لخليق بالإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وأن هذا من أحب الناس إلي بعده وهذا يقضي على حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه لأنه مختصر من حديث عبد الله بن دينار وبهذا ينتفي التعارض بين الروايتين عن أبن عمر وعن أنس وعمرو وإلا فليس أحدهما أولى من الآخر وأما حديث الأنصار فرووه كما ذكره هشام بن زيد عن أنس ورواه عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن رسول الله ﷺ أنه قال أنتم من أحب الناس إلي وهو حديث واحد وزيادة العدل مقبولة فصح بزيادة من في الحديث من طريق العدول أن الأنصار وزياداً وأسامة رضي الله عنهم من جملة قوم هم أحب الناس إلى رسول الله ﷺ وهذا حق لا يشك فيه لأنهم من أصحابه وأصحابه أحب الناس إليه بلا شك وليس هكذا جوابه في عائشة رضي الله عنها إذ سئل من أحب الناس إليك فقال عائشة فقيل من الرجال قال أبوها لأن هذا قطع على بيان ما سأل عنه السائل من معرفة من المنفرد البائن عن الناس بمحبته عليه السلام واعترض علينا بعض الأشعرية بأن قال أن الله تعالى يقول " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " فصح أن محبته عليه السلام لمن أحب ليس فضلاً لأنه قد أحب عمه وهو كافر.
قال أبو محمد: فقلنا أن هذه الآية ليست على ما ظن وإنما مراد الله تعالى " إنك لا تهدي من أحببت " أي أحببت هداه برهان ذلك قوله تعالى " ولكن الله يهدي من يشاء " أي من يشاء هداه وفرض على النبي ﷺ وعلينا أن نحب الهدى لكل كافر لا أن نحب الكافر وأيضاً فلو صح أن معنى الآية من أحببت كما ظن هذا المعترض لما كان علينا بذلك حجة لأن هذه آية مكية نزلت في أبي طالب ثم أنزل الله تعالى في المدينة " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " وأنزل الله تعالى في المدينة " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " وإن كان رسول الله ﷺ أحب أبا طالب فقد حرم الله تعالى عليه بعد ذلك ونهاه عن محبته وافترض عليه عداوته وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن العداوة والمحبة لا يجتمعان أصلاً والمودة هي المحبة في اللغة التي بها نزل القرآن بلا خلاف من أحد من أهل اللغة فقد بطل أن يحب النبي ﷺ أحداً غير مؤمن وقد صحت النصوص والإجماع على أن محبة رسول الله ﷺ لمن أحب فضيلة وذلك كقوله عليه السلام لعلي لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فإذ لا شك ولا خلاف في أن محبة رسول الله ﷺ بخلاف ما قال أهل الجهل والكذب فقد صح يقيناً أن كل من كان أتم حظاً في الفضيلة فهو أفضل ممن هو أقل حظاً في تلك الفضيلة هذا شيء يعلم ضرورة فإذا كانت عائشة أتم حظاً في المحبة التي هي أتم فضيلة فهي أفضل ممن حظه في ذلك أقل من حظها ولذلك لما قيل له عليه السلام من الرجال قال أبوها ثم عمر فكان ذلك موجباً لفضل أبي بكر ثم عمر في الفضل من أجل تقدمهما في المحبة عليهما وما نعلم نصاً في وجوب القول بتقديم ابن بكر ثم عمر على سائر الصحابة إلا هذا الخبر قال أبو محمد: وقد نص النبي ﷺ على ما ينكح له من النساء فذكر الحسب والمال والجمال والدين ونهي ﷺ عن كل ذلك بقوله فعليك بذات الدين تربت يداك فمن المحال الممتنع أن يكون يحض على نكاح النساء واختيارهن للدين فقط ثم يكون هو عليه السلام يخالف ذلك فيحب عائشة لغير الدين وكذلك قوله عليه السلام فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام لا يحل لمسلم أن يظن في ذلك شيئاً غير الفضل عند الله تعالى في الدين فوصف الرجل امرأته للرجال لا يرضه به إلا خسيس نذل ساقط ولا يحل لمن له أدنى مسكة من عقل أن يمر هذا بباله عن فاضل من الناس فكيف عن المقدس المطهر البائن فضله على جميع الناس ﷺ.
قال أبو محمد: ولولا أنه بلغنا عن بعض من يصدر لنشر العلم من زماننا وهو المهلب بن أبي صفرة التميمي صاحب عبد الله بن إبراهيم الأصيل أن أشار إلى هذا المعنى القبيح وصرح به ما انطلق لنا بالإيمان إليه لسان ولكن المنكر إذا ظهر وجب على المسلمين تغييره فرضاً على حسب طاقتهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: وكذلك عرض الملك لها رضي الله عنها على رسول الله ﷺ قبل ولادتها في سرقة من حرير يقول له هذه زوجتك فيقول عليه السلام إن يكن من عند الله قال أبو محمد: واعترض علينا مكي بن أبي طالب المقري بأن قال يلزم على هذا أن تكون امرأة أبي بكر أفضل من علي لأن امرأة أبي بكر أعلى من منزلة علي فهي أفضل من علي.
قال أبو محمد: فأجبناه بأن قلنا له وبالله تعالى نتأيد أن هذا الاعتراض ليس بشيء لوجوه أحدها أن ما بين درجة أبي بكر ودرجة علي في الفضل الموجب لعلو درجته في الجنة على درجة علي ليست من التباين بحيث هو ما بين درجة النبي ﷺ وبين درجة أبي بكر في الفضل الموجب لعلو درجته عليه السلام على درجات سائر الصحابة رضي الله عنهم بل قد أيقنا أن درجة أقل رجل منا في الفضل أقرب نسبة من أعلى درجة لأعلى رجل من الصحابة من نسبة درجة أفضل الصحابة إلى درجة النبي ﷺ وأيضاً فليس بين أبي بكر وعلي في المباينة في الفضل ما يوجب أن تكون امرأة أبي بكر التابعة له أفضل من علي بل منازل المهاجرين الأولين الذين أوذوا في سبيل الله عز وجل متقاربة وإن تفاضلت ثم كذلك أهل السوابق مشهداً مشهداً درجهم في الفضل ثم كذلك من أسلم بعد الفتح أيضاً ويزداد الأفضل فالأفضل من المشركين في المشاهد جزاء على ذلك فنقول أن امرأة أبي بكر المستحقة بعملها الكون معه في درجته مثل أم رومان لسنا ندري أهي أفضل أم علي لأنا لا نص معنا في ذلك والتفضيل لا يعرف إلا بنص وقد قال عليه السلام خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم أو كما قال عليه السلام فجعلهم طبقات في الخير والفضل فلا شك هم كذلك في الجزاء في الجنة وإلا فكان يكون الفضل لا معنى له وقال عز وجل " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " وأيضاً فلسنا نشك أن المهاجرات الأولات من نساء الصحابة رضي الله عنهم يشاركن الصحابة في الفضل ففاضلة ومفضولة وفاضل ومفضول ففيهن من يفضل كثيراً من الرجال وفي الرجال من يفضل كثيراً منهن وما ذكر الله تعالى منزلة من الفضل إلا وقرن النساء مع الرجال فيها كقوله تعالى " إن المسلمين والمسلمات " الآية حاشا الجهاد فإنه فرض على الرجال دون النساء ولسنا ننكر أن يكون لأبي بكر رضي الله عنه قصور ومنازل مقدمة على جميع الصحابة ثم يكون لمن لم تستأهل من نسائه تلك المنزلة منازل في الجنة دون منازل من هو أفضل منهن من الصحابة فقد نكح الصحابة رضي عنهم التابعيات بعد الصاحبات وعليهن فتكون تلك المنازل زائدة في فضل أزواجهن من الصحابة فينزلون إليهن ثم ينصرفون إلى منازلهن العالية بل قد صح هذا عن النبي ﷺ وأنه قال كلاماً معناه وأكثر نصه أنه عليه السلام زعيم بيت في ربض الجنة وفي وسط الجنة وفي أعلى الجنة لم فعل كذا أمراً وصفه رسول الله ﷺ فصح نص ما قلنا من أن لمن دونه عليه السلام منازل عالية وآخر مسفلة عن تلك المنازل ينزلون إليها ثم يصعدون إلى الأعالي وهذا معبد عن النبي ﷺ لوجهين أحدهما أن جميع نسائه عليه السلام لهن حق الصحبة التي يشتركن فيها جميع الصحابة ويفضلنهم فيها بقرب الخاصة فليس في نسائه عليه السلام ولا واحدة يفضلها بالصحبة التي هي فضيلتهم التي بها بانوا عمن سواهم فقط وقد كفينا الباب والوجه الثاني أن تأخر بعض الصحابة عن بعضهم في بعض الأماكن موجود وإن كان ذلك المتأخر في بعض الأماكن متقدماً في مكان آخر فقد علمنا أن بلالاً عذب في الله عز وجل ما لم يعذب علي وأن علياً قاتل ما لم يقاتل بلال وأن عثمان أنفق ما لم ينفق بلال ولا علي فيكون المفضول منهم في الجملة متقدماً للذي فضله في بعض فضائله ولا سبيل أن يوجد هذا فيما بينهم وبين النبي ﷺ ولا يجوز أن يتقدمه أحد من ولد آدم في شيء من الفضائل أولها عن آخرها ولا إلى أن يلحقه لاحق في شيء من الفضائل من بني آدم فلا سبيل إلى أن ينسفل النبي ﷺ إلى درجة يوازيه فيها صاحب من الصحابة فكيف أن يعلو عليه الصاحب هذا أمر تقشعر منه جلود المؤمنين وقد استعظم أبو أيوب رضي الله عنه أن يسكن في غرفة على بيت يسكنه النبي ﷺ فكيف يظن بأن هذا يكون في دار الجزاء فإذا كان العالي من الصحابة في أكثر منازله ينسفل أيضاً في بعضها عن صاحب آخر قد علاه في منازل أخر على قدر تفاضلهم في أعمالهم كما ذكرنا آنفاً فقد أخبر النبي ﷺ أن الصائمين يدعون من باب الريان وأن المجاهدين يدعون من باب الجهاد وأن المتصدقين يدعون من باب الصدقة وأن أبا بكر يرجو له رسول الله ﷺ أن يدعي من جميع تلك الأبواب وقد يجوز أن يفضل أبا بكر رضي الله عنه غيره من الصحابة في بعض تلك الوجوه ممن انفرد بباب منها ولا يجوز أن يفضل أحد رسول الله ﷺ في شيء من أبواب البر فبطل هذا الاعتراض جملة والحمد لله رب العالمين واعترض أيضاً علينا مكي بن أبي طالب بأن قال إذا كان رسول الله ﷺ أفضل من موسى عليه السلام ومن كل واحد من الأنبياء عليهم السلام وكان عليه السلام أعلى درجة في الجنة من جميع الأنبياء عليهم السلام وكان نساؤه عليه السلام معه في درجته في الجنة فدرجتهن فيها أعلى من درجة موسى عليه السلام ومن درج سائر الأنبياء عليهم السلام فهن على هذا الحكم أفضل من موسى وسائر الأنبياء عليهم السلام.
قال أبو محمد: فأجبناه بأن هذا الاعتراض أيضاً لا يلزمنا ولله الحمد لأن الجنة دار ملك وطاعة وعلو منزلة ورياسة واتباع من التابع للمتبوع كما قال عز وجل " وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً " وقال تعالى عن موسى عليه السلام " وكان عند الله وجيهاً " وأخبر عز وجل عن جبريل ﷺ " فقال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فقد علمنا أن ملك الدنيا غرور وأن ملك الآخرة هو الحقيقة وقد أخبر عليه السلام أنه رأى الأنبياء عليهم السلام مع اتباعهم فالنبي معه الواحد والاثنان والثلاثة والنفر والجماعة فأخبر عز وجل أن هنالك الملك الكبير والطاعة والوجاهة والاتباع والاستئمار وإنما عرض الله تعالى علينا في الدنيا من الملك طرفاً لنعلم به مقدار الملك الذي في دار الجزاء كما عرض علينا من اللذات والحرير والديباج والخمر والذهب والفضة والمسك والجواري والحلي وأعلمنا أن هذا كله خالصة لنا هنالك وكما صح عن النبي ﷺ أن آخر من يدخل الجنة يزكو على أعظم ملك عرفه في الدنيا فيتمنى مثل ملكه فيعطيه الله تعالى مثل الدنيا عشر مرات.
قال أبو محمد: فلما صح ما ذكرنا وكانت الملائكة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها وكانت طبقة المرسلين النبيين طبقة واحدة والنبيون غير المرسلون طبقة واحدة لأنهم أيضاً يتفاضلون فيها وكل الصحابة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها فوجب بلا شك أن لا يكون اتباع الرسل من النساء والأصحاب كالمتبوعين الذين هم الرسل لأن بالضرورة نعلم أن تابع الأعلى ليس لاحقاً نظير متبوعه فكيف أن يكون أعلى منه كما أن التابعيات من نساء الصحابة رضي الله عنهم لا يلحقن نظراء أزواجهن من الصحابة إذ ليس هن معهم في طبقة وإنما ينظر بين أهل كل طبقة ومن هو في طبقته ونساء النبي ﷺ طبقة واحدة مع الصحابة فصح التفاضل بينهم وليس واحدة منهن ولا منهم مع الأنبياء في طبقة فلم يجزان ينظر بينهم وقد أخبر عليه السلام أنه رأى ليلة الإسراء الأنبياء عليهم السلام في السموات سماء سماء وبالضرورة نعلم أن منزلة النبي الذي هو متبوع في سماء الدنيا أمره هناك مطاع أعلى من منزلة التابع في السماء السابعة للنبي الذي هناك وإذ صح عن النبي ﷺ أن كل نبي يأتي مع أمته فنحن مع نبينا ﷺ فإن كان ما ألزمناه مكي لازماً لنا فيلزمه مثل ذلك فينا أيضاً أن نكون أفضل من الأنبياء وهذا غير لازم لما ذكرنا من أنه لا ينظر في الفضل إلا بين من كان من أهل طبقة واحدة فمن كان منهم أعلى منزلة من الآخر كان أفضل منه بلا شك وليس ذلك في الطباق المختلفة ألا ترى أن كون مالك خازن النار في مكان غير مكان خازن الجنة وغير مكان جبرائيل لا تحط درجته عن درجة من في الجنة من الناس الذين الملائكة جملة أفضل منهم لأن مالكا متبوع للنار ومقدم مطاع مفضل بذلك على التابعين والخدمة في الجنة بلا شك فبطل هذا الشغب ويجمع هذا الجواب باختصار وهو أن الرؤساء والمتبوعين في كل طبقة في الجنة أعلى من التابعين لهم ونساء النبي ﷺ وأصحابه كلهم أتباع له عليه السلام وجميع الأنبياء متبوعون فإنما ينظر بين المتبوعين أيهم أفضل وينظر بين الأتباع أيهم أفضل ويعلم الفضل بعلو درجة كل فاضل من دونه في الفضل ولا يجوز أن ينظر بين الأتباع والمتبوعين لأن المتبوعين لا يكونون البتة أحط درجة من التابعين وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل فكيف يقولون في الحور العين أهن أفضل من الناس ومن الأنبياء كما قلتم في الملائكة.
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الفضل لا يعرف إلا ببرهان مسموع من الله تعالى في القرآن أو من كلام الرسول ﷺ ولم نجد الله تعالى نص على فضل الحور العين كما نص على فضل الملائكة وإنما نص على أنهن مطهرات حسان عرب أتراب يجامعن ويشاركن أزواجهن في اللذات كلها وأنهن خلقن ليلتذ بهن المؤمنون فإذا الأمر هكذا فإنما محل الحور العين محل من هن له فقط إن ذلك اختصاص لهن بلا عمل وتكليف فهن خلاف الملائكة في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومما يؤكد قولنا قول الله تعالى أن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون وهذا النص إذ قد صح فقد وجب الإقرار به فلو عجزنا عن تفضيل بعض أقسام هذه الاعتراضات لما ألزمنا في ذلك نقصاً إذ لا يجوز الاعتراض على هذا النص وكلما صح بيقين فلا يجوز أن يعارض بيقين آخر والبرهان لا ببطله برهان وقد أوضحنا أن الجنة دار جزاء على أعمال المكلفين فأعلاهم درجة أعلاهم فضلاً ونساء النبي ﷺ أعلا درجة في الجنة من جميع الصحابة فهن أفضل منهن فمن أبي هذا فليخبرنا ما معنى الفضل عنده إذ لا بد أن يكون لهذه الكلمة معنى فإن قال لا معنى لها فقد كفانا مؤنته وإن قال إن لها معنى سألناه ما هو فإنه لا يجد غير ما قلنا وبالله تعالى التوفيق فكيف وقد أبينا بتأييد الله عز وجل لنا على كلما اعترض علينا به في هذا الباب ولاح الوجه في ذلك بيناً والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: واستدركنا بياناً زائداً في قول النبي ﷺ في أن فاطمة سيدة نساء المؤمنين أو نساء هذه الأمة فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الواجب مراعاة ألفاظ الحديث وإنما ذكر عليه السلام في هذا الحديث السادة ولم يذكر الفضل وذكر عليه السلام في حديث عائشة الفضل نصاً بقوله عليه السلام " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
قال أبو محمد: والسادة غير الفضل ولا شك أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء العالمين بولادة النبي ﷺ لها فالسادة من باب الشرف لا من باب الفضل فلا تعارض بين الحديثين والحمد لله رب العالمين وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما وهو حجة في اللغة العربية كان أبو بكر خيراً وأفضل من معاوية وكان معاوية أسود من أبي بكر ففرق ابن عمر بين السادة والفضل والخير وقد علمنا أن الفضل هو الخير نفسه لأن الشيء إذا كان خيراً من شيء آخر فهو أفضل منه بلا شك.
قال أبو محمد: وقد قال قائل ممن يخالفنا في هذا قال الله عز وجل " وليس الذكر كالانثى " فقلنا وبالله تعالى التوفيق فأنت إذا عند نفسك أفضل من مريم وعائشة وفاطمة لأنك ذكر وهؤلاء أناث فإن قال هذا الحق بالنوكي وكفر فإن سئل عن معنى الآية قيل له الآية على ظاهرها ولا شك في أن الذكر ليس كالأنثى لأنه لو كان كالأنثى لكان أنثى والأنثى أيضاً ليست كالذكر لأن هذه أنثى وهذا ذكر وليس هذا من الفضل في شيء البتة وكذلك الحمرة غير الخضرة والخضرة ليست كالحمرة وليس هذا من باب الفضل فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل " وللرجال عليهن درجة " قيل له إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي وكل مجوسي وكل فاسق من الرجال أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام ومن نساء النبي ﷺ وبناته وهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة وكذلك قوله تعالى " أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " إنما ذلك في تقصيرهم في الأغلب عن المحاجة لقلة ذريتهم وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن فإن اعترض معترض فقال الذي أمرنا بطاعتهم من خلفاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل من نساء النبي ﷺ بقوله تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا خطأ من جهات إحداها أن نساء النبي ﷺ من جملة أولي الأمر منا الذين أمرنا بطاعتهم فيما بلغن إلينا عن النبي ﷺ كالأئمة من الصحابة سواء ولا فرق والوجه الثاني أن الخلافة ليست من قبل فضل الواحد في دينه فقط وجبت لمن وجبت له وكذلك الإمارة لأن الإمارة قد تجوز لمن غيره أفضل منه وقد كان عمر رضي الله عنه مأموراً بطاعة عمرو بن العاص إذ أمره رسول الله ﷺ في غزوة ذات السلاسل فبطل أن تكون الطاعة إنما تجب للأفضل وقد أمر النبي ﷺ عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيراً ولم يؤمر أبا ذر وأبو ذر أفضل خير منهما بلا شك وأيضاً فإنما وجبت طاعة الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم في أوامرهم مذ ولوا لا قبل ذلك ولا خلاف في أن الولاية لم تزدهم فضلاً على ما كانوا عليه وإنما زادهم فضلاً عدلهم في الولاية لا الولاية نفسها وعدلهم داخل في جملة أعمالهم التي يستحقون الفضل بها ألا ترى أن معاوية والحسن إذ وليا كانت طاعتهما واجبة على سعد بن أبي وقاص وسعد أفضل منهما ببون بعيد جداً وهو حي معهما مأمور بطاعتهما وكذلك القول في جابر وأنس بن مالك وابن عمر رضي الله عنهم في وجوب طاعة عبد الملك بن مروان والذي بين جابر وأنس وابن عمر وبين عبد الملك في الفضل كالذي بين النور والظلمة فليس في وجوب طاعة الولاة ما يوجب لهم فضلاً في الجنة فإن اعترض معترض بقول الله تعالى " والذين أمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين " فبيان اعتراضه ظاهر في آخر الآية وهو أن إلحاق الذرية بالأباء لا يقتضي كونهم معهم في درجة ولا هذا مفهوم من نص الآية بل إنما فيها إلحاقهم بهم فيما ساووهم فيه بنص الآية ثم بين تعالى ذلك ولم يدعنا في شك بقوله " كل امرئ بما كسب رهين " فصح أن كل واحد من الأباء والأبناء يجازى حسب ما كسب فقط وليس حكم الأزواج كذلك بل أزواج النبي ﷺ معه في قصوره وعلى سرره ملتذ بهن ومعهن جزاء لهن بما عملن من الخير وبصبرهن واختيارهن الله تعالى ورسوله ﷺ والدار الآخرة وهذه منزلة لا يحلها أحد بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فهن أفضل من كل واحد دون الأنبياء عليهم السلام فإن شغب مشغب بقول رسول الله ﷺ ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل من إحداكن قلنا له وبالله تعالى التوفيق إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول أنك أتم عقلاً وديناً من مريم وأم موسى وأم إسحاق ومن عائشة وفاطمة فإن تمادى على هذا سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر وإن قال لا سقط اعتراضه واعترف بأن من الرجال من هو أنقص ديناً وعقلاً من كثير من النساء فإن سأل عن معنى هذا الحديث.
قيل له قد بين رسول الله ﷺ وجه ذلك النقص وهو كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم ديناً وعقلاً غير الوجوه التي ذكر النبي ﷺ لا يقول إلا حقاً فصح يقيناً أنه إنما عبر عليه السلام ما قد بينه في الحديث نفسه من الشهادة والحيض فقط وليس ذلك مما ينقص الفضل فقد علمنا أن أبا بكر وعمر وعلياً لو شهدوا في زنا لم يحكم بشهادتهم ولو شهد به أربعة منا عدول في الظاهر حكم بشهادتهم وليس ذلك بموجب أننا أفضل من هؤلاء المذكورين وكذلك القول في شهادة النساء فليست الشهادة من باب التفاضل في ورد ولا صدر لكن يقفا فيها عند ما حده النص فقط ولا شك عند كل مسلم في أن صواحبه من نسائه وبناته عليهم السلام كخديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة أفضل ديناً ومنزلة عند الله تعالى من كل تابع أتى بعدهن ومن كل رجل يأتي في هذه الأمة إلى يوم القيامة فبطل الاعتراض بالحديث المذكور وصح أنه على ما فسرناه وبيناه والحمد لله رب العالمين.
وأيضاً فقول الله تعالى " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء مخرج لهن عن سائر النساء في كل ما اعترض به معترض مما ذكرناه وشبهه.
قال أبو محمد: فإن اعترض معترض بقول النبي ﷺ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وامرأة فرعون فإن هذا الكمال إنما هو الرسالة والنبوة التي انفرد بها الرجال وشاركهم بعض النساء في النبوة وقد يتفاضلون أيضاً فيها فيكون بعض الأنبياء أكمل من بعض ويكون بعض الرسل أكمل من بعض قال الله عز وجل " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " فإنما ذكر في هذا الخبر من بلغ غاية الكمال في طبقته ولم يتقدمه منهم أحد وبالله تعالى التوفيق فإن اعترض معترض بقوله عليه السلام لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة فلا حجة له في ذلك لأنه ليس امتناع الولاية فيهن بموجب لهن نقص الفضل فقد علمنا أن ابن مسعود وبلال وزيد ابن حارثة رضي الله عنهم لم يكن لهم حظ في الخلافة وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك ومنهم في الفضل ما لا يجهله المسلم.
قال أبو محمد: وأما أفضل نسائه فعائشة وخديجة رضي الله عنهما لعظم فضائلهما وإخباره عليه السلام أن عائشة أحب الناس إليه وأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وقد ذكر عليه السلام خديجة بنت خويلد فقال أفضل نسائها مريم بنت عمران وأفضل نسائها خديجة بنت خويلد مع سابقة خديجة في الإسلام وثباتها رضي الله عنها ولأم سلمة وسودة وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وحفصة سوابق في الإسلام عظيمة وأحمال للمشقات في الله عز وجل ورسوله ﷺ والهجرة والغربة عن الوطن والدعاء إلى الإسلام والبلاء في الله عز وجل ورسوله ﷺ ولكلهن بعد ذلك الفضل المبين رضوان الله عليهن أجمعين.
قال أبو محمد: وهذه مسألة نقطع فيها على أننا المحققون عند الله عز وجل وأن من خالفنا فيها مخطئ عند الله عز وجل بلا شك وليست مما يسع الشك فيه أصلاً.
قال أبو محمد: فإن قال قائل هل قال هذا أحد قبلكم قلنا له وبالله تعالى التوفيق وهل قال غير هذا أحد من قبل يخالفنا الآن وقد علمنا ضرورة أن لنساء النبي ﷺ منزلة من الفضل بلا شك فلا بد من البحث عنها فليقل مخالفنا في أي منزلة نضعهن أبعد جميع الصحابة كلهم فهذا ما لا يقوله أحد أم بعد طائفة منهم فعليه الدليل وهذا ما لا سبيل له إلى وجوده وإذ قد بطل هذان القولان أحدهما بالإجماع على أنه باطل والثاني لأنه دعوى لا دليل عليها ولا برهان فلم يبق إلا قولنا والحمد لله رب العالمين الموفق للصواب بفضله ثم نقول وبالله تعالى نستعين قد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس حين ولي بعد موت رسول الله ﷺ فقال أيها الناس إني وليتكم ولست بخيركم فقد صح عنه رضي الله عنه أنه أعلن بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم أنه ليس بخيرهم ولم ينكر هذا القول منهم أحد فدل على متابعتهم له ولا خلاف أنه ليس في أحد من الحاضرين لخطبته إنسان يقول فيه أحد من الناس أنه خير من أبي بكر إلا علي وابن مسعود وعمرو أما جمهور الحاضرين من مخالفينا في هذه المسألة من أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والخوارج فإنهم لا يختلفون في أن أبا بكر أفضل من علي وعمر وابن مسعود وخير منهم فصح أنه لم يبق إلا أزواج النبي ﷺ فإن قال قائل إنما قال أبو بكر هذا تواضعاً قلنا له هذا هو الباطل المتيقن لأن الصديق الذي سماه رسول الله ﷺ بهذا الاسم لا يجوز أن يكذب وحاشا له من ذلك ولا يقول إلا الحق والصدق فصح أن الصحابة متفقون في الأغلب على تصديقه في ذلك فإذ ذلك كذلك وسقط بالبرهان الواضح أن يكون أحد من الصحابة رضي الله عنهم خيراً من أبي بكر لم يبق إلا أزواج النبي ﷺ ونساؤه ووضح أننا لو قلنا أنه إجماع من جمهور الصحابة لم يبعد من الصدق.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن يوسف بن عبد الله النمري حدثنا قال حدثنا خلف بن قاسم ثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي الكندي حدثنا محمد بن العباس البغدادي ثنا إبراهيم ابن محمد البصري ثنا أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني قال كان عمار بن ياسر والحسن ابن علي يفضلان علي بن أبي طالب على أبي بكر الصديق وعمر حدثنا أحمد بن محمد الخوزي ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري أن علي بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد فخطبهم عمار وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم إني أقول لكم ووالله إني لأعلم أنها زوجة رسول الله ﷺ في الجنة كما هي زوجته في الدنيا ولكن الله ابتلاكم بها لتطيعوها أو لتطيعوه فقال له مسروق أو أبو الأسود يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له فسكت عمار وقال له الحسن اعن نفسك عنا فهذا عمار والحسن وكل من حضر من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والكوفة يؤمئذٍ مملؤة منهم يسمعون تفضيل عائشة على علي وهو عند عمار والحسن أفضل من أبي بكر وعمر فلا ينكرون ذلك ولا يعترضونه أحوج ما كانوا إلى إنكاره فصح أنهم متفقون على أنها وأزواجه عليه السلام أفضل من كل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ومما نبين أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقل وليتكم ولست بخيركم إلا محقاً صادقاً لا تواضعاً يقول فيه الباطل وحاشا له من ذلك ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي قال حدثنا أحمد بن محمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت الرفي أنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البران ثنا عبد الملك ابن سعد ثنا عقبة بن خالد ثنا شعبة بن الحجاج ثنا الحريري عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ألست أحق الناس بها أو لست أول من أسلم ألست صاحب كداء.
قال أبو محمد: فهذا أبو بكر رضي الله عنه يذكر فضائل نفسه إذ كان صادقاً فيها فلو كان أفضلهم لصرح به وما كتمه وقد نزهه الله تعالى عن الكذب فصح قولنا نصاً والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ثم وجب القول فيمن هو أفضل الصحابة بعد نساء النبي ﷺ فلم نجد لمن فضل ابن مسعود أو عمر أو جعفر بن أبي طالب أو أبا سلمة أو الثلاثة إلا سهليين على جميع الصحابة حجة يعتمد عليها ووجدنا من يوقف لم يزد على أنه لم يلح له البرهان أنهم أفضل ولو لاح له ل قال به ووجدنا العدد والمعارضة في القائلين بأن علياً أفضل أكثر فوجب أن أتى بما شغبوا به ليلوح الحق في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً والجهاد افضل الأعمال.
قال أبو محمد: هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله عز وجل باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير والثالث الجهاد باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد في اللسان لا يلحق فيه أحد بعد رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحابة رضي الله عنهم أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله تعالى بمكة جهراً وجاهد المشركين بمكة بيديه فضرب وضرب حتى ملوه فتركوه فعبد الله تعالى علانية وهذا أعظم الجهاد فقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين الذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا أصلاً وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر وبقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله ﷺ لا شك عند كل مسلم أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده عليه السلام إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله ﷺ الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان عليه السلام أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويداً وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأفعال فقدمه عليه السلام ويشتغل به ووجدناه عليه السلام يوم بدر وغيره كان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثاراً من رسول الله ﷺ له بذلك واستظهاراً برأيه في الحرب وأنساً بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك أيضاً وقد انفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا علياً رضي الله عنه لم ينفرد بالنسوق فيه بل قد شاركه في ذلك غيره شركة العنان كطلحة والزبير وسعد وممن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سعد ابن معاذ وسماك ابن خرسة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله ﷺ وموازرته في حين الحرب وقد بعثهما رسول الله ﷺ على البعوث أكثر مما بعث علياً وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثاً إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه وقد بعث قبله أبا بكر وعمر فلم يفتحاه فحصل أربع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا علياً في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم.
قال أبو محمد: واحتج أيضاً من قال بأن علياً كان أكثرهم علماً.
قال أبو محمد: كذب هذا القائل وإنما يعرف علم الصحابي لأحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي ﷺ له فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي ﷺ من لا علم له وهذه أكبر شهادات على الهلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي ﷺ قد ولي أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعلي وعمرو ابن مسعود وأبي وغيرهم فآثره بذلك على جميعهم وهذا خلاف استخلافه عليه السلام إذا غزا لأن المستخلف في الفزوة لم يستخلف إلى على النساء وذو الأعذار فقط فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم الناس بالصلاة وشرايعها وأعلم المذكورين بها وهي عمود الدين ووجدناه ﷺ قد استعمله علىالصدقات فوجب ضرورة أن عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل وربما كان أكثر إذ قد استعمل عليه السلام أيضاً عليها غيره وهو عليه السلام لا يستعمل إلا عالماً بما استعمله عليه والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة وبرهان ما قلنا من تمام علم أبي بكر رضي الله عنه بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العلم به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر وأما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه فوجدناه عليه السلام قد استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج وهذه دعايم الإسلام ثم وجدناه عليه السلام قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله ﷺ على البعوث في الجهاد إذ لا يستعمل عليه السلام على العمل إلا عالماً به فعند أبي بكر من الجهاد من العلم به كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أكثر ولا أقل فإذ قد صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في علم الصلاة والزكاة والحج وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم ثم وجدناه عليه السلام قد ألزم نفسه في جلوسه ومآمرته وظعنه وإقامته أبا بكر مشاعد أحكامه عليه السالم وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة أنه أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المتقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين وأما الرواية والفتوى فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله ﷺ إلا سنتين وستة أشهر ولم يفارق المدينة غلا حاجاً أو معتمراً ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله ﷺ لأن كل من حواليه أدركوا النبي ﷺ وعلى ذلك كله فقد روي عنه عن النبي ﷺ مائة حديث واثنان وأربعون حدثناً مسندة ولم يرو عن علي إلا خمس مائة وست وثمانون حديثناً مسندة يصح منها نحو خمسين وقد عاش بعد رسول الله ﷺ أزيد من ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى عنده لذهاب جمهور الصحابة رضي الله عنهم وكثر سماع أهل الأفاق منه مرة بصفين وأعواماً بالكوفة ومرة بالبصرة والمدينة فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقري على البلاد بلداً بلداً وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديث من عدد حديث وفتاوي من فتاوي علم كل ذي حظ من العلم إن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه وبرهان ذلك أن من عمر من أصحاب رسول الله ﷺ عمراً قليلاً قل النقل عنهم ومن طال عمره منهم كثر النقل عنهم إلا اليسير من اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس وقد عاش علي بعد عمر بن الخطاب سبعة عشر عاماً غير أشهر ومسند عمر خمسماية حديث وسبعة وثلاثون حديثاً يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء بسواء فكلما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعين حديثاً في هذه المدة الطويلة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديثناً أو حديثين وفتاوي عمر موازنة لفتاوي علي في أبواب الفقه فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديثاً إلى حديث وفتاوي إلى فتاوي علم كل ذي حس علماً ضرورياً أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي من العلم ثم وجدنا الأمر كل ما طال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلثماية مسند وأربع وسبعين مسنداً ووجدنا مسند بن عمر وأنس قريباً من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس لك واحد منهما أزيد من ألف وخمسماية ووجدنا لابن مسعود ثمان ماية مسند ونيف ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوي أكثر من فتاوي علي أو نحوها فبطل قول هذه الوقاح الجهال فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحيا لاح كذبه وجهله فإنا غير مهتمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعه فوق مرتبته لأننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج وقد نزهنا الله عز وجل عن هذا الضلال في التعصب ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الأفك في التعصب فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالين فيهم هم المتهمون فيه إما له وإما عليه وبعد هذا كله وليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي ﷺ وبمن استعمله منهم على ما استعمله عليه من أمور الدين فإن قالوا إن رسول الله ﷺ قد استعمل علياً على الأخماس وعلى القضا باليمن قلنا لهم نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لا قضية رسول الله ﷺ أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن وقد استعمل رسول الله ﷺ أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالماً بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله ﷺ وهو عليه السلام يعلم ذلك ومحال ذلك أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما وقد استعمل عليه السلام أيضاً على القضاء باليمن مع علي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم انفرد أبو بكر بالجهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا.
و قال هذا القائل أن علينا كان إقرا الصحابة.
قال أبو محمد: وهذه القحة المتجردة والبهتان لوجوه أولها أنه رد على رسول الله ﷺ لأنه عليه السلام قال يوم القوم اقرؤهم فإن استووا فافقهم فإن استووا فأقدمهم هجرة ثم وجدناه عليه السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فياه وعلي بالحضرة يراه النبي ﷺ غدوة وعشية فما رأى لها عليه السلام أحداً أحق من أبي بكر بها فصح أنه كان اقرؤهم وأفقهم وأقدمهم هجرة وقد يكون من لم يجمع حفظ القرآن كله على ظهر قلب اقرأ ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلاً هذا على أن أبا بكر وعمر وعلي لم يستكمل أحد منهم حفظ سوار القرآن كله ظاهراً إلا أنه قد وجب يقيناً بتقديم النبي ﷺ لأبي بكر على الصلة وعلي حاضر إن أبا بكر أقرأ من علي وما كان النبي ﷺ ليقدم إلى الإمامة الأقل علماً بالقراة على الأقرأ أو الأقل فقهاً قال أبو محمد: كذب هذا الأفك ولقد كان علي رضي الله عنه تقياً إلى أن الفاضل بتفاضل فيها أهلها وما كان أتقاهم لله إلا أبا بكر والبرهان على ذلك أنه لم يسوء قط أبو بكر رسول الله ﷺ في كلمة ولا خالف إرادته عليه السلام في شيء قط ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الائتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد وقد تظلم رسول الله ﷺ على المنبر إذ أراد علي نكاح ابنة أبي جهل بما قد عرف وما وجدنا قط لأبي بكر توقفاً عن شيء أمر به رسول الله ﷺ إلا مرة واحدة عذره فيها رسول الله ﷺ وأجاز له فعله وهي إذ أتى رسول الله ﷺ من قبا فوجده يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر تأخر فأشار إليه النبي ﷺ أن أقم مكانك فحمد الله تعالى أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف وتقدم رسول الله ﷺ فصلى بالناس فلما سلم قال له رسول الله ﷺ ما منعك أن تثبت حين أمرتك فقال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله ﷺ وما أنكر عليه السلام ذلك عليه وإذ قد صح بالبرهان الضروري الذي ذكرنا أن أبا بكر أعلم أصحاب رسول الله ﷺ فقد وجب أنه أخشاهم لله عز وجل قال الله عز وجل " إنما يخشى الله من عباده العلماء " والتقي هو الخشية لله عز وجل وقال قائلون علي كان أزهدهم.
قال أبو محمد: كذب هذا الجاهل وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو غروب النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية ليس الزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فأما غروب النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألف درهم فأنفقها كلها في ذات الله تعالى وعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز وجل ولم يعتق عبيداً جلداً يمنعونه لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل حتى هاجر مع رسول الله ﷺ ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة ألف درهم حملها كلها مع رسول الله ﷺ ولم يبق لبنيه منها درهم ثم أنفقها كلها في سبيل الله عز وجل حتى لم يبق له شيء في عبادة له قد خللها بعود إذا نزل افترشها وإذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة رضي الله عن جميعهم واقتنوا الرباع الواسعة والضياع العظيمة من حلها وحقها إلا أن من آثر بذلك سبيل الله عز وجل أزهد ممن أنفق وأمسك ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من شهامة في المغازي والمقاسم مع رسول الله ﷺ فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله ﷺ وتوسع من سواهم من الصحابة رضي الله عنهم في المباح الذي أحله الله عز وجل لهم إلا أن من أثر على نفسه فضل ولولا أن أبا ذر لم يكن له سابقة غيره لما تقدمه إلا من كان مثله فهذا هو الزهد في المال واللذات ولقد تلا أبو بكر عمر رضي الله عنهما في هذا الزهد فكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد وتوفي عن أربعة وعشرين ولداً من ذكر وأنثى وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم وماسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ومن جملة عقاره التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمراً سوى زرعها فأين هذا من هذا وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضل في الإسلام ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي ﷺ صحبة قديمة وهجرة سابقة وفضل ظاهر فما استعمل أبو بكر رضي الله عنه منهم أحداً على شيء من الجهات وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة استعمالها وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطايف ومكة وخيبر وسائر أعمال الحجاز ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلاً ولكن خشي المحاباة ويوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى ثم جرى عمر على مجراه في ذلك فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحداً على سعة البلاد وكثرتها وقد فتح الشام ومصر وجميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع عزله وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من اتخاذ قريش لأن بني عدي لم يبق منهم أحد بمكة إلا هاجر وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذوي السوابق وأبي الجهم ابن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وابنه عبد الله بن عمر ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو صاحب من الصحابة ولا استعمل عمر ابنه عبد الملك على الخلافة وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم وقد رضي له الناس وكان لذلك أهلاً ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل ووجدنا علياً رضي الله عنه إذ ولي قد استعمل أقاربه عبد الملك بن عباس على البصرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وخثعم ومعبدا ابني العباس على مكة والمدينة وجعدة بن نميرة وهو ابن أخته أم هاني بنت أبي طالب على خراسان ومحمد بن أبي بكر وهو ابن امرأته وأخو ولده على مصر ورضي ببيعة الناس للحسن ابنه بالخلافة ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ولا استحقاق عبد الله بن العباس للخلافة فكيف أمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه وفي تأمير مثل طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد فلا شك في أنه أتم زهد أو أعرب عن جميع معاني الدنيا نفساً ممن أخذه منها أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أزهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده وقال هذا القائل وكان علي أكثرهم صدقة.
قال أبو محمد: وهذه مجاهرة بالباطل لأنه لم يحفظ لعلي مشاركة ظاهرة بالمال وأما أمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق ماله في سبيل الله عز وجل فأشهر من أن تخفى على اليهود والنصارى فكيف على المسلمين ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا المعنى من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة وغنا في الإسلام بماله من علي رضي الله عنه وقالوا علي هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد قط وثنا.
قال أبو محمد: أما السابقة فلم يقل قط أحد يعتد به أن علياًمات وله أكثر من ثلاث وستين سنة ومات بلا شك سنة أربعين من الهجرة فصح أنه كان حين هاجر النبي ﷺ ابن ثلاث وعشرين سنة وكانت مدة النبي ﷺ بمكة في النبوة ثلاث عشرة سنة فبعث عليه السلام ولعلي عشرة أعوام فإسلام ابن عشرة أعوام ودعاؤه إليه إنما هو كتدريب المرء ولده الصغير على الدين لا أن عنده غناء ولا أن عليه إثماً إن أبى فإن أخذ الأمر على قول من قال أن علياً مات وله ثمان وخمسون سنة فإنه كان إذ بعث النبي ﷺ ابن خمسة أعوام وكان إسلام ابي بكر ابن ثمان وثلاثين سنة وهو الإسلام المأمور به من عند الله عز وجل وأما من لم يبلغ الحلم فغير مكلف ولا مخاطب فسابقة أبي بكر وعمر بلا شك أسبق من سابقة علي.
وأما عمر فإنه كان إسلامه تأخر بعد البعث بستة أعوام فإن عناءه كان أكثر من عناء أكثر من أسلم قبله ولم يبلغ على حد التكليف إلا بعد أعوام من مبعث النبي ﷺ وبعد أن أسلم كثير من الصحابة رجال ونساء بعد أن عذبوا في الله تعالى ولقوا فيه الألاقي وأما كونه لم يعبد وثناً فنحن وكل مولود في الإسلام لم يعبد قط وثناً وعمار والمقداد وسلمان وأبو ذر وحمزة وجعفر رضي الله عنهم قد عبدوا الأوثان أفترانا أفضل منهم من أجل ذلك معاذ الله من هذا فإنه لا يقوله مسلم فبطل أن يكون هذا يوجب لعلي فضلاً زائداً وإلا لكانت عائشة سابقة لعلي رضي الله عنهما في هذا الفضل لأنها كانت إذ هاجر النبي ﷺ بنت ثماني سنين وأشهر ولم تولد إلا بعد إسلام أبيها بسنين وعلي ولد وأبوه عابد وثن قبل مبعث النبي ﷺ بسنين وعبد الله بن عمر أيضاً أسلم أبوه وله أربع سنين لم يعبد قط وثناً فهو شريك لعلي في هذه الفضيلة.
و قال بعضهم علي كان أسوسهم.
قال أبو محمد: وهذا باطل لا خفاء به على مؤمن ولا كافر فقد دري القريب والبعيد والعالم والجاهل والمؤمن والكافر من سائر الإسلام إذ كفر من كفر من أهل الأرض بعد موت النبي ﷺ وأذعن الجميع للبقية وقبول ما ادعت إليه العرب حاشا أبا بكر فهل ثبت أحد ثبات أبي بكر على كلب العدو وشدة الخوف حتى دخلوا في الإسلام أفواجاً كما خرجوا منه أفواجاً وأعطوا الزكاة طائعين وكارهين ولم تهله جموعهم ولا تضافرهم ولا قلة أهل الإسلام حتى أنار الله الإسلام وأظهره ثم هل ناطح كسرى وقيصر على أسرة ملكها حتى أخضع حدود فارس والروم وصرع حدودهم ونكس راياتهم وظهر الإسلام في أقطار الأرض وذل الكفر وأهله وشبع جائع المسلمين وعز ذليلهم واستغنى فقيرهم وصاروا إخوة لا اختلاف بينهم وقرؤوا القرآن وتفقهوا في الدين إلا أبو بكر ثم ثنى عمر ثم ثلث عثمان ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله وافتراق كلمة المؤمنين وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف وشكت بعضهم قلوب بعض بالرماح وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية أو يذعر لهم سرب أو يجاهد منهم أحد حتى ارتجع أهل الكفر كثيراً مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة فأين سياسة من سياسة.
قال أبو محمد: فإذ قد بطل كلما ادعاه هؤلاء الجهال ولم يحصلوا إلا على دعاوي ظاهرة الكذب لا دليل على صحة شيء منها وصح بالبرهان كما أوردنا أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى والسبق المبرز والحظ الأسنى في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة فهذه وجوه الفضل كلها فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي ﷺ.
قال أبو محمد: ولم يحتج عليهم بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا نصدق أحاديثهم وإنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل الكواف فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت النبي ﷺ يقيناً فكيف والنص على خلافته صحيح وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه فوجبت إمامة عمر فرضاً بما ذكرنا وبإجماع أهل الإسلام عليهما دون خلاف من أحد قطعاً ثم أجمعت الأمة كلها أيضاً بلا خلاف من أحد منهم على صحة إمامة عثمان والدينونة بها وأما خلافة علي فحق لا بنص ولا بإجماع لكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه.
قال أبو محمد: ومن فضائل أبي بكر المشهورة قوله عز وجل " إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله ﷺ في أنه خصه باسم الصحبة له وبأنه ثانيه في الغار وأعظم من ذلك كله أن الله معهما وهذا ما لا يلحقه فيه أحد.
قال أبو محمد: فاعترض في هذا بعض أهل القحة فقال قد قال الله عز وجل " وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًااً " قال وقد حزن أبو بكر فنهاه رسول الله ﷺ عن ذلك فلو كان حزنه رضا لله عز وجل لما نهاه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وهذه مجاهره بالباطل أما قوله تعالى في الآية لصاحبه وهو يحاوره قد أخبر الله تعالى بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر وبأنهما مختلفان فإنما سماه صاحبه في المجاورة والمجالسة فقط كما قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيباً فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب فليس هكذا قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا بل جعله صاحبه في الدين والهجرة وفي الإخراج وفي الغار وفي نصرة الله تعالى لهما وإخافة الكفار لهما وفي كونه تعالى معهما فهذه الصحبة غاية الفضل وتلك الأخرى غاية النقص بنص القرآن.
وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله ﷺ كان غاية الرضا لله لأنه كان إشفاقاً على رسول الله ﷺ ولذلك كان الله معه وهو تعالى لا يكون مع العصاة بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله ﷺ عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيباً عليه لكان ذلك على محمد وموسى رسول الله ﷺ عيباً لأن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " ثم قال تعالى عن السحرة أنهم قالوا لموسى " قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى " فهذا رسول الله ﷺ وكليمه قد كان أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليه وأن موسى ومن اتبعه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عز وجل إليه لا تخف فهذا أمر أشد من أمر أبي بكر وإذا لزم ما يقول هؤلاء الفساق أبا بكر وحاشا لله أن يلزمه من أن حزنه لو كان رضا لما نهاه رسول الله ﷺ لزم أشد منه لموسى عليه السلام وأن إيجاسه الخيفة في نفسه لو كان رضا لله تعالى ما نهاه الله تعالى عنه ومعاذ الله من هذا بل إيجاس موسى الخيفة في نفسه لم يكن إلا نسيان الوعد المتقدم وحزن أبي بكر رضي الله عنه رضاً لله تعالى قبل أن ينهى عنه ولم يكن تقدم إليه نهي عن الحزن وأما محمد ﷺ فإن الله عز وجل قال " ومن كفر فلا يحزنك كفره " وقال تعالى " ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق " وقال تعالى " ولا يحزنك قولهم أن العزة لله جميعاً " وقال تعالى " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " وقال تعالى " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " ووجدناه عز وجل قد قال " ولقد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون " وقاله أيضاً في الأنعام فهذا الله تعالى أخبرنا أنه يعلم أن رسول الله ﷺ يحزنه الذي يقولون ونهاه عز وجل عن ذلك نصاً فيلزمهم في حزن رسول الله ﷺ الذي نهاه الله تعالى عنه كالذي أرادوا في حزن أبي بكر سواء سواء ونعم إن حزن رسول الله ﷺ بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه الله عز وجل وما حزن عليه السلام بعد أن نهاه ربه تعالى عن الحزن كما كان حزن أبي بكر طاعة لله عز وجل قبل أن ينهاه الله عز وجل عن الحزن وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه عليه السلام عن الحزن فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يمئذ لكن نهاه عليه السلام عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه عليه السلام " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " فنهاه عن أن يطيعهم ولم تكن منه طاعة لهم وهذا إنما يعترض به أهل الجهل والسخافة ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ برآءة من أبي بكر وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقرائتها عليهم.
قال أبو محمد: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه ولا يقفون إلا بوقوفه ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك وسورة برآءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره في أمر الغار وخروجه مع النبي ﷺ وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: إلا أن تراجع الروافض إلى إنكار القرآن والنقص منه والزيادة فيه فهذا أمر يظهر فيه قحتهم وجهلهم وسخفهم إلى كل عالم وجاهل فإنه لا يمتري كافر ولا مؤمن في أن هذا الذي بين اللوحين من الكتاب هو الذي أتى به محمد ﷺ وأخبرنا بأنه أوحاه الله تعالى إليه فمن تعرض هذا فقد أقر بعين عدوه.
قال أبو محمد: وما يعترض إمامة أبي بكر إلا زار علي رسول الله ﷺ راد لأمره في تقديمه أبا بكر إلى الصلاة بأهل الإسلام مريد لإزالته عن مقام أقامه فيه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: ولسنا من كذبهم في تأويلهم " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " وإن المراد بذلك علي رضي الله عنه بل هذا لا يصح بل الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك.
قال أبو محمد: فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي ﷺ بالبراهين المذكورة وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة كقول رسول الله ﷺ في أبي بكر دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت وقوله ﷺ لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وهذا الذي لا يصح غيره وأما أخوة علي فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف ومنها أمره ﷺ بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر وهذا هو الذي لا يصح غيره ومنها غضبه ﷺ على من خارج أبا بكر وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة ومنها قوله ﷺ إن أمن الناس علي في ماله أبو بكر وعمدتنا في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة بعد نساء النبي ﷺ هو قول رسول الله ﷺ إذ سئل من أحب الناس إليك يا رسول الله قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها قيل ثم من يا رسول الله قال عمر.
قال أبو محمد: فقطعنا بهذا ثم وقفنا ولو زادنا رسول الله ﷺ بياناً لزدنا لكنا لا نقول في شيء من الدين إلا بما جاء به النص.
قال أبو محمد: واختلف الناس فيمن أفضل أعثمان أم علي رضي الله عنهما.
قال أبو محمد: والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نخطئ من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من علي والله أعلم لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر فكان عثمان اقرء وكان أكثر فتيا ورواية ولعلي أيضاً حظ قوي في القراءة ولعثمان أيضاً حظ قوي في الفتيا والرواية ولعلي مقامات عظيمة في الجهاد بنفسه ولعثمان مثل ذلك بماله ثم انفرد عثمان بأن رسول الله ﷺ بايع ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان وله هجرتان وسابقة قديمة وصهر مكرم محمود ولم يحضر بدراً فألحقه الله عز وجل فيهم بأجره التام وسهمه فألحقه بمن حضرها فهو معدود فيهم ثم كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة لم تكن لعلي وسيرة في الإسلام هادية ولم يتسبب بسفك دم مسلم وجاءت فيه آثار صحاح وأن الملائكة تستحي منه وأنه ومن أتبعه على الحق والذي صح من فضائل علي فهو قول النبي ﷺ أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله عليه السلام لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذه صفة واجبة لكل مؤمن وفاضل وعهده عليه السلام أن علياً لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقد صح مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر وأما من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طريق الثقات أصلاً وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها.
قال أبو محمد: ونقول تفضل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب قطعاً إلا أننا لا نقطع بفضل أحد منهم على صاحبه كعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وعلي وجعفر وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وسعد وزيد بن حارثة وأبي عبيدة وبلال وسعيد بن زيد وعمار بن ياسر وأبي سلمة وعبد الله بن جحش وغيرهم من نظرائهم ثم بعد هؤلاء أهل العقبة ثم أهل بدر ثم أهل المشاهد كلها مشهداً مشهداً فأهل كل مشهد أفضل من أهل المشهد الذي بعده حتى بلغ الأمر إلى الحديبية فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإننا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ماتوا على الإيمان والهدى والبر وكلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى " والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم " وكقوله عز وجل " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا " قال أبو محمد: فمن أخبرنا أن الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة ولقول رسول الله ﷺ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر ولإخباره عليه السلام أنه لا يدخل النار أحد شهد بدراً ثم نقطع على أن كل من صحب رسول الله ﷺ بنية صادقة ولو ساعة فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح وذلك لقول الله عز وجل " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " وقال تعالى " وعد الله لا يخلف الله وعده " وقال تعالى " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ " فصح بالضرورة أن كل من أنفق قبل الفتح وقاتل فهو مقطوع على غيبه لتفضيل الله تعالى إياهم والله تعالى لا يفضل إلا مؤمناً فاضلاً وأما من أنفق بعد الفتح وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله ﷺ فكيف نحن قال الله تعالى " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ".
قال أبو محمد: فلهذا لم نقطع على كل امرئ منهم بعينه لكن نقول كل من لم يكن منهم من المنافقين فهو من أهل الجنة يقيناً لأنه قد وعدهم تعالى الحسنى كلهم وأخبر أنه لا يخلف وعده وإن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها ولا يحزنه الفزع الأكبر وهو فيما اشتهى خالد وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: لقد خاب وخسر من رد قول ربه عز وجل أنه رضي عن المبايعين تحت الشجرة وعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وعمار والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة والخوارج والروافض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البرئة منهم خلافاً لله عز وجل وعناداً له ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: فهذا قولنا في الصحابة رضي الله عنهم فأما التابعون ومن بعدهم فلا نقطع على غيبهم واحداً واحداً إلا من بان منه احتمال المشقة في الصبر للدين ورفض الدنيا لغير غرض استعجله إلا أننا لا ندري على ما ذا مات وإن بلغنا الغاية في تعظيمهم وتوقيرهم والدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان لهم لكن نتولاهم جملة قطعاً ونتولى كل إنسان منهم بظاهره ولا نقطع على أحد منهم بجنة ولا نار لكن نرجو لهم ونخاف عليهم إذ لا نص في إنسان منهم بعينه ولا يحل الإخبار عن الله عز وجل إلا بنص من عنده لكن نقول كما قال رسول الله ﷺ خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم ومعنى هذا الحديث إنما هو كل قرن من هذه القرون التي ذكر عليه السلام أكثر فضلاً بالجملة من القرن الذي بعده لا يجوز غير هذا البتة وبرهان ذلك أنه قد كان في عصر التابعين من هوا أفسق الفاسقين كمسلم بن عقبة المري وحبيش بن دلحة القيني والحجاج بن يوسف الثقفي وقتلة عثمان وقتلة ابن الزبير وقتلة الحسين رضي الله عنهم ولعن قتلتهم ومن بعثهم فمن خالفنا قولنا في هذا الخبر لزمه أن يقول أن هؤلاء الفساق الأخابث أفضل من كل فاضل في القرن الثالث ومن بعده كسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومسعر بن كدام وشعبة ومنصور بن المعتمر ومالك والأوزاعي والليث وسفيان بن عيينة ووكيع وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وداود بن علي رضي الله عنهم وهذا ما لا يقوله أحد وما يبعد أن يكون في زماننا وفيمن يأتي بعدنا من هو أفضل رجل من التابعين عند الله عز وجل إذ لم يأت في المنع من ذلك نص ولا دليل أصلاً والحديث المأثور في أويس القرني لا يصح لأن مداره على اسيد بن جابر وليس بالقوى وقد ذكر شعبة أنه سأل عمرو بن مرة وهو كوفي قرني مرادي من أشرف مراد وأعلمهم بهم عن اويس القرني فلم يعرفه في قومه وأما الصحابة رضي الله عنهم فبخلاف هذا ولا سبيل إلى أن يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذهب بعض الروافض إلى أن لذوي قرابة رسول الله ﷺ فضلاً بالقرابة فقط واحتج بقول الله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض " وبقوله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " وبقوله تعالى " وأبعث فيهم رسولاً منهم ".
قال أبو محمد: وهذا كله لا حجة فيه أما إخباره تعالى بأنه اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يعني كل مؤمن فقد قال ذلك بعض العلماء أو يعني مؤمني أهل بيت إبراهيم وعمران لا يجوز غير هذا لأن آزر ولد إبراهيم عليه السلام كان كافراً هدواً لله لم يصطفه الله تعالى إلا لدخول النار فإن أراد الوجه الذي ذكرنا لم نمانعه ولا ننازعه في أن موسى وهارون من آل عمران وآل إسماعيل وإسحاق ويوسف ويعقوب من آل إبراهيم مصطفون على العالمين فأي حجة هاهنا لبني هاشم فإن ذكروا الدعاء المأمور به وهو اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد فالقول في هذا كما قلنا ولا فرق وهذا دعاء لكل مؤمن وقد قال تعالى " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " وقال رسول الله ﷺ اللهم صل على آل أبي أو في هذا الدعاء لهم بالصلاة على كل مؤمن ومؤمنة بلا خلاف وكذلك الدعاء في التشهد المفترض في كل صلاة من قول المصطفى السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهذا السلام على كل مؤمن ومؤمنة فاستوى بنوا هاشم وغيرهم في اطلاق الدعاء بالصلاة عليهم وبالسلام عليهم ولا فرق وقال تعالى " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " فوجبت صلوات الله تعالى على كل مؤمن صابر فاستوى في هذا كله بنوا هاشم وقريش والعرب والعجم من كان جميعهم بهذه الصفة وأيضاً فيلزم من احتج بقوله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " أن يقول إن من أسلم من الهارونيين من اليهود أفضل من بني هاشم وأشرف وأولى بالتقديم لأنه من آل عمران ومن آل إبراهيم وفيهم ورد النص.
قال أبو محمد: فصح يقيناً أن الله عز جل إنما أراد بذلك الأنبياء عليهم السلام فقط وبين هذا بياناً جلياً قول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين من ذرية إبراهيم عليه السلام الظالمين من ذرية غيره وقال عز وجل إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا فخص الله تعالى بولاية إبراهيم عليه السلام من اتبع إبراهيم كائناً من كان فدخل في هذا كل مؤمن ومؤمنة ولا فضل وأما قول الله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " فهذا حق على ظاهره وإنما أراد عليه السلام من قريش أن يودوه لقرابته منهم ولا يختلف أحد من الأمة في أنه عليه السلام لم يرد قط من المسلمين أن يودوا أبا لهب وهو عمه ولا شك في أنه عليه السلام أراد من المسلمين مودة بلال وعمار وصهيب وسلمان وسالم مولي أبي حذيفة وأما قوله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام " وابعث فيهم رسولاً منهم " فقد قال عز وجل " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " وقال تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " فاستوت الأمم كلها في هذه الدعوة بأن يبعث فيهم رسولاً منهم ممن هم قومه فإن احتج محتج بالحديث الثابت الذي فيه أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فمعناه ظاهر وهو أنه تعالى اختار كونه عليه السلام من بني هاشم وكون بني هاشم من قريش وكون قريش من كنانة وكون كنانة من بني إسماعيل كما اصطفى أن يكون موسى من بني لاوي وأن يكون بنوا لاوي من بني إسحاق عليه السلام وكل نبي من عشيرته التي هو منها ولا يجوز غير هذا البتة ونسأل من أراد حمل هذا الحديث على غير هذا المعنى أيدخل أحد من بني هاشم أو من قريش أو من كنانة أو من إسماعيل النار أم لا فإن أنكروا هذا كفروا وخالفوا الإجماع والقرآن والسنن وقد قال عليه السلام أبي وأبوك في النار وإن أبا طالب في النار وجاء القرآن بأن أبا لهب في النار وسائر كفار قريش في النار كذلك قال الله تعالى " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ " فإذا أقر بأنه قد يدخل النار منهم من يستحق أن يدخلها صحت المساواة بينهم وبين سائر الناس.
قال أبو محمد: ويكذب هذا الظن الفاسد قول رسول الله ﷺ يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً وأبين من هذا كله قول الله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقوله تعالى " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم " وقوله تعالى " واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً " وقال تعالى وذكر عاداً وثموداً وقوم نوح وقوم لوط ثم قال " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ " فصح ضرورة أنه لا ينتفع أحد بقرابته من رسول الله صلى الله عليه ولا من نبي من الأنبياء والرسل عليهم السلام ولو أن النبي ابنه أو أبوه وأمه نبية وقد نص الله تعالى في ابن نوح ووالد إبراهيم وعم محمد على رسل الله الصلاة والسلام ما فيه الكفاية وقد نص الله تعالى على أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا فصح ضرورة أن بلال وصهبا والمقداد وعمار وسالماً وسلمان أفضل من العباس وبنيه عبد الله والفضل وقم ومعبد وعبيد الله وعقيل بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعهم بشهادة الله تعالى فإذ هذا لا شك فيه ولا جزاء في الآخرة إلا على عمل ولا ينتفع عند الله تعالى بالأرحام ولا بالولادات وليست الدنيا دار جزاء فلا فرق بين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وحبشي وابن زنجية والكرم والفوز لمن اتقى الله عز وجل حدثنا محمد بن سعيد بن بيان أنبأنا أحمد بن عبد الله البصير حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا عبد السلام ابن الخثن حدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الرحمن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حسان بن فايد العبسي قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً رضي الله عنهم
قال أبو محمد: اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة أن علياً كان المصيب في حربه وكل من خالفه على خطاء وقالواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل وطوائف من المعتزلة أن علياً مصيب في قتاله معاوية وأهل النهر ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل وقالوا إحدى الطائفتين مخطئة ولا نعرف أيهما هي وقالت الخوارج علي المصيب في قتاله أهل الجمل وأهل صفين وهو مخطئ في قتاله أهل النهر وذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجمهور الصحابة إلى الوقوف في علي وأهل الجمل وأهل صفين وبه يقول جمهور أهل السنة وأبو بكر بن كيسان وذهب جماعة من الصحابة وخيار التابعين وطوائف ممن بعدهم إلى تصويب محاربي علي من أصحاب الجمل وأصحاب صفين وهم الحاضرون لقتاله في اليومين المذكورين وقد أشار إلى هذا أيضاً أبو بكر بن كيسان.
قال أبو محمد: أما الخوارج فقد أوضحنا خطاؤهم وخطاء أسلافهم فيما سلف من كتابنا هذا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم علي الحكمين فسنتكلم في ذلك إن شاء الله تعالى كما تكلمنا في سائر أحكامهم والحمد لله رب العالمين وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناظرته بأكثر من أن نبين له وجه الحق حتى يراه وذكروا أيضاً أحاديث في ترك القتال في الاختلاف سنذكر لكم جملتها إن شاء الله تعالى فلم يبق إلا الطائفة المصوبة لعلي في جميع حروبه والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الجمل وأهل صفين.
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى تصويب محاربي علي يوم الجمل ويوم صفين بأن قال إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً فالطلب بأخذ القود من قاتليه فرض قال عز وجل " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " وقال تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " قالوا ومن آوى الظالمين فهو إما مشارك لهم وإما ضعيف عن أخذ الحق منهم قالوا وكلا الأمرين حجة في إسقاط إمامته على من فعل ذلك ووجوب حربه قالوا وما أنكروا على عثمان إلا أقل من هذا من جواز إنفاذ أشياء بغير علمه فقد ينفذ مثلها سراً ولا يعلمها أحد إلا بعد ظهورها قالوا وحتى لو أن كل ما أنكر على عثمان يصح ما حل بذلك قتله بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام لأنهم إنما أنكروا عليه استيثاراً بشيء يسير من فضلات الأموال لم يجب لأحد بعينه فمنعها وتولية أقاربه فلما شكو إليه عزلهم وأقام الحد على من استحقه وأنه صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ونفي رسول الله ﷺ للحكم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة وأنه ضرب عمارا خمسة أسواط ونفي أبا ذر إلى الربذة وهذا كله لا يبيح الدم قالوا وايوآء على المحدثين أعظم الأحداث من سفك الدم الحرام في حرم رسول الله ﷺ لا سيما دم الإمام وصاحب رسول الله ﷺ أعظم والمنع من غنفاذ الحق عليهم أشد من كل ما ذكرنا بلا شك قالوا وامتناع معاوية من بيعة علي كامتناع علي من بيعة أبي بكر فما حاربه أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكر أقدر على علي من علي على معاوية ومعاوية في تأخره عن بيعة علي أعذر وأفسح م قال اً من علي في تأخره عن بيعة أبي بكر لأن علياً لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه وما تابعه فيهم إلا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك وأيضاً فإن بيعة علي لم تكن على عهد من النبي ﷺ كما كانت بيعة أبي بكر ولا عن إجماع من الأمة كما كانت بيعة عثمان ولا عن عهد من خليفة واجب الطاعة كما كانت بيعة عمر ولا بسوق بائن في الفضل على غيره لا يختلف ولا عن شورى فالقاعدون عنها بلا شك ومعاوية من جملتهم أعذر من علي في قعوده عن بيعة أبي بكر ستة أشهر حتى رآى البصيرة وراجع الحق عليه في ذلك قالوا فإن قلتم خفي على علي نص رسول الله ﷺ على أبي بكر قلنا لكم لم يخف عليه بلا شك تقديم رسول الله ﷺ أبا بكر إلى الصلاة وأمر علياً بأن يصلي ورآه في جماعة المسلمين فتأخره عن بيعة أبي بكر سعي منه في حطه عن مكان جعله رسول الله ﷺ حقاً لأبي بكر وسعي منه في فسخ نص رسول الله ﷺ على تقديمه إلى الصلاة وهذا أشد من رد إنسان نفاه رسول الله ﷺ لذنب ثم تاب منه وأيضاً فإن علياً قد تاب واعترف بالخطأ لأنه إذا بايع أبو بكر بعد ستة أشهر تأخر فيها عن بيعته لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون مصيباً في تأخره فقد أخطأ إذ بايع أو يكون مصيباً في بيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها قالوا والممتنعون من بيعة علي لم يعترفوا قط بالخطأ على أنفسهم في تأخرهم عن بيعته قالوا فإن كان فعلهم خطأ فهو أخف من الخطأ في تأخر علي عن بيعة أبي بكر وإن كان فعلهم صواباً فقد برئوا من الخطأ جملة قالوا والبون بين طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي خفي جداً فقد كانوا في الشورى معه لا يبدو له فضل شفوق عليهم ولا على واحد منهم وأما البون بين علي وأبي بكر أبين وأظهر فهم من امتناعهم عن بيعته أعذر لخفاء التفاضل قالوا وهلا فعل علي في قتلة عثمان كما فعل بقتلة عبد الله بن خباب بن الارت فإن القصتين استويا في التحريم فالمصيبة في قتل عثمان في الإسلام وعند الله عز وجل وعلى المسلمين أعظم جرماً وأوسع خرقاً وأشنع إثماً وأهول فيقاً من المصيبة في قتل عبد الله بن خباب قالوا وفعله في طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجة من تأول على علي أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد.
قال أبو محمد: هذا كلما يمكن أن تحتج به هذه الطائفة قد تقصيناه ونحن إن شاء الله تعالى متكلمون على ما ذهبت إليه كل طائفة من هذه الطوائف حتى يلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى وتأييده.
قال أبو محمد: نبدء بعون الله عز وجل بإنكار الخوارج للتحكيم. قال أبو محمد: قالوا حكم على الرجال في دين الله تعالى والله عز وجل قد حرم ذلك بقوله " إن الحكم إلا لله " وبقوله تعالى " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ".
قال أبو محمد: ما حكم علي رضي الله عنه قط رجلاً في دين الله وحاشاه من ذلك وإنما حكم كلام الله عز وجل كما افترض الله تعالى عليه وإنما اتفق القوم كلهم إذ رفعت المصاحف على الرماح وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عز وجل في القرآن وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره لأن الله تعالى يقول " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرو رضي الله عنهما ليكون كل واحد منهما مدلياً بحجة من قدمه وليكونا متخاصمين عن الطائفتين ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن الذي لا يفهم لغط العسكرين أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم فصح يقيناً لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن وهذا الذي لا يجوز غيره ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعراباً قرؤا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمر ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل ولا أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سليمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند اقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم وأنهم أنكروا ما قام البرهان الذي أوردنا بأنه حق ولو لم يكن من جهلهم لأقرب عهدهم بخير الأنصار يوم السقيفة وإذعانهم رضي الله عنهم مع جميع المهاجرين لوجب الأمر في قريش دون الأنصار وغيرهم وأن عهدهم بذلك قريب منذ خمسة وعشرين عاماً وأشهر وجمهورهم أدرك ذلك بسنة وثبت عند جميعهم كثبات أمر النبي ﷺ ولا فرق لأن الذين نقلوا إليهم أمر رسول الله ﷺ ونقلوا إليهم القرآن والشرائع فدانوا بكل ذلك هم بأعيانهم لا زيادة فيهم ولا نقص نقلوا إليهم خبرة السقيفة ورجوع الأنصار إلى أن الأمر لا يكون إلا في قريش وهم يقرون ويقرؤن قوله تعالى " لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " وقوله تعالى " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً " الآية وقوله تعالى " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا " ثم أعماهم الشيطان وضلهم الله تعالى على علم فحلوا بيعة مثل علي واعرضوا عن مثل سعيد بن زيد وابن عمر وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل واعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ووعدهم الله الحسنى وتركوا من يقرون بأن الله تعالى عز وجل علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ورضي عنهم وبايعوا الله وتركوا جميع الصحابة وهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد المبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود المثني عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل الذين غاظ الله بهم الكفار المقطوع على أن باطنهم في الخير كظاهرهم لأن الله عز وجل شهد بذلك فلم يبايعوا أحداً منهم وبايعوا شيث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي ﷺ حتى تداركه الله عز وجل ففر عنهم وتبين لهم ضلالتهم فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط فمن أضل ممن هذه سيرته واختياره ولكن حق لمن كان أحداً يمينه ذو خويصرة الذي بلغه ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله ﷺ في حكمه والاستدراك ورأى نفسه أورع من رسول الله ﷺ هذا وهو يقر أنه رسول الله ﷺ إليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ولولاه لكان حماراً أو أضل ونعوذ بالله من الخذلان وأما الطائفة المصوبة للقاعدين فإن من لم يلح له الحق منهم فإنما يكلم حتى يبين له الحق فيلزمه المصير إليه فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا قبل في إيجاب الإمامة وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض وإذ ذلك كذلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإمام فرض واجب وقد ذكرنا وجوب الايتمام بالإمام فإذ هذا كله كما ذكرنا فإذ مات عثمان رضي الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام ياتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام فإذ بادر علي فبايعه واحد من المسلمين فصاعداً فهو إمام قائم ففرض طاعته لا سيما ولم يتقدم ببيعته بيعة ولم ينازعه الإمامة أحد ما فهذا أوضح وواجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم أمرته للمؤمنين فهو الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى كما لو سبقت بيعة طلحة أو الزبير أو سعد أو سعيد أو من يستحق الإمامة لكانت أيضاً بيعة حق لازمة لعلي ولغيره ولا فرق فعلي مصيب في الدعاء إلى نفسه وإلى الدخول تحت أمامته وهذا برهان لا محيد عنه وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا شك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الاراغة والتدبير عليهم فبينوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شن الحرب وإضرامه فكلتي الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله ﷺ فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة فهكذا كان الأمر وكذلك كان قتل عثمان رضي الله عنه إنما حاصره المصريون ومن لف لفهم يديرونه عن إسلام مروان إليهم وهو رضي الله عنه يأبى من ذلك ويعلم أنه إن أسلمه قتل دون تثبت فهو على ذلك وجماعات من الصحابة فهم الحسن والحسين أبناء علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم في نحو سبعماية من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه وينفلتون إلى القتال فيردعهم تثبتاً إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم الأنصاري جاره غيلة فقتلوه ولا خبر من ذلك عند أحد لعن الله من قتله والراضين بقتله فما رضي أحد منهم قط بقتله ولا علموا أنه يراد قتله لأنه لم يأت منه شيء يبيح الدم والحرام وأما قوله من قال أنه رضي الله عنه أقام مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت وأفك موضوع وتوليد من لا حياء في وجهه بل قتل عشية ودفن من ليلته رضي الله عنه شهد دفنه طائفة من الصحابة وهم جبير بن مطعم وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وجماعة غيرهم هذا مما لا يتمادى فيه أحد ممن له علم بالأخبار ولقد أمر رسول الله ﷺ برمي أجساد قتلا الكفار من قريش يوم بدر في القليب وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة وهم شر من وارته الأرض فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلاً ميتاً ملقى بين أظهرهم على مزبلة لا يوارونه ولا نبالي مؤمناً كان أو كافراً ولكن الله يأبى إلا أن يفضح الكذابين بألسنتهم ولو فعل هذا علي لكانت جرحة لأنه لا يخلو أن يكون عثمان كافراً أو فاسقاً أو مؤمناً فإن كان كافراً أو فاسقاً عنده فقد كان فرضاً على علي أن يفسخ أحكامه في المسلمين فإذا لم يفعل فقد صح أنه كان مؤمناً عنده فكيف يجوز أن ينسب ذو حياء إلى علي أنه ترك مؤمناًمطروحاً ميتاً على مزبلة لا يأمر بمواراته أم كيف يجوز أن يظن به أنه أنفذ أحكام كافراً أو فاسق على أهل الإسلام ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة.
قال أبو محمد: ومن البرهان على صحة ما قلناه أن من الجهل الفاضح أن يظن ظان أن علياً رضي الله عنه بلغ من التناقض في أحكامه وإتباع الهوى في دينه والجهل أن يترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت ورافع بن خديج ومحمد بن مسلمة وكعب بن مالك وسائر الصحابة الذين لم يبايعوه فلا يجهزهم علياً وهم معه في المدينة وغيرها نعم والخوارج وهم يصيحون في نواحي المسجد بأعلا أصواتهم بحضرته وهو على المنبر في مسجد الكوفة لا حكم إلا الله لا حكم إلا الله فيقول لهم رضي الله عنه لكم علينا ثلاث لا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم حقكم من الفيء ولا نبدؤكم بقتال ولم يبدءوهم بحرب حتى قتلوا عبد الله بن خباب ثم لم يقاتلهم بعد ذلك حتى دعاهم إلى أن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب فلما قالوا كلنا قتله قاتلهم حينئذ ثم يظن به مع هذا كله أنه يقاتل أهل الجهل لامتناعهم من بيعته هذا أفك ظاهر وجنون مختلف وكذب بحت بلا شك.
قال أبو محمد: وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله ﷺ عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له كبر كبر وروى الكبر الكبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كان أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله ﷺ أن لهم أجراً واحداً وللعصيب أجرين ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء وفي الفروج والأنساب والأموال والشرائع التي يدان الله بها من تحريم وتحليل وإيجاب ويعذر المخطئين في ذلك ويرى ذلك مباحاً لليث والبتي وأبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وداوود وإسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزني وغيرهم فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل أو عمل عمل قوم لوط وغير هذا كثير وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكر أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها وغير هذا كثير وكذلك في الشرائع والأوامر والأنساب وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم والاجتهاد كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم وإنما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون وفي المفتيين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل الحر بالعبد وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر وفيهم من لا يراه فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا الجهل والعمى والتخليط بغير علم وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس ذلك بموثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وإن له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً وأيضاً في الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه أخبر عن ماوقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولي الطائفتين بالحق فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج من أصحاب علي وأصحاب معاوية فقتلهم علي وأصحابه فصح أنهم أولي الطائفتين بالحق وأيضاً الخبر الصحيح عن رسول الله ﷺ تقتل عمارا الفئة الباغية.
قال أبو محمد: المجتهد المخطي إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصداً الله تعالى نيته غير عالم بأنه مخطئ فهو فئة باغية وإن كان مأجوراً ولا حد عليه إذا ترك القتال ولا قود وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا محارب تلزمه المحاربة والقود وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطي وبيان ذلك قول الله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " إلى قوله " إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم " فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية وقد سماهم الله عز وجل مؤمنين باعين بعضهم أخوة بعض في حين تقاتلهم وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم ولم يصفهم عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا بنقص إيمان وإنما هم مخطئون فقط باغون ولا يريد واحد منهم قتل آخر وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار ابن سبع السلمي شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطي فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحداً ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد احصان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم قال أبو محمد: فإذ قد بطل هذا الأمر وصح أن علياً هو صاحب الحق فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هو بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو وهكذا نقول فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن وكذلك إن كانت معاً باغيتين فقتالهما واجب لأن كلام الله عز وجل لا يعارض كلام نبيه ﷺ لأنه كله من عند الله عز وجل قال الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى " وقال عز وجل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح يقيناً أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فهو وحي من عند الله عز وجل وإذ هو كذلك فليس شيء مما عند الله تعالى مختلفاً والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه.
قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم إن أخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه المحاربين لله تعالى ولرسوله ﷺ الساعين في الأرض بالفساد والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والإمامة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة فنعم وما خالفهم قط علي في ذلك ولا في البرآءة منهم ولكنهم كانوا عدداً ضخماً جماً لا طاقة له عليهم فقد سقط عن علي رضي الله عنه ما لا يستطيع عليه كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق قال الله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وقال رسول الله ﷺ إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ولو أن معاوية بايع علياً لقوي به على أخذ الحق من قتلة عثمان فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذه على قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته وأما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبي بكر فليس في الخطأ أسوة وعلي قد است قال ورجع وبايع بعد يسير فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من أجل الفرقة وأما تقارب ما بين علي وطلحة والزبير وسعد فنعم ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق والخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عز وجل سوآء كان هنالك من هو مثله أو أفضل كما سبقت بيعة عثمان فوجبت طاعته وإمامته على غيره ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي أو طلحة أو الزبير أو عبد الرحمن أو سعد لكان الإمام وللزمت عثمان طاعته ولا فرق فصح أن علياً هو صاحب الحق والإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع إذا استبان له وربما لم يستبن له حتى يموت عليه وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وهو المسئول العصمة والهداية لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: فطلب علي حقه فقاتل عليه وقد كان تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما فكان له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله ﷺ إذ قال ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من أمتي فغبطه رسول الله ﷺ بذلك ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء ولا لوم عليه بل هو مصيب في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في إمامة المفضول
قال أبو محمد: ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من العتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه.
قال أبو محمد: وأما الرافضة فقالوا إن الإمام واحد معروف بعينه في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم الذي قد تقدم إفسادنا لها والحمد لله رب العالمين وما نعلم لمن قال أن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد حجة أصلاً لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح وقد قال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني أبا عبيدة وعمر وأبو بكر أفضل منهما بلا شك فما قال أحد من المسلمين أنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفي المسلمين عدد كثير كلهم أفضل منه بلا شك فصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضي الله عنهم على جواز إمامة المفضول ثم عهدهم عمر رضي الله عنه إلى ستة رجال ولا بد أن لبعضهم على بعض فضلاً وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته وفي هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول ثم مات علي رضي الله عنه فبويع الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل بيقين لا شك فيه إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإجماع بآرائهم الفاسدة بلا دليل ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: والعجب كله كيف يجتمع قول الباقلاني أنه لا تجوز الإمامة لمن غيره من الناس أفضل منه وهو قد جوز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه فإنه صرح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمناني الأعمى قاضي الموصل بأنه جائز أن يكون في الأمة من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حين بعث إلى أن مات.
قال أبو محمد: ما في خذلان الله عز وجل أحق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترنتا والحمد لله على الإسلام فإن قال قائل كيف تحتجون هنا بقول الأنصار رضي الله عنهم في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص من رسول الله ﷺ وكيف تحتجون في هذا أيضاً بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذين وخلافة أبي بكر عندكم نص من رسول الله ﷺ فمن أين له أن يترك ما نص عليه رسول الله ﷺ قلنا وبالله تعالى التوفيق إن فعل الأنصار رضي الله عنهم انتظم حكمين أحدهما تقديم من ليس قرشياً وهذا خطأ وقد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية والثاني جواز تقديم من غيره أفضل منه وهذا صواب وافقهم عليه أبو بكر وغيره فصار إجماعاً فقامت به الحجة وليس خطأ من أخطأ في قول وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب أن لا يحتج بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق وهذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق وأما أمر أبي بكر فإن الحق كله له بالنص وللمرء أن يترك حقه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله ﷺ وبين منزلة صبرها رسول الله ﷺ لإنسان فكان له أن يتجافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وبرهان صحة قول من قال بأن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف وكذلك الإجماع وكذلك النص وبرهان آخر وهو أن الذي كلفوا به من معرفة الأفضل ممتنع محال لأن قريشاً مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن وصحاري البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد فمعرفة أسمائهم ممتنع فكيف معرفة أحوالهم فكيف معرفة أفضلهم وبرهان آخر وهو أنا بالحس والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلا بالظن والحكم بالظن لا يحل قال الله تعالى ذاماً لقوم " إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين " وقال تعالى " ما لهم بذلك من علم أن هم إلا يخرصون " وقال تعالى " قتل الخراصون " وقال تعالى " إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى " وقال تعالى " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " وقال رسول الله ﷺ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وأيضاً فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل فيكون الواحد أزهد ويكون الواحد أورع ويكون الآخر أسوس ويكون الرابع أشجع ويكون الخامس أعلم وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم فبطل معرفة الأفضل وصح أن هذا القول فاسد وتكليف ما لا يطاق وإلزام ما لا يستطاع وهذا باطل لا يحل والحمد لله رب العالمين ثم قد وجدنا رسول الله ﷺ قد قلد النواحي وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى وخالد بن الوليد وعلي عمان عمرو بن العاص وعلى نجران أبا سفيان وعلى مكة عتاب ابن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي ولا خلاف في أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة وابن مسعود وبلال وأبا ذر أفضل ممن ذكرنا فصح يقيناً أن الصفات التي يستحق بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدم في الفضل وأيضاً فإن الفضائل كثيرة جداً منها الورع والزهد والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة والصبر والصرامة وغير ذلك ولا يوجد أحد يبين في جميعها بل يكون بائناً في بعضها ومتأخراً في بعضها ففي أيها يراعي الفضل من لا يجيز إمامة المفضول فإن اقتصر على بعضها كان مدعياً بلا دليل وإن عم جميعها كلف من لا سبيل إلى وجوده أبداً في أحد بعد رسول الله ﷺ فإذ لا شك في ذلك فقد صح القول في إمامة المفضول وبطل قول من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذكر الباقلاني في شروط الإمامة أنها أحد عشر شرطاً وهذا أيضاً دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه فوجدناها أن يكون صليبة من قريش لإخبار رسول الله ﷺ إن الإمامة فيهم وأن يكون بالغاً مميزاً لقول رسول الله ﷺ رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق وأن يكون رجلاً لقول رسول الله ﷺ لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة وأن يكون مسلماً لأن الله تعالى يقول " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " والخلافة أعظم السبيل ولأمره تعالى باصغار أهل الكتاب وأخذهم بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا وأن يكون متقدماً لأمره عالماً بما يلزمه من فرائض الدين متقياً لله تعالى بالجملة غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " لأن من قدم من لا يتق الله عز وجل ولا في شيء من الأشياء أو معلناً بالفساد في الأرض غير مأمون أو من لا ينفذ أمراً أو من لا يدري شيئاً من دينه فقد أعان على الإثم والعدوان ولم يعن على البر والتقوى وقد قال رسول الله ﷺ من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وقال عليه السلام يا أبا ذر إنك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقال تعالى " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً " الآية فصح أن السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلا بد له من ولي ومن لا بد له من ولي فلا يجوز أن يكون ولياً للمسلمين فصح أن ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلاً ثم يستحب أن يكون عالماً بما يخصه من أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام مؤدياً للفرائض كلها لا يخل بشيء منها مجتنباً لجميع الكبائر سراً وجهراً مستتراً بالصغائر إن كانت منه فهذه أربع صفات يكره أن يلي الأمة من لم ينتظمها فإن ولي فولايته صحيحة ونكرهها وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب والغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقاً بالناس في غير ضعف شديداً في إنكار المنكر من غير عنف ولا تجاوز للواجب مستيقظاً غير غافل شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ولا مبذر له في غير حقه ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائماً بأحكام القرآن وسنن رسول الله ﷺ فهذا يجمع كل فضيلة.
قال أبو محمد: ولا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب والذي لا يدان له ولا رجلان ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام ومن يعرض له الصرع ثم يفيق ومن بويع أثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلاً بل قال تعالى " كونوا قوامين بالقسط " فمن قام بالقسط فقد ادى ما أمر به ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة وبالله تعالى نتأيد.
الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الإمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد وذهب آخرون إلى أن الإمامة إنما تصح بعقد أهل حضرة الإمام والموضع الذي فيه قرار الأئمة وذهب أبو علي بن عبد الوهاب الجبائي إلى أن الإمامة لا تصح بأقل من عقد خمس رجال ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوي وقد ذكر في فساد قول الروافض وقول الكيسانية ومن ادعى إمامة رجل بعينه وأنبأ أن كل ذلك دعاو لا يعجز عنها ذو لسان إذا لم يتق الله ولا استحياء من قال أبو محمد: أما من قال أن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع وما هو أعظم الحرج والله تعالى لا يكلف نفساً وقال تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج ".
قال أبو محمد: ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة إلى بلاد مهرة إلى عدن إلى أقاصي المصامدة إلى طنجة إلى الأشبونة إلى جزائر البحر إلى سواحل الشام إلى أرمينية وجبل القبج إلى اسبنجاب وفرغانة واسروسنه إلى أقاصي خراسان إلى الجوزجان إلى كابل المولتان فما بين ذلك من المدن والقرى ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد فبطل هذا القول الفاسد مع أنه لو كان ممكناً لما لزم لأنه دعوى بلا برهان وإنما قال تعالى " تعاونوا على البر والتقوى وكونوا قوامين بالقسط " فهذان الأمران متوجهان أحدهما إلى كل إنسان في ذاته ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك وأما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصاعداً لأن التعاون فعل من فاعلين وليس فعل واحد ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البر والتقوى انتظار ثالث إذ لو كان ذلك لما لزم أحداً قيا بقسط ولا تعاون على بر وتقوى إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبداً لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عن ذلك لعذر أو على وجه المعصية ولو كان هذا لكان أمر الله تعالى بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلاً فارغاً وهذا خروج عن الإسلام فسقط القول المذكور وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة فإن أهل الشام كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام.
قال أو محمد: وهو قول فاسد لا حجة لأهله وكل قول في الدين عرى عن ذلك من القرآن أو من سنة رسول الله ﷺ أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين قال الله تعالى " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقاً فيه فسقط هذا القول أيضاً وأما قول الجبائي فإنه تعلق فيه بفعل عمر رضي الله عنه في الشورى إذ قلدها ستة رجال وأمرهم أن يختاروا واحداً منهم فصار الاختيار منهم بخمسة فقط.
قال أبو محمد: وهذا ليس شيء لوجوه أولها أن عمر لم يقل أن تقليد الاختيار أقل من خمسة لا يجوز بل قد جاء عنه أنه قال إن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف فقد أجاز عقد ثلاثة ووجه ثان وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم والثالث أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرؤا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلاً للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بواحد فإن قال قائل إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه قيل له إن كل هذا عندك اعتراضاً فالتزم مثله سواء سواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك ولولا ذلك لم يجز عقدهم وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم وهذا مما لا مخلص منه أصلاً فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب النظر في ذلك على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله ﷺ بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع.
قال أبو محمد: إنما أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته والوجه الثاني إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعوا لي نفسه ولا منازع له ففرض أتباعه والانقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته كما فعل علي إذ قتل عثمان رضي الله عنهما وكما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما وقد فعل ذلك خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فأخذ خالد الراية عن غير أمره وصوب ذلك رسول الله ﷺ إذ بلغه فعله وساعد خالداً جميع المسلمين رضي الله عنهم أو أن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ولا يجوز التأخر عنه لأن لك معاونة على الإثم والعدوان وقد قال عز وجل " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " كما فعل زيد بن الوليد ومحمد بن هارون المهدي رحمهم الله والوجه الثالث أن يصير الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر رضي الله عنه عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ولا يجوز التردد في الاختيار أكثر من ثلاث ليال للثبات عن رسول الله ﷺ من قوله من بات ليلة ليس في عنقه بيعة ولأن المسلمين لم يجتمعوا على ذلك أكثر من ذلك والزيادة على ذلك باطل لا يحل على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر رضي الله عنه قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لازمة لأحد أولئك الستة بلا شك فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة فبأحد هذه الوجوه تصح الإمامة ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة.
قال أبو محمد: فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده فالحق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول رسول الله ﷺ فوابيعة الأول فالأول من جاء ينازعه فاضربوا عنقه كائناً من كان فلو قام اثنان فصاعداً معاً في وقت واحد ويئس من معرفة أيهما سبقت بيعته نظر أفضلهما وأسوسهما فالحق له ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ومن البر تقليد الاسوس وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها فإن استويا في الفضل قدم الأسوس نعم وإن كان أقل فضلاً إذا كان مؤدياً للفرائض والسنن مجتنباً للكبائر مستتراً بالصغائر لأن الغرض من الإمامة حسن السياسة والقوة على القيام بالأمور فإن استويا في الفضل والسياسة اقرع بينهما أو نظر في غيرهما والله عز وجل لا يضيق على عباده هذا الضيق ولا يوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وهذا أعظم الحرج وبالله تعالى التوفيق.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال أبو محمد: اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد أو باللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلاً وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وبه قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلاً فإن كان عدلاً وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل وقد روينا عن ابن عمر أنه قال لا أدري من هي الفئة الباغية ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها.
قال أبو محمد: وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر المعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عن جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعدو حنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن السخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز ابن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر الوراق ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه قال أبو محمد: احتجت الطائفة المذكورة أولاً بأحاديث فيها انقاتلهم يا رسول الله قال لا ما صلوا وفي بعضها إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان وفي بعضها وجوب الضرب وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله وفي بعضها فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وفي بعضها كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وبقوله تعالى " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " الآية.
قال أبو محمد: كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي خبراً خبراً بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بالاتصال إلى فهم معرفة الخصال ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملاً كافية وبالله تعالى نتأيد أما أمره ﷺ بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى وإما أن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله ﷺ بالصبر على ذلك برهان هذا قول الله عز وجل " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وقد علمنا أن كلام رسول الله ﷺ لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " وقال تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فهو وحي من عند الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض فإذا كان هذا كذلك فبيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن من أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام قال رسول الله ﷺ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين فالمسلم ماله للأخذ ظلماً وظهره للضرب ظلماً وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن " وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابني آدم فلا حجة في شيء منها أما قصة ابني آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا قال الله عز وجل " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله ﷺ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان شيء وصح عن رسول الله ﷺ قال لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وإنه عليه السلام قال من قتل دون ماله فهو شهيد والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد وقال عليه السلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده فكان ظاهر هذه الأخبار معارضاً للآخر فصح أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ولما كانت الحال عليه في أول الإسلام بلا شك وكانت هذه الأحاديث الأخر واردة بشريعة زايدة وهي القتال هذا ما لا شك فيه فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه السلام بهذه الأخر بلا شك فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين ومن ادعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادعى الباطل وقفا ما لا علم له به فقال على الله ما لم يعلم وهذا لا يحل ولو كان هذا لما أخلا الله عز وجل هذا الحكم عن دليل وبرهان يبين به رجوع المنسوخ ناسخاً لقوله تعالى في القرآن تبياناً لكل شيء وبرهان آخر وهو أن الله عز وجل قال " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء " لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقاً لهذه الآية فهو الناسخ الثابت وما كان مخالفاً لها فهو المنسوخ المرفوع وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص قال أبو محمد: وهذا باطل متيقن لأنه قول بلا برهان وما يعجز مدع أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم وفي زمان دون زمان والدعوى دون برهان لا تصح وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم وقد جاء عن رسول الله ﷺ أن سائلاً سأله عن من طلب ماله بغير حق فقال عليه السلام لا تعطه قال فإن قاتلني قال قاتله قال فإن قتلته قال إلى النار قال فإن قتلني قال فأنت في الجنة أو كلاماً هذا معناه وصح عنه عليه السلام أنه قال المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه وقد صح أنه عليه السلام قال في الزكاة من سألها على وجهها فليعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق عن رسول الله ﷺ وهذا يبطل تأويل من تأول أحاديث القتال عن المال على اللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبه السلطان فاقتصر عليه السلام معها إذا سألها على غير ما أمر به عليه السلام ولو اجتمع أهل الحق ما قاوا هم أهل الباطل نسأل الله المعونة والتوفيق.
قال أبو محمد: وما اعترضوا به من فعل عثمان فما علم قط أنه يقتل وإنما كان يراهم يحاصرونه فقط وهم لا يرون هذا اليوم للإمام العدل بل يرون القتال معه ودونه فرضاً فلا حجة لهم في أمر عثمان رضي الله عنه وقال بعضهم إن في القيام إباحة الحريم وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الأستار وانتشار الأمر فقال لهم الآخرون كلا لأنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يهتك حريماً ولا أن يأخذ مالاً بغير حق ولا أن يتعرض من لا يقاتله فإن فعل شيئاً من هذا فهو الذي فعل ما ينبغي أن يغير عليه وأما قتله أهل المنكر قلوا أو كثروا فهذا فرض عليه وأما قتل أهل المنكر الناس وأخذهم أموالهم وهتكهم حريمهم فهذا كله من المنكر الذي يلزم الناس تغييره وأيضاً فلو كان خوف ما ذكروا مانعاً من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف لكان هذا بعينه مانعاً من جهاد أهل الحرب وهذا ما لا يقوله مسلم وإن ادعى ذلك إلى سبي النصارى نساء المسلمين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود هذا كله ولا فرق بين الأمرين وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة.
قال أبو محمد: ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا أو حمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة فإن قالوا لا يجوز القيام عليه قيل لهم أنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة وهذا أن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه وإن قالوا بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم قلنا لهم فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً وسبي من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك بشرة بظلم فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا ما لا يجوز وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم فإن قالوا فرض عليه إسلام نفسه وأهله أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم وإن قالوا بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك. قال أبو محمد: والواجب أن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الصلاة خلف الفاسق والجهاد معه والحج ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك
قال أبو محمد: ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الصلاة إلا خلف الفاضل وهو قول الخوارج والزيدية والروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة وقال آخرون إلا الجمعة والعيدين وهو قول لعض أهل السنة وذهبت طائفة الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من أحد منهم وأكثر من بعدهم وجمهور أصحاب الحديثوهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة وداود وغيرهم إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها وبهذا نقول وخلاف هذا القول بدعة محدثة فما تأخر قط أحد من الصحابة الذين أدركوا المختار بن عبيد والحجاج وعبيد الله بن زياد وحبيش بن دلجة وغيرهم عن الصلاة خلفهم وهؤلاء أفسق الفساق وأما المختار فكان متهما في دينه مظنوناً به الكفر.
قال أبو محمد: احتج من يقول بمنع الصلاة خلفهم بقول الله تعالى " إنما يتقبل الله من المتقين ".
قال أبو محمد: في قال لهم كل فاسق إذا نوى بصلاته رحمة الله تعالى فهو في ذلك من المتقين فصلاته متقبلة ولو لم يكن من المتقين إلا من لا ذنب له ما استحق أحد هذا الاسم بعد رسول الله ﷺ قال الله عز وجل " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " ولا يجوز القطع على الفاسق بأنه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى ومن قطع بهذا فقد قفا ما لا علم له به وقال ما لا يعلم وهذا حرام وقال تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم " وقال عز وجل " وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " وقال بعضهم إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام.
قال أبو محمد: وهذا غاية الفساد لأنه قول بلا دليل بل البرهان يبطله لقوله تعالى " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " وقول تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ودعوى الارتباط هاهنا قول بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من معقول وهم قد أجمعوا على أن طهارة الإمام لا تنوب عن طهارة المأموم ولا قيامه عن قيامه ولا قعوده عن قعوده ولا سجوده عن سجوده ولا ركوعه عن ركوعه ولا نيته عن نيته فما معنى هذا الارتباط الذي تدعونه إذاً وأيضاً فإن القطع عن سريرة الذي ظاهره الفضل لا يجوز وإنما هو ظن فاستوى الأمر في ذلك في الفاضل والفاسق وصح أنه لا يصلي أحد عن أحد وإن كل أحد يصلي عن نفسه وقال تعالى " أجيبوا داعي الله " فوجب بذلك ضرورة أن كل داع دعا إلى خير من صلاة أو حج أو جهاد أو تعاون على بر وتقوى ففرض إجابته وعمل ذلك الخير معه لقول الله تعالى " تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وإن كل داع دعى إلى شر فلا يجوز إجابته بل فرض دفاعه ومنعه وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن الفسق منزلة نقص عمن هو أفضل منه والذي لا شك فيه أن النسبة بين أفجر فاجر من المسلمين وبين أفضل الصحابة رضي الله عنهم أقرب من النسبة بين أفضل الصحابة رضي الله عنهم وبين رسول الله ﷺ وما عرى أحد من تعمد ذنب وتقصير بعد رسول الله ﷺ وإنما تفاضل المسلمون في كثرة الذنوب وقلتها وفي اجتناب الكبائر ومواقعتها وأما الصغائر فما نجا منها أحد بعد الأنبياء عليهم السلام وقد صلى رسول الله ﷺ خلف أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وبهذا صح أن أمر رسول الله ﷺ أن يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن استووا فأفقههم ندب لا فرض فليس لفاضل بعد هذا أن يمتنع من الصلاة خلف من هو دونه في القصوى من الغايات.
قال أبو محمد: وأما دفع الزكاة إلى الإمام فإن كان الإمام القرشي الفاضل أو الفاسق لم ينازعه فاضل فهي جارية لقول رسول الله ﷺ ارضوا مصديقكم ولا يكون مصدقاً كل من سمى نفسه مصدقاً لكن من قام البرهان بأنه مصدق بإرسال الإمام الواجبة طاعته له وإما من سألها من هو غير الإمام المذكور أو غير مصدقه فهو عابر سبيل لا حق له في قبضها فلا يجزي دفعها إليه لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه وقد قال رسول الله ﷺ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد وهكذا القول في الأحكام كلها من الحدود وغيرها إن أقامها الإمام الواجبة طاعته والذي لا بد منه فإن وافقت القرآن والسنة نفذت وإلا فهي مردودة لما ذكرنا وإن أقامها غير الإمام أو واليه فهي كلها مردودة ولا يحتسب بها لأنه أقامها من لم يؤمر بإقامتها فإن لم يقدر عليها الإمام فكل من قام بشيء من الحق حينئذ نفذ لأمر الله تعالى لنا بأن نكون قوامين بالقسط ولا خلاف بين أحد من الأمة إذ كان الإمام حاضراً متمكناً أو أميره أو واليه فإن من بادر إلى تنفيذ حكم هوالي الإمام فإنه إما مظلمة ترد وإما عزل لا ينفذ على هذا جرى عمل رسول الله ﷺ وجميع عماله في البلاد بنقل جميع المسلمين عصراً بعد عصر ثم عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم وأما الجهاد فهو واجب مع كل إمام وكل متغلب وكل باغ وكل محارب من المسلمين لأنه تعاون على البر والتقوى وفرض على كل أحد الدعا إلى الله تعالى وإلى دين الإسلام ومنع المسلمين ممن أرادهم قال تعالى " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " الآية فهذا عموم لكل مسلم بنص الآية في كل مكان وكل زمان وبالله تعالى التوفيق تم كتاب الإمامة والمفاضلة بحمد الله تعالى وشكره.
ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال أهل البدع المعتزلة والخوارج والمرجئية والشيع
قال أبو محمد: قد كتبنا في ديواننا هذا من فضايح الملل المخالفة لدين الإسلام الذي في كتبهم من اليهود والنصارى والمجوس ما لا بقية لهم بعدها ولا يمتري أحد وقف عليها إنهم في ضلال وباطل ونكتب إن شاء الله تعالى على هذه الفرق الأربعة من فواحش أقوالهم ما لا يخفى على أحد قراه أنهم في ضلال وباطل ليكون ذلك زاجراً لمن أراد الله توفيقه عن مضامتهم أو التمادي فيهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما لم يقله نصاً وإن آل قوله إليه إذ قد لا يلزم ما ينتجه قوله فيتناقض فاعلموا أن تقويل القائل كافراً كان أو مبتدعاً أو مخطئاً ما لا يقوله نصاً كذب عليه ولا يحل الكذب على أحد لكن ربما دلسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ليسهلوه على أهل الجهل ويحسن النظر بهم من أتباعهم وليبعد فهم تلك العظيمة على العامة من مخالفتهم كقول طوائف من أهل البدعة والضلالة لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال ولا على الظلم ولا على الكذب ولا على غير ما علم أنه يكون فأخفوا أعظم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تأنيس الأغمار من أتباعهم وتسكين الدهما من مخالفيهم فراراً عن كشف معتقدهم صراحاً الذي هو أنه تعالى لا يقدر على الظلم ولا له قوة على الكذب ولا به طاقة على المحال ولا بد لنا من إيضاح ما موهوه هكذا وإيراده بأظهر عباراته كشفاً لتمويههم وتقرباً إلى الله تعالى بهتك أستارهم وكشف أسرارهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر شنع الشيعة
قال أبو محمد: أهل الشنع من هذه الفرقة ثلاث طوايف أولها الجارودية من الزيدية ثم الإمامية من الرافضة ثم الغالية فأما الجارودية فإن طائفة منهم قالت أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن علي بن أبي طالب القائم بالمدينة علي ابن جعفر المنصور فوجه إليه المنصور عيسى بن موسى بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس فقتل محمد بن عبد الله بن الحسن رحمه الله فقالت هذه الطائفة أن محمداً المذكور حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت طائفة أخرى منهم أنه يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القايم بالكوفة أيام المستعين فوجه إليه محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بأمر المستعين ابن عمة الحسن بن إسماعيل ابن الحسين وهو ابن أخي طاهر بن الحسين فقتل يحيى بن عمر رحمه الله فقالت الطائفة المذكورة أن يحيى بن عمر هذا حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت طائفة منهم أن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القايم بالطالقان أيام المعتصم حي لم يمت ولا قتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت الكيسايية وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد وهم عندنا شعبة من الزيدية في سبيلهم أن محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية حي بجبال رضوي عن يمينه أسد وعن يساره نمر تحدثه الملائكة يأتيه رزقه غدواً وعشياً لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقال بعض الروافض الإمامية وهي الفرقة التي تدعي الممطورة أن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت طائفة منهم وهم الناووسية أصحاب ناوس المصري مثل ذلك في أبيه جعفر بن محمد وقالت طائفة منهم مثل ذلك في أخيه إسماعيل بن جعفر وقالت السبابية أصحاب عبد الله بن سبا الحميري اليهودي مثل ذلك في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزادوا أنه في السحاب فليت شعري في أي سحابة هو من السحاب والسحاب كثير في أقطار الهواء مسخر بين السماء والأرض كما قال الله تعالى وقال عبد الله بن سبا إذ بلغه قتل علي رضي الله عنه لو أتيتمونا بدماغه سبعين مرة ما صدقنا موته ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقال بعض الكيسانية بأن أبا مسلم السراج حي لم يمت وسيظهر ولا بد وقال بعض الكيسانية بأنه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حي بجبال أصبهان إلى اليوم ولا بد له من أن يظهر وعبد الله هذا هو القائم بفارس أيام مروان بن محمد وقتله أبو مسلم بعد أن سجنه دهراً وكان عبد الله هذا ردي الدين معطلاً مستصحباً للدهرية.
قال أبو محمد: فصار هؤلاء في سبيل اليهود القائلين بأن ملكصيدق بن عامر بن ارفخشد بن سام ابن نوح والعبد الذي وجهه إبراهيم عليه السلام ليخطب ريقا بنت بنؤال بن ناخور بن تارخ علي إسحاق ابنه عليه السلام والياس عليه السلام وفنحاس بن العازار بن هارون عليه السلام أحياء إلى اليوم وسلك هذا السبيل بعض تركي الصوفية فزعموا أن الخضر والياس عليهما السلام حيان إلى اليوم وادعى بعضهم أنه يلقي الياس في الفلوات والخضر في المروج والرياض وأنه متى ذكر حضر على ذاكره.
قال أبو محمد: فإن ذكر في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وفي ألف موضع في دقيقة واحدة كيف يصنع ولقد لقينا من يذهب إلى هذا خلقاً وكلمناهم منهم المعروف بابن شق الليل المحدث بطلبيره وهو مع ذلك من أهل العناية وسعة الرواية ومنهم محمد بن عبد الله الكاتب وأخبرني أنه جالس الخضر وكلمه مراراً وغيره كثير هذا مع سماعهم قول الله تعالى " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " وقول رسول الله ﷺ لا نبي بعدي فكيف يستجيز مسلم أن يثبت بعده عليه السلام نبياً في الأرض حاشا ما استثناه رسول الله ﷺ في الآثار المسندة الثابتة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان وكفار برغواطه إلى اليوم ينتظرون صالح بن طريق الذي شرع لهم دينهم وقالت القطيعية من الإمامية الرافضة كلهم وهم جمهور الشيعة ومنهم المتكلمون والنظارون والعدد العظيم بأن محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وهو عندهم المهدي المنتظر وبقول طائفة منهم أن مولد هذا الذي لم يخلق قط في سنة ستين ومائتين سنة موت أبيه وقالت طائفة منهم بل بعد موت أبيه بمدة وقالت طائفة منهم بل في حياة أبيه ورووا ذلك عن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى وأنها شهدت ولادته وسمعته يتكلم حين سقط من بطن أمه ويقرأ القرآن وأن أمه نرجس وأنها كانت هي القابلة وقال جمهورهم بل أمه صقيل وقالت طائفة منهم بل أمه سوسن وكل هذا هوس ولم يعب الحسن المذكور لا ذكراً ولا أنثى فهذا أول نوك الشيعة ومفتاح عظيماتهم وأخفها وإن كانت مهلكة ثم قالوا كلهم إذ سئلوا عن الحجة فيما يقولون حجتنا الإلهام وأن من خالفنا ليس لرشده فكان هذا طريقاً جداً وليت شعري ما الفرق بينهم وبين عيار مثلهم يدعي في إبطال قولهم الإلهام وأن الشيعة ليسوا رشدة أو أنهم نوكة أو أنهم جملة ذووا شعبة من جنون في رؤوسهم وما قولهم فيمن كان منهم ثم صار في غيرهم أو من كان في غيرهم فصار فيهم أتراه ينتقل من ولادة الغية إلى ولادة الرشدة ومن ولادة الرشدة إلى ولادة الغية فإن قالوا حكمه لما يموت عليه قيل لهم فلعلكم أولاد غية إذ لا يؤمن رجوع الواحد فالواحد منكم إلى خلاف ما هو عليه اليوم والقوم بالجملة ذووا أديان فاسدة وعقول مدخولة وعديموا حياء ونعوذ بالله من الضلال وذكر عمرو بن بحر الجاحظ وهو وإن كان أحد المجان ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلال المضلين فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها وإن كان كثيراً لا يراد كذب غيره قال أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قال ا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق ويحك أما استحيت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة أن الله تعالى لم يقل قط في القرآن " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " قال ا فضحك والله شيطان الطاق ضحكاً طويلاً حتى كأنا نحن الذي أذنبنا قال النظام وكنا نكلم علي ابن ميتم الصابوني وكل من شيوخ الرافضة ومتكلميهم فنسأله أرأي أم سماع عن الأئمة فينكر أن يقوله برأي فتخبره بقوله فيها قبل ذلك قال فوالله ما رأيته خجل من ذلك ولا استحيا لفعله هذا قط ومن قول الإمامية كلها قديماً وحديثاً أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير وبدل منه كثير حاشا علي بن الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن ابن علي ابن أبي طالب وكان إمامياً يظاهر بالاعتزال مع ذلك فإنه كان ينكر هذا القول ويكفر من قاله وكذلك صاحباه أبو يعلي ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي.
قال أبو محمد: القول بأن بين اللوحين تبديلاً كفر صحيح وتكذيب لرسول الله ﷺ وقالت طائفة من الكيسانية بتناسخ الأرواح وبهذا يقول السيد الحمري الشاعر لعنه الله ويبلغ الأمر بمن يذهب إلى هذا إلى أن يأخذ أحدهم البغل أو الحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أن روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه فأعجبوا لهذا الحمق الذي لا نظير له وما الذي خص هذا البغل الشقي أو الحمار المسكين بنقله الروح إليه دون سائر البغال والحمير وكذلك يفعلون بالعنز على أن روح أم المؤمنين رضي الله عنها فيها وجمهور متكلميهم كهشام ابن الحكم الكوفي وتلميذه أبي علي الصكاك وغيرهما يقول أن علم الله تعالى محدث وأنه لم يكن يعلم شيئاً حتى أحدث لنفسه علماًوهذا كفر صريح وقد قال هشام هذا في حين مناظرته لأبي الهذيل العلاف أن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه وهذا كفر صحيح وكان داود الجوازي من كبار متكلميهم يزعم أن ربه لحم ودم على صورة الإنسان ولا يختلفون في أن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين أفيكون في صفاقة الوجه وصلابة الخد وعدم الحياء والجرأة على الكذب أكثر من هذا على قرب العهد وكثرة الخلق وطائفة منهم تقول أن الله تعالى يريد الشيء ويعزم عليه ثم يبدو له فلا يفعله وهذا مشهور للكيسانية ومن الإمامية من يجيز نكاح تسع نسوة ومنهم من يحرم الكرنب لأنه إنما نبت على دم الحسين ولم يكن قبل ذلك وهذا في قلة الحياء قريب مما قبله وكما يزعم كثير منهم أن علياً لم يكن له سمى قبله وهذا جهل عظيم بل كان في العرب كثير يسمون هذا الاسم كعلي بن بكر بن وايل إليه يرجع كل بكري في العالم في نسبه وفي الأزد علي وفي بجيله علي وعيرها كل ذلك في الجاهلي مشهور وأقرب من ذلك عامر بن الطفيل يكني أبا علي ومجاهراتهم أكثر مما ذكرنا ومنهم طائفة تقول بفناء الجنة والنار وفي الكيسانية من يقول أن الدنيا لا تفنى أبداً ومنهم طائفة تسمى النحيلة نسبوا إلى الحسن بن علي بن ورصند النحلي كان من أهل نفطة من عمل قفصة وقسطيلية من كور أفريقية ثم نهض هذا الكافر إلى السوس في أقاصي بلاد المصامدة فأضلهم وأضل أمير السوس أحمد بن إدريس بن يحيى بن إدريس ابن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب فهم هنالك كثير سكان في ربض مدينة السوس معلنون بكفرهم وصلاتهم خلاف صلاة المسلمين لا يأكلون شيئاً من الثمار زبل أصله ويقولون أن الإمامة في ولد الحسن دون ولد الحسين ومنهم أصحاب أبي كامل ومن قولهم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم كفروا بعد موت النبي ﷺ إذ جحدوا إمامة علي وأن علياً كفر إذا سلم الأمر إلى أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم قال جمهورهم أن علياً ومن ابتعه رجعوا إلى الإسلام إذ دعى إلى نفسه قتل عثمان وإذ كشف وجهه وسل سيفه وأنه وإياهم كانوا قبل ذلك مرتدين عن الإسلام كفاراً مشركين ومنهم من يرد الذنب في ذلك إلى النبي ﷺ إذ لم يبين الأمر بياناً رافعاً للأشكال.
قال أبو محمد: وكل هذا كفر صريح لا خفاء به فهذه مذاهب الإمامية وهي المتوسطة في الغوة من فرق الشيعة وأما الغالية من الشيعة فهم قسمان قسم أوجبت النبوة بعد النبي ﷺ لغيره والقسم الثاني أوجبوا الإلهية لغير الله عز وجل فلحقوا بالنصارى واليهود وكفروا أشنع الكفر فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي ﷺ فرق منهم الغرابية وقولهم أن محمداً ﷺ كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب وأن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل بمحمد ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط وقالت طائفة منهم بل تعمد ذلك جبريل وكفروه ولعنوه لعنهم الله.
قال أبو محمد: فهل سمع بأضعف عقولاً وأتم رقاعة من قوم يقولون أن محمداً ﷺ كان يشبه علي بن أبي طالب فيا للناس أين يقع شبه ابن أربعين سنة من صبي ابن إحدى عشرة سنة حتى يغلط به جبريل عليه السلام ثم محمد عليه السلام فوق الربعة إلى الطول قويم القناة كث اللحية ادلج العينين ممتلي الساقي ﷺ قليل شعر الجسد أفرع وعلي دون الرعبة إلى القصر منكب شديد الانكباب كأنه كسر ثم جبر عظيم اللحية قد ملئت صدره من منكب إلى منكب إذ التحي ثقيل العينين دقيق الساقين أصلع عظيم الصلع ليس في رأسه شعر إلا في مؤخره يسير كثير شعر اللحية فأعجبوا لحمق هذه الطبقة ثم لو جاز أن يغلط جبريل وحاشا لروح القدس الأمين كيف غفل الله عز وجل عن تقويمه وتنبيهه وتركه على غلطه ثلاثاً وعشرين سنة ثم أظرف من هذا كله من أخبرهم بهذا الخبر ومن خفرهم بهذه الخرافة وهذا لا يعرفه إلا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل عليه السلام ثم شاهد خلافه فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة الناس أجمعين ما دام لله في عالمه خلق وفرقة قالت بنبوة علي وفرقة قالت بأن علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بم محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي والحسن بن محمد والمنتظر بن الحسن أنبياء كلهم وفرقة قالت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط وهم طائفة من القرامطة وفرقة قالت بنبوة علي وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط وهم طائفة من الكيسانية وقد حام المختار حول أن يدعي النبوة لنفسه وسجع اسجاعاً وأنذر بالغيوب عن الله وأتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة وقال بإمامة محمد بن الحنفية وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة وهو الذي أحرقه خالد بن عبد الله القسري بالنار وكان لعنه الله يقول أن معبوده صورة رجل على رأسه تاج وأن أعضاءه على عدد حرف الهجا الألف للساقين ونحو ذلك مما لا ينطلق لسان ذي شعبة من دين به تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً وكان لعنه الله يقول أن معبوده لما أراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الأكبر فوقع على تاجه ثم كتب بإصبعه أعمال العباد من المعاصي والطاعات فلما رأى المعاصي أرفض به عرقاً فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثاني نير عذب ثم اطلع في البحر فرأى ظلمة فذهب ليأخذه فطار فأخذه فقلع عيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس وشمساً أخرى وخلق الكفار من البحر المالح وخلق المؤمنين من البحر العذب في تخليط لهم كثير وكان مما يقول أن الأنبياء لم يختلفوا قط في شيء من الشرايع وقد قيل أن جابر بن يزيد الجعفي الذي يروي عن الشعبي كان خليفة المغيرة ابن سعيد إذ حرقه خالد بن عبد الله القسري فلما مات جابر خلفه بكر الأعور الهجري فلما مات فوضوا أمرهم إلى عبد الله بن المغيرة رئيسهم المذكور وكان لهم عدد ضخم بالكوفة وآخر ما وقف عليه المغيرة ابن سعيد القول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وتحريم ماء الفرات وكل ماء نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة فبرئت منه عند ذلك القائلون بالإمامة في ولد الحسين وفرقة قالت بنبوة بيان بن سمعان التميمي صلبه وأحرقه خالد بن عبد القسري مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد وجبن المغيرة بن سعيد عن اعتناق حزمة الحطب جبناً شديداً حتى ضم إليها قهراً وبادر بيان بن سمعان إلى الحزمة فاعتنقها من غير إكراه ولم يظهر منه جزع فقال خالد لأصحابهما في كل شيء أنتم مجانين هذا كان ينبغي أن يكون رئيسكم لا هذا الفسل وكان بيان لعنه الله يقول أن الله تعالى يفنى كله حاشا وجهه فقط وظن المجنون أنه تعلق في كفره هذا بقول الله تعالى " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك " ولو كان له أدنى عقل أو فهم لعلم أن الله تعالى إنما أخبر بالفناء عما على الأرض فقط بنص قوله الصادق " كل من عليها فان " ولم يصف عز وجل بالفناء غير ما على الأرض ووجه الله تعالى هو الله وليس هو شيئاً غيره وحاشا لله من أن يوصف بالتبعيص والتجزي هذه صفة المخلوقين المحدودين لا صفة من لا يحد ولا له مثل وكان لعنه الله يقول أنه المعني بقول الله تعالى " هذا بيان للناس " وكان يذهب إلى أن الإمام هو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية ثم هي في سائر ولد علي كلهم وقالت فرقة منهم بنبوة منصور المستير العجلي وهو الملقب بالكسف وكان يقال أنه المراد بقول الله عز وجل " وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً " وصلبه يوسف بن عمر بالكوفة وكان لعنه الله يقول أنه عرج به إلى السماء وأن الله تعالى مسح رأسه بيده وقال له ابني اذهب فبلغ عني وكان يمين أصحابه لا والكلة وكان لعنه الله يقول بأن أول من خلق الله تعالى عيسى بن مريم ثم علي بن أبي طالب وكان يقول بتواتر الرسل وأباح المحرمات من الزنا والخمر والميتة والخنزير والدم وقال إنما هم أسماء رجال وجمهور الرافضة اليوم على هذا أسقط الصلاة والزكاة والصيام والحج وأصحابه كلهمخناقون رضاخون وكذلك أصحاب المغيرة بن سعيد ومعناهم في ذلك أنهم لا يستحلون حمل السلاح حتى يخرج الذي ينتظرونه فهم قتلون الناس بالخنق وبالحجارة والخشبية بالخشب فقط وذكر هشام بن الحكم الرافضي في كتابه المعروف بالميزان وهو أعلم الناس بهم لأنه جارهم بالكوفة وجارهم في المذهب أن الكسفية خاصة يقتلون من كان منهم ومن خالفهم ويقولون نعجل المؤمن إلى الجنة والكافر إلى النار وكانوا بعد موت أبي منصور يؤدون الخمس مما يأخذون ممن خنقوه إلى الحسن بن أبي المنصور وأصحابه فرقتان فرقة قالت أن الإمام بعد محمد بن علي بن الحسن صارت إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وفرقة قالت بل إلى أبي النمصور الكسف ولا تعود في ولد علي أبداً وقالت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بالكوفة وإن وقع هذه الدعوة لهم في حايك لظريفة وفرقة قالت بنبوة معمر بايع الحنطة بالكوفة وقالت فرقة بنبوة عمير التبان بالكوفة وكان لعنه الله يقول لأصحابه لو شئت أن أعيد هذا التبن تبراً لفعلت وقدم إلى خالد بن عبد الله القسري بالكوفة فتجلد وسب خالداً فأمر خالد بضرب عنقه فقتل إلى لعنة الله وهذه الفرق الخمس كلها من فرق الخطابية وقالت فرقة من أولئك شيعة بني العباس بنبوة عمار الملقب بخداش فظفر به أسد بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري فقتله إلى لعنة الله والقسم الثاني من فرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبا الحميري لعنه الله أتوا إلى علي بن أبي طالب فقالوا مشافهة أنت هو فقال لهم ومن هو قالوا أنت الله فاستعظم الأمر وأمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار الآن صح عندنا أنه الله لأنه لا يعذب بالنار إلا الله وفي ذلك يقول رضي الله عنه: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناراً ودعوت قنبرا يريد قنبراً مولاه وهو الذي تولى طرحهم في النار نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جل أو دق فإن محنة أبي الحسن رضي الله عنه بين أصحابه رضي الله عنهم كمحنة عيسى ﷺ بين أصحابه من الرسل عليهم السالم وهذه الفرقة باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد يسمون العليانية منهم كان إسحاق بن محمد النخعي الأحمر الكوفي وكان من متكلميهم وله في ذلك كتاب سماه الصراط نقض عليه البهنكي والفياض لما ذكرنا ويقولون أن محمداً رسول علي وقالت طائفة من الشيعة يعرفون بالمحمدية أن محمداً عليه السلام هو الله تعالى الله عن كفرهم ومن هؤلاء كان البهنكي والفياض بن علي وله في هذا المعنى كتاب سماه القسطاس وأبوه الكاتب المشهور الذي كتب لإسحاق بن كنداج أيام ولايته ثم لأمير المؤمنين المعتضد وفيه يقول البحتري القصيدة المشهورة التي أولها: شط من مساكن الغرير مرارة وطوته البلاد والله حارة والفياض هذا لعنه الله قتله القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب لكونه من جملة من سعى به أيام المعتضد والقصة مشهورة وفرقة قالت بإلاهية آدم عليه السلام والنبيين بعده نبياً نبياً إلى محمد عليه السلام ثم بإلاهية علي ثم بإلاهية الحسن ثم الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ووقفوا هاهنا وأعلنت الخطابية بذلك نهاراً بالكوفة في ولا ية عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فخرجوا صدر النهار في جموع عظيمة في أزراوردية محرمين ينادون بأعلى أصواتهم لبيك جعفر لبيك جعفر قال ابن عياش وغيره كأني أنظر إليهم يومئذ فخرج إليهم عيسى بن موسى فقاتلوه فقتلهم واصطلمهم ثم زادت فرقة على ما ذكرنا فقالت بإلاهية محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد وهم القرامطة وفيهم من قال بإلاهية أبي سعيد الحسن بن بهرام الجبائي وأبنائه بعده ومنهم من قال بإلاهية أبي القاسم النجار القائم باليمن في بلاد همدان المسمى بالمنصور وقالت طائفة منهم بإلاهية عبيد الله ثم الولاة من ولده إلى يومنا هذا وقالت طائفة بإلاهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد بالكوفة وكثر عددهم بها حتى تجاوزوا الألوف وقالوا هو إله وجعفر بن محمد إله إلا أن أبا الخطاب أكبر منه وكانوا يقولون جميع أولاد الحسن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يقولون أنهم لا يموتون ولكنهم يرفعون إلى السماء وأشبه على الناس بهذا الشيخ الذي ترون ثم قالت طائفة منهم بإلاهية معمر بائع الحنطة بالكوفة وعبدوه وكان من أصحاب أبي الخطاب لعنهم الله أجمعين وقالت طائفة بإلاهية الحسن بن منصور حلاج القطن المصلوب ببغداد بسعي الوزير ابن حامد بن العباس رحمه الله أيام المقتدر وقالت طائفة بإلاهية محمد بن علي بن السلمعان الكاتب المقتول ببغداد أيام الراضي وكان أم أصحابه أن يفسق الأرفع قدراً منهم به ليولج فيه النور وكل هذه الفرق ترى الاشتراك في النساء وقالت طائفة منهم بإلاهية شباش المغيم في وقتنا هذا حياً بالبصرة وقالت طائفة منهم بإلاهية أبي مسلم السراج ثم قالت طائفة من هؤلاء بإلاهية المقنع الأعور القصار القائم بثار أبي مسلم واسم هذا القصار هاشم وقتل لعنه الله أيام المنصور وأعلنوا بذلك فخرج المنصور فقتلهم وأفناهم إلى لعنة الله وقالت الرنودية بإلاهية أبي جعفر المنصور وقالت طائفة منهم بإلاهية عبد الله ابن الخرب الكندي الكوفي وعبدوه وكان يقول بتناسخ الأرواح وفرض عليهم تسعة عشر صلاة في اليوم والليلة في كل صلاة خمسة عشر ركعة إلى أن ناظره رجل من متكلمي الصفرية وأوضح له براهين الدين فأسلم وصح إسلامه وتبرأ من كل ما كان عليه وأعلم أصحابه بذلك وأظهر التوبة فتبرأ منه جميع أصحابه الذين كانوا يعبدونه ويقولون بإلاهيته ولعنوه وفارقوه ورجعوا كلهم إلى القول بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب وبقي عبد الله بن الخرب على الإسلام وعلى مذهب الصفرية إلى أن مات وطائفته إلى اليوم تعرف بالحزبية ومن السابية القائلين بإلاهية علي وطائفة تدعى النصرية وقد غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن والشام وعلى مدينة طبرية خاصة ومن قولهم لهن فاطمة بنت رسول الله ﷺ ولعن الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم وسبهم بأقذع السب وقذفهم بكل بلية والقطع بأنها وابنيها رضي الله عنهم ولعن مبغضهم شياطين تصوروا في صورة الإنسان وقولهم في عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي رضي الله عنه عن علي ولعنة الله على ابن ملجم فيقول هؤلاء أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي أفضل أهل الأرض وأكرمهم في الآخرة لأنه خلص روح اللاهوت مما كان يتشبث فيه من ظلمة الجسد وكدره فأعجبوا لهذا الجنون واسألوا الله العافية من بلاد الدنيا والآخرة فهي بيده لا بيد أحد سواه جعل الله حظنا منها الأوفى واعلموا أن كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي إلى الإسلام فإنما عنصرهم الشيعة والصوفية فإن من الصوفية من يقول أن من عرف الله تعالى سقطت عنه الشرايع وزاد بعضهم واتصل بالله تعالى وبلغنا أن بنيسابور اليوم في عصرنا هذا رجلاً يكنى أبا سعيد أبا الخير هكذا معاً من الصوفية مرة يلبس الصوف ومرة يلبس الحرير المحرم على الرجال ومرة يصلي في اليوم ألف ركعة ومرة لا يصلي لا فرضية ولا نافلة وهذا كفر محض ونعوذ بالله من الضلال.
ذكر شنع الخوارج
ذكر بعض من جمع مقالات المنتمين إلى الإسلام أن فرقة من الأباضية رئيسهم رجل يدعى زيد بن أبي أبيسه وهو غير المحدث المشهور كان يقول أن في هذه الأمة شاهدين عليها هو أحدهما والآخر لا يدري من هو ولا متى هو ولا يدري لعله قد كان قبله وإن من كان من اليهود والنصارى يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى العرب لا إلينا كما تقول العيسوية من اليهود قال فإنهم مؤمنون أولياء الله تعالى وإن ماتوا على هذا العقد وعلى التزام شرائع اليهود والنصارى وإن دين الإسلام سيسنخ بنبي من العجم يأتي بدين الصابئين وبقرآن آخر ينزل عليه جملة واحدة.
قال أبو محمد إلا أن جميع الأباضية يكفرون من قال بشيء من هذه المقالات ويبرؤون منه ويستحلون دمه وماله وقالت طائفة من أصحاب الحرث الأباضي أن من زنا أو سرق أو قذف فإنه يقام عليه الحد ثم يستتاب مما فعل فإن تاب ترك وإن أبى التوبة قتل على الردة.
قال أبو محمد: وشاهدنا الأباضية عندنا بالأندلس يحرمون طعام أهل الكتب ويحرمون أكل قضيب التيس والثور والكبش ويوجبون القضاء على من نام نهاراً في رمضان فاحتلم ويتيممون وهم على الآبار التي يشربون منها إلا قليلاً منهم وقال أبو إسماعيل البطيحي وأصحابه وهم من الخوارج أن لا صلاة واجبة إلا ركعة واحدة بالغداة وركعة أخرى بالعشي فقط ويرون الحج في جميع شهور السنة ويحرمون أكل السمك حتى يذبح ولا يرون أخذ الجزية من المجوس ويكفرون من خطب في الفطرة والأضحى ويقولون أن أهل النار في النار في لذة ونعيم وأهل الجنة كذلك.
قال أبو محمد: وأصل أبي إسماعيل هذا من الأزارقة إلا أنه على عن سائر الأزارقة وزاد عليهم وقالت سائر الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق بإبطال رجم من زنى وهو محصن وقطعوا يد السارق من المنكب وأوجبوا على الحائض الصلاة والصيام في حيضها وقال بعضهم لا ولكن تقضي الصلاة إذا ظهرت كما تقتضي الصيام وأباحوا دم الأطفال ممن لم يكن في عسكرهم وقتل النساء أيضاً ممن ليس في عسكرهم وبرئت الأزارقة ممن قعدهن الخروج لضعف أو غيره وكفروا من خالف هذا القول بعد موت أول من قال به منهم ولم يكفروا من خالفه فيه في حياته وقالوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عسكرهم ويقتلونه إذا قال أنا مسلم ويحرمون قتل من انتمى إلى اليهود أو النصارى أو إلى المجوس وبهذا شهد رسول الله ﷺ بالمروق من الدين كما يمرق السهم من الرميه إذ قال عليه السلام أنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان وهذا من أعلام نبوته ﷺ إذ أنذر بذلك وهو من جزئيات الغيب فخرج نصاً كما قال.
قال أبو محمد: وقد بادت الأزارقة إنما كانوا هل عسكر واحد أو لهم نافع بن الأزرق وآخرهم عبدة بن هلال العسكري واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة إلا أني أشك في صبيح مولى سوار بن الأسعر المازني مازن تميم أخرج برأي الأزارقة أيام هشام بن عبد الملك أم برأي الصفرية لأن أمره لم يطل أسر أثر خروجه وقتل وقالت النجدات وهم أصحاب نجدة بن عويم الحنفي ليس على الناس أن يتخذوا إماماً إنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وقالوا من ضعف عن الهجرة إلى عسكرهم فهو منافق واستحلوا دم القعدة وأموالهم وقالوا من كذب كذبة صغيرة أو عمل عملاً صغيراً فأصر على ذلك فهو كافر مشرك وكذلك أيضاً في الكبائر وأن من عمل من الكبائر غير مصر عليها فهو مسلم وقالوا جائز أن يعذب الله المؤمنين بذنوبهم لكن في غير النار وأما النار فلا وقالوا أصحاب الكبائر منهم ليسوا كفاراً وأصحاب الكبائر من غيرهم كفار وقد بادت النجدات وقالت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر وكانوا يؤلون الحق بالباطل وقد بادت هذه الطائفة وقالت الميمونية وهم فرقة من العجاردة فرقة من الصفرية بإجازة نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات بني الأخوة والأخوات وذكر ذلك عنهم الحسين بن علي الكراسي وهو أحد الأئمة في الدين والحديث ولم يبق اليوم من فرق الخوارج إلا الإباضية والصفرية فقط وقالت طائفة من أصحاب البهيسية وهم أصحاب أبي بيهس وهم من فرق الصفرية إن كان صاحب كبيرة فيها حد فإنه لا يكفر حتى يرفع إلى الإمام فإذا أقام عليه الحد فحينئذ يكفر وقالت الرشيدية وهم من فرق الثعالبة والثعالبة من فرق الصفرية أن الواجب في الزكاة نصف العشر مما سقي بالأنهار والعيون وقالت العونية وهم طائفة من البيهسية التي ذكرنا آنفاً أن الإمام إذا قضي قضية جور وهو بخراسان أو بغيرها حيث كان من البلد ففي ذلك الحين نفسه يكفر هو وجميع رعيته حيث كانوا من شرق الأرض وغربها ولو بالأندلس واليمن فما بين ذلك من البلاد وقالوا أيضاً لو وقعت قطرة خمر ف يجب ماء بفلاة من الأرض فإن كل من خطر على ذلك الجب فشرب منه وهو لا دري ما وقع فيه كافر بالله تعالى قالوا إلا أن الله تعالى يوفق المؤمن لاجتنابه وقالت الفضيلية من الصفرية من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه بل اعتقد الكفر أو الدهرية أو اليهودية أو النصرانية فهو مسلم عند الله مؤمن ولا يضره إذ قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه وقالت طائفة من الصفرية أن النبي ﷺ إذا بعث ففي حين بعثه في ذلك الوقت من ذلك اليوم لزم جميع أهل المشرق والمغرب الإيمان به وإن لم يعرفو جميع ما جاء به من الشرائع فمن مات منهم قبل أن يبلغه شيء من ذلك مات كافراً وقالت العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد من الصفرية أن من بلغ الحلم من أولادهم وبناتهم فهم براء منه ومن دينه حتى يقر بالإسلام فيتولوه حينئذ.
قال أبو محمد: فعلى هذا إن قتله قاتل قبل أن يلفظ بالإسلام فلا قود ولا دية وإن مات لم يرث ولم يورث وقالت طائفة من العجاردة لا نتولى الأطفال قبل البلوغ ولا نبرأ منهم لكن نقف قال أبو محمد: والعجاردة هم الغالبون على خوارج خراسان كما أن النكار من الإباضية هم الغالبون على خوارج الأندلس وقالت المكرمية وهم أصحاب أبي مكرم وهم من الثعالبة أصحاب ثعلبة وهو من الصفرية وإلى قول الثعالبة رجع عبد الله بن أباض فبرئ منه أصحابه فهم لا يعرفونه اليوم ولقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنهم فما عرفه أحد منهم وكان من قول المكرمية هولاء أن من أتى كبيرة فقد جهل الله تعالى فهو كافر ليس من أجل الكبيرة كفر كلن لأنه جهل الله عز وجل فهو كافر بجهله بالله تعالى وقالت طائفة من الخوارج ما كان من المعاصي فيه حد كالزنا والسرقة والقذف فليس فاعله كافراً ولا مؤمناً ولا منافقاً وأما ما كان من المعاصي لأحد فيه فهو كفر وفاعله كافر وقالت الحفصية وهم أصحاب حفص بن ابي المقدام من الأباضية من عرف الله تعالى وكفر بالنبي ﷺ فهو كافر وليس بمشرك وإن جهل الله تعالى أو جحده فهو حينئذ مشرك وقال بعض أصحاب الحرث الأباضي المنافقون على عهد رسول الله ﷺ إنما كانوا موحدين لله تعالى أصحاب كبائر ومن حماقتهم قول بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه كان يقول كل ذنب صغير أو كبير ولو كان أخذ حبة خردل بغير حق أو كذبة خفيفة على سبيل المزاح فهي شرك بالله وفاعلها كافر مشرك مخلد في النار إلا أن يكون من أهل بدر فهو كافر مشرك من أهل الجنة وهذا حكم طلحة والزبير رضي الله عنهما عندهم ومن حماقاتهم قول عبد الله بن عيسى تلميذ بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد المذكور فإنه كان يقول أن المجانين والبهايم والأطفال ما لم يبلغوا الحلم فإنهم لا يألمون البتة لشيء مما ينزل بهم من العلل وحجته في ذلك أن الله تعالى لا يظلم أحداً.
قال أبو محمد: لعمري لقد طرد أصل المعتزلة وأن من خالفه في هذه المتلوث في الحماقة متكسع في التناقض.
ذكر شنع المعتزلة
قال أبو محمد: قالت المعتزلة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطغاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل ثم اختلفوا فقالت طائفة خلقها فاعلوها دون الله تعالى وقالت طائفة هي أفعال موجودة لا خالق لها أصلاً وقالت طائفة هي أفعال الطبيعة وهذا قول أهل الدهر بلا تكلف وقالت المعتزلة كلها حاشا ضرار بن عمرو المذكور وحاشا أبا سهل بشر بن العمير البغدادي النخاس بالرقيق أن الله عز وجل لا يقدر البتة على لطف يلطف به للكافر حتى يؤمن إيماناً يستحق به الجنة والله عز وجل ليس في قوته أحسن مما فعل بنا وإن هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر.
قال أبو محمد: هذا تعجيز مجرد للباري تعالى ووصف له بالنقص وكلهم لا نحاشى أحداً يقول أنه لا يقدر على المحال وعلى أن يجعل الجسم ساكناً متحركاً معاً في حال واحدة ولا على أن يجعل إنساناً واحداً في مكانين.
قال أبو محمد: وهذا تعجيز مجرد لله تعالى وإيجاب النهاية والإنقضاء لقدرته تعالى الله عن ذلك وقال أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولى عبد القيس بصري أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم أن لما يقدر الله تعالى عليه آخراً ولقدرته نهاية لو خرج إلى الفعل لم يقدر الله تعالى بعد ذلك على شيء أصلاً ولا على خلق ذرة فما فوقها ولا إحياء بعوضة ميتة ولا على تحريك ورقة فما فوقها ولا على أن يفعل شيئاً أصلاً.
قال أبو محمد: وهذه حالة من الضعف والمهانة والعجز قد ارتفعت البق والبراغيث والدود مدة حياتها عنها وعن أن توصف بها وهذا كفر مجرد لا خفاء به يزعم أبو الهذيل أيضاً أن أهل الجنة وأهل النار تفنى حركاتهم حتى يصيروا جماداً لا يقدرون على تحريك شيء من أعضائهم ولا على البراح من مواضعهم وهم في تلك الحال متلذذون ومتألمون إلا أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يطئون بعد هذا أبداً وكان يزعم أيضاً أن لما يعلمه عز وجل آخر أو نهاية وكلا لا يعلم الله شيئاً سواه وادعى قوم من المعتزلة أنه تاب عن هذه الطوام الثلاث.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح وإنما ادعوا ذلك حياء من هذه الكفرات الصلع لإمام إمام الضلالة وذكر عن أبي الهذيل أيضاً أنه قال أن الله عز وجل ليس خلافاً لخلقه والعجب أنه مع الإقدام العظيم ينكر الشبيه وهذا عين التشبيه لأنه ليس إلا خلاف أو مثل أو ضد فإذا بطل أن يكون خلافاً وضداً فهو مثل ولا بد تعالى الله عن هذا علواً كبيراً وكان أبو الهذيل يقول أن الله لم يزل عليماً وكان ينكر أن يقال أن الله لم يزل سميعاً بصيراً.
قال أبو محمد: وهذا خلاف القرآن لأن الله عز وجل قال " وكان الله سميعاً بصيراً " كما قال " وكان الله عليماً حكيماً " وكلهم قال أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من مات كافراً فإنه لا يؤمن أبداً وأنه تعالى حكم وقال أن أبا لهب وامرأته سيصليان النار كافرين ثم قطعوا كلهم بأن أبا لهب وامرأته كانا قادرين على الإيمان وعلى أن لا تمسهما النار وأنهما كان ممكناً لهما تكذيب الله عز وجل وأنهما كانا قادرين على إبطال علم الله عز وجل وعلى أن يجعلاه كاذباً في قوله هذا نص قولهم بلا تأويل قال وكان إبراهيم بن سيار النظام أبو إسحاق البصري مولى بني بحير بن الحارث بن عباد الضبعي أكبر شيوخ المعتزلة ومقدمة علمائهم يقول أن الله تعالى لا يقدر على ظلم أحد أصلاً ولا على شيء من الشر وأن الناس يقدرون على كل ذلك وأنه تعالى لو كان قادراً على ذلك لكنا لا نأمن أن يفعله أو أنه قد فعله فكان الناس عنده أتم قدرة من الله تعالى وكان يصرح بأن الله تعالى لا يقدر على إخراج أحد من جهنم ولا إخراج أحد من أهل الجنة عنها ولا على طرح طفل من جهنم وأن الناس وكل واحد من الجن والملائكة يقدرون على ذلك فكان الله عز وجل عنده أعجز من كل ضعيف من خلقه وكان كل أحد من الخلق أتم قدرة من الله تعالى وهذا الكفر المجرد الذي نعوذ بالله منه ومن العجب اتفاق النظام والعلاف شيخي المعتزلة على أنه ليس يقدر الله تعالى من الخير على أصلح مما عمل فاتفقا على أن قدرته على الخير متناهية ثم قال النظام أنه تعالى لا يقدر على الشر جملة فجعله عديم قدرة على الشر عاجزاً عنه وقال العلاف بل هو قادر على الشر جملة فجعل ربه متناهي القدرة على الخير وغير متناهي القدرة على الشر فهل سمع بأخبث صفة من الصفة التي وصف بها العلاف ربه وهل في الموصوفين أخبث طبيعة من الموصوف الذي ادعى العلاف أنه ربه ونعوذ بالله مما ابتلاهم به وأما أبو المعتمر معمر بن عمرو العطار البصري مولى بني سليم أحد شيوخهم وأئمتهم فكان يقول بأن في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ولا يحصيها الباري تعالى ولا أحد أيضاً غيره ولا لها عنده مقدار ولا عدد وذلك أنه كان يقول أن الأشياء تختلف بمعان فيها وأن تلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وتلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وهكذا بلا نهاية أيضاً تكذيب واضح لله تعالى في قوله " وكل شيء عنده بمقدار " وفي قوله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " وتوافقه الدهرية في قولهم بوجود أشياء لا نهاية لها وعلى هذا طلبته المعتزلة بالبصرة عند السلطان حتى فر إلى بغداد ومات بها مختفياً عند إبراهيم بن السيد بن شاهك وكان معمر أيضاً يزعم أن الله عز وجل لم يخلق شيئاً من الألوان ولا طولاً ولا عرضاً ولا طعماً ولا رائحة ولا خشونة ولا أملاساً ولا حسناً ولا قبيحاً ولا صوتاً ولا قوة ولا ضعفاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشرواً ولا مرضاً ولا صحة ولا عافية ولا سقماً ولا عمى ولا بكماً ولا بصراً ولا سمعاً ولا فصاحة ولا فساداً للثمار ولا صلاحها وإن كل ذلك فعل الأجسام التي وجدت فيها هذه الأعراض بطباعها فاعلموا أن هذا الفاسق قد أخرج نصف العالم عن خلق الله تعالى لأنه ليس للعالم شيء إلا الجواهر الحاملة والأعراض المحمولة فقط فالنصف الواحد عنده غير مخلوق لعنه الله من مكذب لله تعالى في نص قوله تعالى " خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " وقد عورض معمر بهذه الآية فقال إنما أراد أنه خلق الإماتة والإحياء وذكر عنه أنه كان ينكر أن يكون الله عز وجل عالماً بنفسه وذلك لأن العالم إنما يعلم غيره ولا يعلم نفسه وكان يزعم أن النفس ليست جسماً ولا عرضاً ولا هي في مكان أصلاً ولا تماس شيئاً ولا قال أبو محمد: وهذا قول أهل الإلحاد محضاً بلا تأويل يعني القائلين منهم بقدم النفس وأنها الخالقة للإنسان نعوذ بالله من الضلال وكان يقول أن الله تعالى لا يعلم نفسه ولا يجهلها لأن العالم غير المعلوم ومحال أن يقدر على الموجودات أو أن يعملها أو أن يجهلها وقال أبو العباس عبد الله بن محمد الأنباري المعروف بالناشي ولقبه شرسير في كتابه في المقالات أن الله تعالى عن كفره لا يقدر على أن يسوي بنان الإنسان بعد أن سبق في علمه أنه لا يسويها.
قال أبو محمد: وهذا تكذيب محض لله تعالى في قوله " أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه " ورأيت للجاحظ في كتابه البرهان لو أن سائلاً سأله وقال أيقدر الله على أن يخلق قبل الدنيا دنيا أخرى فجوابه نعم بمعنى أنه يخلق تلك الدنيا حين خلق هذه فتكون مثل هذه.
كن أبو محمد: هذا تعجيز منه للباري تعالى كما قدمنا إذ لم تحصل له تعالى قدرة على خلق دنيا قبل هذه إلا على الوجه الذي ذكره وأما على غيره فلا فإن قيل كيف تجيبون قلنا جوابنا نعم على الإطلاق فإن قيل لنا كيف يصح هذا السؤال وأنتم تقولون أنه لا يجوز أن يقال أن قبل العالم شيئاً لأن قبل وبعد من الزمان ولا زمان هنالك قلنا معنى قولنا نعم أي أنه تعالى لم يزل قادراً على أن يخلق عالماً لو خلقه لكان له زمان قبل زمان هذا العالم وهكذا أبداً وبالله تعالى التوفيق وأما ضرار بن عمر فإنه كان يقول إن ممكناً أن يكون جميع من في الأرض ممن يظهر الإسلام كفاراً كلهم في باطن أمرهم لأن كل ذلك جائز على كل واحد منهم في ذاته ومن حماقات ضرار أنه كان يقول أن الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة وأن النار ليس فيها حر ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في العروق دم وإن كل ذلك إنما يخلقه الله عز وجل عند القطع والذوق والعصر واللمس فقط وأما أبو عثمان عمرو بن الجاحظ القصري الكناني صليبه وقيل بل مولى وهو تلميذ النظام وأحد شيوخ المعتزلة فإنه كان يقول أن الله تعالى لا يقدر على إفناء الأجسام البتة إلا أن يرققها ويفرق أجزائها فقط وأما إعدامها فلا يقدر على ذلك أصلاً وأما أبو معمر وثمامة بن أشرس النميري صليبه بصري أحد شيوخ المعتزلة وعلمائهم فذكر عنه أنه كان يقول أن العالم فعل الله عز وجل بطباعه تعالى الله عن هذا الكفر الشنيع علواً كبيراً وكان يزعم أن المقلدين من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان لا يدخلون النار يوم القيامة لكن يصيرون تراباً وإن كل من مات من أهل الإسلام والإيمان المحض والاجتهاد في العبادة مصراً على كبيرة من الكبائر كشرب الخمر ونحوها وإن كان لم يواقع ذلك إلا مرة في الدهر فإنه مخلد بين أطباق النيران أبداً مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل.
قال أبو محمد: فأي كفر أعجب من قول من يقول أن كثيراً من الكفار لا يدخلون النار وإن كثيراً من المسلمين لا يدخلون الجنة وكان ثمامة بن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ وجميع أولاد المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وجميع مجانين الإسلام لا يدخلون الجنة أبداً لكن يصيرون تراباً وأما هشام بن عمرو الفوطي أحد شيوخ المعتزلة فكان يقول إذا خلق الله تعالى شيئاً فإنه لا يقدر على أن يخلق مثل ذلك الشيء أبداً لكن يقدر على أن يخلق غيره والغيران عنده لا يكونان مثلين وكان لا يجيز لأحد أن يقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا أن الله يعذب الكفار بالنار ولا أنه يحيي الأرض بالمطر ويرى هذا القول والقول بأن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ضلالاً وإلحاداً.
قال أبو محمد: وهذا رد الله جهاراً وكان يقول لا يحل القول بشيء من هذا إلا عند قراءة القرآن فقط وكان يقول قولوا حسبنا الله ونعم المتوكل عليه وكان يقول قولوا أن الله يعذب الكفار في النار ويحيي الأرض عند نزول المطر وكان لا يجيز القول بأن الله ألف بين قلوب المؤمنين ولا أن القرآن عماً على الكافرين وكان يقول أن من هو الآن مؤمن عابد إلا أن في علم الله إنه يموت كافراً فإنه الآن عند الله كافر وإن من كان الآن كافراً مجوسياً أو نصرانياً أو دهرياً أو زنديقاً إلا أن في علم الله عز وجل أنه يموت مؤمناً فإنه الآن عند الله مؤمن وأما عبد بن سليمان تلميذ هشام الفوطي المذكور فكان يزعم أن الله تعالى لا يقدر على غير ما فعل من الصلاح ولا يجيز أن يقال أن الله خلق المؤمنين ولا أنه خلق الكافرين ولكن يقال خلق الناس وذلك زعم لأن المؤمن عنده إنسان وإيمان والكفار إنسان وكفر وأن الله تعالى إنما خلق عنده الإنسان فقط ولم يخلق الإيمان ولا الكفر وكان يقول أن الله تعالى لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق وأنه تعالى لم يخلق المجاعة ولا القحط وكلهم يزعم أن الله تعالى لم يأمر الكفار قط بأن يؤمنوا في حال كفرهم ولا نهى المؤمنين قط عن الكفر في حال إيمانهم لأنه لا يقدر أحد قط على الجمع بين الفعلين المتضادين.
قال أبو محمد: وهم مقرون أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من يؤمن بعد كفره فإنه لا يزال في كفره إلى أن يؤمن وأن من يكفر بعد إيمانه فإنه لا يزال في إيمانه حتى يكفر وأن من لا يؤمن من الكفار أبداً فإنه لا يزال في كفره إلى أن يموت وأن من لا يكفر من المؤمنين فإنه لا يزال في إيمانه إلى أن يموت وليس أحد من المأمورين يخرج عن أحد هذه الوجوه الأربعة ضرورة فإذا كان عندهم لم يؤمر قط كافر بالإيمان في حال كفره ولا نهى مؤمن عن الكفر في حال إيمانه فإن من لم يزل مؤمناً إلى أن مات لم ينهه الله عز وجل عن الكفر قط وأن من لم يزل كافراً إلى أن مات فإن الله لم يأمره قط بالإيمان وأن الله تعالى لم يأمر قط بالإيمان من آمن بعد كفره إلا حين آمن ولا نهى قط عن الكفر من كفر بعد إيمانه إلا حين كفر وهذا تكذيب مجرد لله تعالى في أمره الكفار وأهل الكتاب بالإيمان ونهيه المؤمنين عن الكفر وكان بشر بن المعتمر أيضاً يقول أن الله تعالى لم يخلق قط لوناً ولا طعماً ولا رائحة ولا مجسة ولا شدة ولا ضعفاً ولا عماً ولا بصراً ولا سمعاً ولا صمماً ولا جبناً ولا شجاعة ولا كشفاً ولا عجزاً ولا صحة ولا مرضاً وأن الناس يفعلون كل ذلك فقط وأما جعفر القصبي بايع القصب والأشج وهما من رؤسائهم فكانا يقولان أن القرآن ليس هو في المصاحف إنما في المصاحف شيء آخر وهو حكاية القرآن.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد وخلاف جميع أهل الإسلام قديماً وحديثاً وكان على الأسواري البصري أحد شيوخالمعتزلة يقول أن الله عز وجل لا يقدر على غير ما فعل وإن من علم الله تعالى أنه يموت ابن ثمانين سنة فإن الله لا يقدر على أن يميته قبل ذلك ولا أن يبقيه طرفة عين بعد ذلك وأن من علم الله تعالى من مرضه يوم الخميس مع الزوال مثلاً فإن الله تعالى لا يقدر على أن يبريه قبل ذلك لا بما قرب ولا بما بعد ولا على أن يزيد في مرضه طرفة عين فما فوقها وأن الناس يقدرون كل حين على إماتة من علم الله أن لا يموت إلا وقت كذا وأن الله لا يقدر على ذلك وهذا كفر ما سمع قط بأفظع منه وأما أبو غفار أحد شيوخ المعتزلة فكان يزعم أن شحم الخنزير ودماغه حلال.
قال أبو محمد: وهذا كفر صريح لا خفاء به وكان يزعم أن تفخيذ الرجال الذكور حلال وقد ذكر هذا عن ثمامة أيضاً وكل هذا كفر محض وأما أحمد ابن خابط والفضل الحربي البصريان وكانا تلميذين لإبراهيم النظام فكانا يزعمان أن للعالم خالقين أحدهما قديم وهو الله تعالى والآخر حادث وهو كلمة الله عز وجل المسيح عيسى بن مريم التي بها خلق العالم وكانا لعنهما الله يطعنان على النبي ﷺ بالتزويج وأن أبا ذر كان أزهد منه وكان أحمد بن خابط يزعم أن الذي يجيء به يوم القيامة مع الملائكة صفاً صفاً في ظلل من الغمام إنما هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وإن الذي خلق آدم على صورته إنما هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وإن المسيح هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة وكان أحمد بن خابط لعنه الله يقول أن في كل نوع من أنواع الطير والسمك وسائر حيوان البر حتى البق والبراغيث والقمل والقرود والكلاب والفيران والتيوس والحمير والدور والوزغ والجعلان أنبياء الله تعالى رسالة إلى أنواعهم مما ذكرنا ومن سائر الأنواع وكان لعنه الله يقول بالتناسخ والكرور وأن الله تعالى ابتدا جميع الخلق فخلقهم كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أمرهم ونهاهم فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة فالعتال يبلتي بالريح كالغنم والإبل والبقر وغير ذلك من البراغيث وكل ما يقتل في الأغلب وإن من كان منهم في فسقه وقتله للناس عفيفاً كوفي بالقوة على السفناد كالتيس والعصفور والكبش وغير ذلك من كان زانياً أوزانية كوفيا بالمنع من الجمال كالبغال والبغلات ومن كان جباراً كوفي بالمهانة كالدود والقمل ولا يزالون كذلك حتى يقتص منهم ثم يردون فمن عصى منهم كرر أيضاً كذلك هكذا أبداً حتى يطيع طاعة لا معصية معها فينتقل إلى الجنة من وقته أو يعصي معصية لا طاعة معها فينتقل إلى جهنم من وقته وإنما حمله على القول بكل هذا لزومه أصل المعتزلة في العدل وطرده إياه ومشبه معه واعلموا أن كل من لم يقل من المعتزلة بهذا القول فإنه متناقض تارك لأصلهم في العدل وكان لعنه الله يقول أن للثواب دارين إحداهما لا أكل فيها ولا شرب وهي أرفع قدراً من الثانية والثانية فيها أكل وشرب وهي أنقص قدراً.
قال أبو محمد: هذا كله كفر محض وكان لهذا الكافر أحمد بن خابط تلميذ على مذهبه يقال له أحمد بن سابوس كان يقول بقول معلمه في التناسخ ثم ادعى النبوة وقال أنه المراد بقول الله عز وجل ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وكان محمد بن عبد الله بن مرة بن نجيح الأندلسي يوافق المعتزلة في القدر وكان يقول أن علم الله وقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وأن لله تعالى علمين أحدهما أحدثه جملة وهو علم الكتاب وهو علم الغيب كعلمه أنه سيكون كفار ومؤمنون والقيامة والجزا ونحو ذلك والثاني علم الجزئيات وهو علم الشهادة وهو كفر زيد وإيمان عمر ونحو ذلك فإنه لا يعلم الله تعالى من ذلك شيئاً حتى يكون وذكر قول الله تعالى " عالم الغيب والشهادة ".
قال أبو محمد: وهذا ليس كما ظن بل على ظاهره أنه يعلم ما تفعلون وإن أخفيتم ويعلم ما غاب عنكم مما كان أو يكون أو هو كائن.
قال أبو محمد: وإنما حمله على هذا القول طرده لأصول المعتزلة حقاً فإن من قال منهم إن الله تعالى لم يزل يعلم أن فلاناً لا يؤمن أبداً وأن فلاناً لا يكفر أبداً ثم جعل الناس قادرين على تكذيب كلام ربهم وعلى إبطال ما لم يزل وهذا تناقض فاحش لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان وكان من أصحابه جماعة يكفرون من قال أنه عز وجل لم يزل يعلم كل ما يكون قبل أن يكون وكان من أصحاب مذهبه رجل يقال له إسماعيل بن عبد الله الرعيني متأخر الوقت وكان من المجتهدين في العبادة المنقطعين في الزهد وأدركته إلا أني لم ألقه ثم أحدث أقوالاً سبعة فبرئ منه سائر المرية وكفروه إلا من اتبعه منهم فمما أحدث قوله أن الأجساد لا تبعث أبداً وإنما تبعث الأرواح صح هذا عندنا عنه وذكر عنه أنه كان يقول أنه حين موت الإنسان وفراق روحه لجسده تلقى روحه الحساب ويصير إما إلى الجنة أو إلى النار وأنه كان لا يقر بالبعث إلا على هذا الوجه وأنه كان يقول أن العالم لا يفنى أبداً بل هكذا يكون الأمر بلا نهاية وحدثني الفقيه أبو أحمد المعارفي الطليطلي صاحبنا أحسن الله ذكره قال أخبرني يحيى بن أحمد الطبيب وهو ابن ابنة إسماعيل الرعيني المذكور قال أن جدي كان يقول أن العرش هو المدبر للعالم وأن الله تعالى أجل من أن يوصف بفعل شيء أصلاً وكان ينسب هذا القول إلى محمد بن عبد الله بن مسرة ويحتج بألفاظ في كتبه ليس فيها لعمري دليل على هذا القول وكان يقول لسائر المرية إنكم لن تفهموا عن الشيخ فبرئت منه المرية أيضاً على هذا القول وكان أحمد الطبيب صهره ممن برئ منه وتثبتت ابنته على هذه الأقوال متبعة لأبيها مخالفة لزوجها وابنها وكانت متكلمة ناسكة مجتهدة وواقفت أبا هارون بن إسماعيل الرعيني على هذا القول فأنكره وبرئ من قائله وكذب ابن أخيه فميا ذكر عن أبيه وكان مخالفوه من المرية وكثير من موافقيه ينسبون إليه القول باكتساب النبوة وأن من بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس أدرك النبوة وأنها ليست اختصاصاً أصلاً وقد رأينا منهم من ينسب هذا القول إلى ابن مرة ويستدل على ذلك بألفاظ كثيرة في كتبه هي لعمري لتشير إلى ذلك ورأينا سائرهم ينكر هذا فالله أعلم ورأيت أنا من أصحاب إسماعيل الرعيني المذكور من يصفه بفهم منطق الطير وبأنه كان ينذر بأشياء قبل أن تكون فتكون وأما الذي لا شك فيه فإنه كان عند فرقته إماماً واجبة طاعته يؤدون إليه زكاة أموالهم وكان يذهب إلى أن الحرام قد عم الأرض وأنه لا فرق بين ما يكتسبه المرء من صناعة أو تجارة أم ميراث أو بين ما يكتسبه من الرفاق وإن الذي يحل للمسلم من كل ذلك قوته كيف ما أخذه هذا أمر صحيح عندنا عنه يقيناً وأخبرنا عنه بعض من عرف باطن أمورهم أنه كان يرى الدار دار كفر مباحة دماؤهم وأموالهم إلا أصحابه فقط وصح عندنا عنه أنه كان يقول بنكاح المتعة وهذا لا يقدح إيمانه ولا في عدالته لو قاله مجتهداً ولم تقم عليه الحجة بنسخه لو سلم من الكفرات الصلع التي ذكرنا وإنما ذكرنا عنه ما جرى لنا من ذكره ولغرابة هذا القول اليوم وقلة القائلين به من الناس ورأيت لأبي هاشم عبد السلام ابن محمد بن عبد الوهاب الجنائي كبير المعتزلة وابن كبيرهم القطع بأن لله تعالى أحوالاً مختصة به وهذه عظيمة جداً إذ جعله حاملاً للأعراض تعالى الله عن هذا الأفك ورأيت له القطع في كتبه كثيراً يردد القول بأنه يجب على الله أن يزيح علل العباد في كل ما أمرهم به ولا يزال يقول في كتبه أن أمر كذا لم يزل واجباً على الله.
قال أبو محمد: وهذا كلام تقشعر منه ذوائب المؤمن ليت شعري من الموجب ذلك على الله تعالى والحاكم عليه بذلك والملزم له ما ذكر هذا النذل لزومه للباري تعالى ووجوبه عليه فيا لله لمن قال أن الفعل أوجب ذلك على الله تعالى أو ذكر شيئاً دونه تعالى ليصرحن بأن الله تعالى متعبد للذي أوجب عليه ما أوجب محكوم عليه مدبر وأنه للكفر الصراح ولئن قال أنه تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه فالإيجاب فعل فاعل لا شك فإن كان الله لم يزل موجباً ذلك على نفسه فلم يزل فاعلاً فالأفعال قديمة ولا بد لم تزل وهذه دهرية محضة وإن كان تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن موجباً له فقد بطل انتفاعه بهذا القول في أصله الفاسد لأنه قد كان تعالى غير واجب عليه ما ذكر ورأيت لبعض المعتزلة سوء الأسائل عنه أبا هاشم المذكور يقول فيه ما بال كل من بعثه النبي ﷺ داعياً إلى الإسلام إلى اليمن والبحرين وعمان والملوك وسائر البلاد وكل من يدعو إلى مثل ذلك إلى يوم البعث لا يسمى رسول الله كما سمى محمد عليه السلام إذ أمره الملك عن الله عز وجل بالدعاء إلى الإسلام والأمر واحد والعمل سواء.
قال أبو محمد: فأعجبوا لتلاعب إبليس بهذه الفرقة الملعونة وسلوا الله العافية من أن يكلكم إلى أنفسكم فحق لمن دينه أن ربه لا يقدر على أن يهديه ولا على أن يضله إن يتمكن الشيطان منه هذا التمكن ولعمري أن هذا السؤال لقد لزم أصل المعتزلة المضل لهم ولمن التزمه والمورد لجميعهم نار جهنم وهو قولهم أن التسمية موكولة إلينا لا إلا الله عز وجل ورأيت لهذا الكافر أبي هاشم كلاماً رد فيه بزعمه على من يقول أنه ليس لأحد أن يسمي الله عز وجل إلا بما سبى به نفسه فقال هذا النذل لو كان هذا ولم يجز لأحد أن يسمي الله تعالى عز وجل إلا بما سمى به نفسه لكان غير جائز لله أن يسمي نفسه باسم حتى يسميه به غيره.
قال أبو محمد: فهل يأتي الممرور بأقبح من هذا الاستدلال وهل في التسمية أكثر من هذا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من أن يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك وكان أبو هاشم أيضاً يقول أنه لو طال عمر المسلم المحسن لجاز أن يعمل من الحسنات والخير أكثر مما عمل النبي ﷺ.
قال أبو محمد: لا والله ولا كرامة ولو عمر أحدنا الدهر كله في طاعات متصلة ما وازى عمل أمرء صحب النبي ﷺ من غير المنافقين والكفار المجاهرين ساعة واحدة فما فوقها مع قوله ﷺ أنه لو كان لأحدثنا مثل أحد ذهباً فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فمتى يطمع ذو عقل أن يدرك أحداً من الصحابة مع هذا البون الممتنع إدراكه قطعاً وكان أبو هاشم المذكور يقول أنه لا يقبل توبة أحد من ذنب عمله أي ذنب كان حتى يتوب من جميع الذنوب.
قال أبو محمد: وحقاً أقول لقد طرد أصل المعتزلة الذي أطبقوا عليه من إخراج المرء عن الإسلام جملة بذنب واحد عمله يصر عليه وإيجابهم الخلود في النار عليه بذلك الذنب وحده فلو كان هذا لكان أبو هاشم صادقاً إذ لا منفعة له عندهم في تركه كل ذنب وهو بذنب واحد يصر عليه خارج عن الإيمان مخلد بين أطباق النيران وما ينكر هذا عليه من المعتزلة إلا جاهل بأصولهم أو عامد للتناقض وكان يقول إن تارك الصلاة وتارك الزكاة عامداً لكل ذلك لم يفعل شيئاً ولا أذنب ولا عصي وأنه مخلد بين أطباق النيران أبداً على غير فعل فعله ولا على شيء ارتكبه.
قال أبو محمد: فهل في التجوير لله على أصولهم وهل في مخالفة الإسلام جهاراً أكثر من هذا القول السخيف وكأن الذي حمله على قوله هذا قوله أنه ترك الفعل ليس فعلاً وجميع المعتزلة إلا هشام بن عمرو الفوطي يزعمون أن المعدومات أشياء على الحقيقة وأنها لم تزل وأنها لا نهاية لها.
قال أبو محمد: وهذه دهرية بلا مطل وأشياء لا نهاية لها لم تزل غير مخلوقة وكان عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط من أكابر المعتزلة ببغداد ممن يقول أن الأجسام المعدومة لم تزل أجساماً بلا نهاية لها لا في عدد ولا في زمان غير مخلوقة وقال أبو محمد عبد الله الاسكافي أحد رؤساء المعتزلة أن الله تعالى لم يخلق الطنابير ولا المزامير ولا المعازف.
قال أبو محمد: كان من تمام هذا الكفر أن يقول أن الله لم يخلق الخمر ولا الخنازير ولا مردة الشياطين وقالت المعتزلة بأسرها حاشا بشر بن المعتمر وضرار ابن عمرو أنه لا يحل لأحد تمني الشهادة ولا أن يريدها ولا أن يرضاها لأنها تغليب كافر على مسلم وإنما يجب على المسلم قال أبو محمد: وهذا خلاف دين الإسلام والقرآن والسنن والإجماع المتقين وقالوا كلهم حاشا ضراراً وبشراً أن الله لم يمت رسولاً ولا نبياً ولا صاحب نبي ولا أمهات المؤمنين وهو يدري أنهم لو عاشوا فعلوا خيراً لكن أمات كل من أمات منهم إذ علم أنه لو أبقاه طرفة عين لكفر أو فسق ولا بد هذا قولهم في أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة بنت رسول الله ﷺ وعائشة وخديجة نعم وفي رسول الله ﷺ وموسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام فأعجبوا لهذه الضلالات الوحشية وكان الجعد وهو من شيوخهم يقول إذا كان الجماع يتولد منه الولد فأنا صانع ولدي ومدبره وفاعله لا فاعل له غيري وإنما يقال إن الله خلقه مجازاً لا حقيقة فأخذ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي الطرف الثاني من الكفر فقال إن الله تعالى خلق الحبل والموت وكل من فعل شيئاً فهو منسوب إليه فإن الله تعالى هو محبل النساء وهو أحبل مريم بنت عمران.
قال أبو محمد: يلزم ولا بد إذا كان أولادنا خلقاً لله عز وجل أن يضيفهم إليه فيقول هم أبناء الله والمسيح ابن الله ولا بد وقال أبو عمر وأحمد بن موسى بن احدير صاحب السكة وهو من شيوخ المعتزلة في بعض رسائله التي جرت بينه وبين القاضي منذر بن سعيد رحمه الله أن الله عاقل وأطلق عليه هذا الاسم وقال بعض شيوخ المعتزلة أن العبد إذا عصى الله عز وجل طبع على قلبه فيصير غير مأمور ولا منهي وأما حماقاتهم فإن أبا الهذيل العلاف قال من سرق خمسة دراهم أو قيمتها فهو فاس منسلخ من الإسلام مخلد أبداً في النيران إلا أن يتوب وقال بشر بن المعتمر أن من سرق عشرة دراهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد فإن سرق عشرة دراهم خرج عن الإسلام ووجب عليه الخلود إلا أن يتوب وقال النظام إن سرق مأتي درهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد وإن سرق مأتي درهم خرج عن الإسلام ولزمه الخلود إلا أن يتوب وقال أبو بكر أحمد بن علي بن أحور بن الأخشيد وهو أحد رؤسائهم الثلاثة الذين انتهت رياستهم إليهم وافترقت المعتزلة على مذاهبهم والثاني منهم أبو هاشم الجبائي والثالث عبد الله بن محمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي وكان والد أحمد بن علي المذكور أحد قواد الفراعنة وولي الثغور للمعتضد وللمكتفي فكان من قول أحمد المذكور أن من ارتكب كل ذنب في الدنيا وهكذا أبداً متى عاد لذلك الذنب أو لغيره من القتل فما دونه إلا أنه ندم أثر فعله له فقد صحت توبته وسقط عنه ذلك الذنب أبداً وهكذا أبداً متى عاد لذلك الذنب أو لغيره.
قال أبو محمد: هذا قول لم يبلغه جماهير المرجئة وهو مع ذلك يدعي القول بإنفاذ الوعد والوعيد وما على أديم الأرض مسلم لا يندم على ذنبه وقال عبد الرحمن تلميذ أبي الهذيل أن الحجة لا تقوم في الأخبار إلا بنقل خمسة يكون فيهم ولي لله لا أعرفه بعينه وعن كل واحد من أولئك الخمسة خمسة مثلهم وهكذا أبداً وقال صالح تلميذ النظام أن من رأى رؤيا أنه بالهند أو أنه قتل أو أنه أي شيء رأى فإنه حق يقين كما رأى كما لو كان ذلك في اليقظة وقال عباد بن سليمان الحواس سبع وقال النظام الألوان جسم وقد يكون جسمان في مكان واحد وكان النظام يقول لا نعرف الأجسام بالأخبار أصلاً لكن كل من رأى جسماً سواء كان المرئي إنساناً أو غير إنسان فإن الناظر إليه اقتطع منه قطعة اختلطت بجسم الرائي ثم كل من أخبره ذلك الرائي عن ذلك الجسم فإن المخبر أيضاً أخذ من تلك القطعة قطعة وهكذا أبداً.
قال أبو محمد: وهذه قصة لولا أننا وجدناها عنه من طريق تلامذته المعظمين له ذكروها في كتبهم عنه ما عرفناهم على ذي مسكة من عقل فألزمه خصومه على هذا أن قطعاً من جبريل وميكائيل ومن النبي ﷺ ومن موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام في نار جهنم وأن قطعاً من فرعون وإبليس وأبي لهب وأبي جهل في الجنة وكان يزعم أنه لا سكون في شيء من العالم أصلاً وأن كل سكون يعلم بتوسط البصر فهو حركة بلا شك وكان معمر يزعم أنه لا حركة في شيء من العالم وأن كل ما يسميه الناس حركة فهو سكون وكان عباد بن سليمان يقول أن الأمة إذا اجتمعت وصلحت ولم تتظالم احتاجت حينئذ إلى إمام يسوسها ويدبرها وإن عصت وفجرت وظلمت استغنت عن الإمام وكان أبو الهذيل يقول أن الإنسان لا يفعل شيئاً في حال استطاعته وإنما يفعل بالاستطاعة بعد ذهابها فألزمه خصومه أن الإنسان إنما يفعل إذا لم يكن مستطيعاً وأما إذا كان مستطيعاً فلا وإن الميت يفعل كل فعل في العالم.
قال أبو محمد: وحماقاتهم أكثر من ذلك نعوذ بالله من الخذلان.
شنع المرجئية
قال أبو محمد: غلاة المرجئية طائفتان إحداهما الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز وجل ولي له عز وجل من أهل الجنة وهذا قول محمد ابن كرام السجستاني وأصحابه وهو بخراسان وبيت المقدس والثانية الطائفة القائلة أن الإيمان عقد بالقلب ون أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ولي لله عز وجل من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما فأما الجهمية فبخراسان وأما الأشعرية فكانوا ببغداد والبصرة ثم قامت له سوق بصقلية والقيروان والأندلس ثم رق أمرهم والحمد لله رب العالمين فمن فضايح الجهمية وشنعهم قولهم بأن علم الله تعالى محدث مخلوق وأنه تعالى لم يكن يعلم شيئاً حتى أحدث لنفسه علماً علم به وكذلك قولهم في القدرة وقال أيضاً أن الجنة والنار يفنيان ويفنى كل من فيهما وهذا خلاف القرآن والثابت عن رسول الله ﷺ وخلاف إجماع أهل الإسلام والمتيقن وقال بعض الكرامية المنافقون مؤمنون من أهل الجنة وقد أطلق ذلك بالمرية محمد بن عيسى الصوفي الألبيري وكانت الفاظه تدل على أنه يذهب مذهبهم في التجسيم وغيره وكان ناسكاً متقللاً من الدنيا واعظاً مفوهاً مهذاراً قليل الصواب كثير الخطأ رأيته مرة وسمعته يقول إن النبي ﷺ كان لا يلزمه زكاة مال لأنه اختار أن يكون نبياً عبداً والعبد لا زكاة عليه ولذلك لم يورث ولا ورث فأمسكت عن معارضته لأن العامة كانت تحضره فخشيت لغطهم وتشنيعهم بالباطل ولم يكن معي أحد إلا يحيى بن عبد الكثير بن وافد كنت أتيت أنا وهو معي متنكرين لنسمع كلامه وبلغتني عنه شنع منها القول بحلول الله فيما يشاء من خلقه أخبرني عنه بهذا أبو أحمد الفقيه المعافري عن أبي علي المقري وكان على بنت محمد بن عيسى المذكور وغير هذا أيضاً ونعوذ بالله من الضلال وقالت طائفة من الكرامية المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار وقالت طائفة منهم أيضاً من آمن بالله وكفر بالنبي ﷺ فهو مؤمن كافر معاً ليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً إلى الإطلاق وقال مقاتل ابن سليمان وكان من كبار المرجئة لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلاً ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً وكان مقاتل هذا مع جهم بخراسان في وقت واحد وكان يخالفه في التجسيم كان جهم يقول ليس الله تعالى شيئاً ولا هو أيضاً لا شيء لأنه تعالى خالق كل شيء فلا شيء إلا مخلوق وكان مقاتل يقول إن الله جسم ولحم ودم على صورة الإنسان وقالت الكرامية الأنبياء يجوز منهم كبائر المعاصي كلها حاشا الكذب في البلاغ فقط فإنهم معصومون منه وذكر لي سليمان بن خلف الباجي وهو من رؤوس الأشعرية أن فيهم من يقول أيضاً أن الكذب في البلاغ أيضاً جائز من الأنبياء والرسول عليهم السلام.
قال أبو محمد: وكل هذا كفر محض وذكر عنهم محمد بن الحسن بن فورك الأشعري أنهم يقولون أن الله تعالى يفعل كما يفعل في ذاته وأنه لا يقدر على إفناء خلقه كله حتى يبقى وحده كما كان قبل أن يخلق وقالوا أيضاً أن كلام الله تعالى أصوات وحروف هجاء مجتمعة كلها أبداً لم تزل ولا تزال وقالوا أيضاً لا يقدر الله على غير ما فعل وقالوا أيضاً أنه متحرك أبيض اللون وذكر عنهم أنهم يقولون أنه تعالى لا يقدر على إعادة الأجسام بعد بلائها لكن يقدر على أن يخلق مثلها ومن حماقاتها أنهم يجيزون كون إمامين وأكثر في وقت واحد وأما الأشعرية فقالوا أن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بها باللسان بلا تقية ولا حكاية والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في قلبه كفراً فقلنا لهم وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل فقالوا لا وقالت الأشعرية أن إبليس قد فكر ثم أعلن بعصيان الله تعالى في السجود لآدم عليه السلام فإن إبليس من حينئذ لم يعرف أن الله تعالى حقاً ولا أنه خلقه من نار ولا أنه خلق آدم من تراب وطين ولا عرف أن الله أمره بالسجود لآدم بعدها قط ولا عرف بعد هذا قط أن الله كرم آدم ومن قولهم بأجمعهم أن إبليس لم يسأل الله قط أن ينظره إلى يوم البعث فقلنا لهم ويلكم إن هذا تكذيب لله عز وجل ولرسوله ﷺ ورد للقرآن قالوا لنا إن إبليس إنما قال كل ذلك هازئاً مستهزئاً بلا معرفة ولا اعتقاد كان هذا أشنع كفر وأبرده بعد كفر الغالية من الرافضة وقالوا إن إبليس لم يكفر بمعصيته الله في ترك السجود لآدم ولا بقوله عن آدم أنا خير منه وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه.
قال أبو محمد: هذا خلاف للقرآن وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به وقالت الأشعرية أيضاً أن فرعون لم يعرف قط أن موسى إنما جاء بتلك الآيات من عند الله حقاً وأن اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي ﷺ لم يعرفوا قط أن محمد رسول الله ﷺ حقاً ولا عرفوا أنه مكتوب في التوراة والإنجيل وأن من عرف ذلك منهم وكتمه وتمادى على إعلان الكفر ومحاربة النبي ﷺ بخيبر ومن بني قريظة وغيرهم فإنهم كانوا مؤمنين عند الله عز وجل أولياء لله من أهل الجنة فقلنا لهم ويلكم هذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول " يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل " و " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " و " فإنهم لا يكذبونك " فقالوا لنا معنى أنهم وجدوا خطاً مكتوباً عندهم لم يفهموا معناه ولا دروا ما هو ونعم عرفوا صورته فقط ودروا أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب كما يعرف الإنسان جاره فقط فكان هذا كفراً بارداً أو تحريفاً لكلام الله تعالى عن مواضعه ومكابرة سمجة وحماقة ودفعاً للضرورة وقد تقصينا الرد على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا رسمه كتاب اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين تقصينا فيه كلام رجل من كبارهم من أهل القيروان اسمه عطاف بن دوتاس في كتاب ألفه في نصر هذه المقالة وكان لشيخهم الأشعري في إعجاز القرآن قولان أحدهما كما يقول المسلمون أنه معجز النظم والآخر إنما هو المعجز الذي لم يفارق الله عز وجل قط والذي لم يزل غير مخلوق ولا نزل إلينا ولا سمعناه قط ولا سمعه جبريل ولا محمد عليهما السلام قط وأما الذي يقرأ في المصاحف ونسمعه فليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر صحيح وخلاف الله تعالى ولجميع أهل الإسلام وقال كبيرهم وهو محمد بن الطيب الباقلاني أن لله تعالى خمسة عشر صفة كلها قديمة لم تزل مع الله تعالى كلها غير الله وخلاف الله تعالى وكل واحدة منهن غير الأخرى منهن وخلاف لسائرها وإن الله تعالى غيرهن وخلافهن.
قال أبو محمد: هذا والله أعظم من قول النصارى وأدخل في الكفر والشرك لأن النصارى لم يجعلوا مع الله تعالى إلا اثنين هو ثالثهما وهؤلاء جعلوا معه تعالى خمسة عشر هو السادس عشر لهم وقد صرح الأشعري في كتابه المعروف بالمجالس بأن مع الله تعالى أشياء سواه لم تزل كما لم يزل.
قال أبو محمد: وهذا إبطال التوحيد علانية وإنما حملهم على هذا الضلال ظنهم أن ثبات علم الله تعالى وقدرته وعزته وكلامه لا يثبت إلا بهذه الطريقة المعلونة ومعاذ الله من هذا بل كل ذلك حق لم يزل غير مخلوق ليس شيء من ذلك غير الله تعالى ولا يقال في شيء من ذلك هو الله تعالى لأن هذه تسمية له عز وجل وتسميته لا تجوز إلا بنص وقد تقصينا الكلام في هذا في صدر ديواننا هذا والحمد لله رب العالمين وإنما جعلنا هاهنا شنع أهل البدع تنفيراً عنهم وإيحاشا للأغمار من المسلمين من الأنس بهم ومن حسن الظن بكلامهم الفاسد ولقد قلت لبعضهم إذا قلتم أن مع الله تعالى خمسة عشر صفة كلها غيره وكلها لم تزل فما الذي أنكرتم على النصارى إذ قالوا أن الله ثالث ثلاثة فقال لي إنما أنكرنا عليهم إذ جعلوا معه شيئين فقط ولم يجعلوا معه أكثر ولقد قال لي بعضهم اسم الله تعالى وهو قولنا الله عبارة تقع على ذات الباري وجميع صفاته لا على ذاته دون صفاته فقلت له أتعبد الله أم لا فقال لي نعم فقلت له فإنما تعبد إذاً بإقرارك الخالق وغيره معه فيكفيك فنفر نفرة وقال معاذ الله من هذا ما أعبد إلا الخالق وحده فقت له فإنما تعبد إذاً بإقرارك بعض ما يسمى به الله فنفر أخرى وقال معاذ الله من هذا وأنا واقف في هذه المسألة وقال شيخ لهم قديم وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري أن صفات الله تعالى ليست باقية ولا فانية ولا قديمة ولا حديثة لكنها لم تزل غير مخلوقة هذا مع تصريحه بأن الله قديم باق ومن حماقات الأشعرية قولهم أن للناس أحوالاً ومعاثي لا معدومة ولا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا أزلية ولا محدثة ولا حق ولا باطل وهي علم العالم بأن له علماً ووجود الواجد لوجوده كلما يجد هذا أمر سمعناه منهم نصاً رأيناه في كتبهم فهل في الرعونة أكثر من هذا وهل يمكن الموسوس والمبرسم أن يأتي بأكثر من هذا ولقد حاورني سليمان بن خلف الباجي كبيرهم في هذه المسألة في مجلس حافل فقلت له هذا كما تقول العامة عندنا عنب لا من كرم ولا من دالية ومن هوسهم قولهم أن الحق غير الحقيقة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا أم في أي شرع وارد أم في أي طبيعة ظفروا به فقالوا أن الكفر حقيقة وليس بحق وقلنا كلا بل وجوده عن حقيقة ومعناه باطل لا حق ولا حقيقة وقالوا كلهم إن الله حامل لصفاته في ذاته هذا نص قول أبي جعفر السمناني المكفوف قاضي الموصل وهو أكبر أصحاب الباقلاني ومقدم الأشعرية في وقتنا هذا وقال هذا السمناني أيضاً من سمي الله تعالى جسماً من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى وأخطأ في التسمية فقط وقال هذا السمناني أن الله تعالى مشارك للعالم في الوجود وفي قيامه بنفسه كقيام الجواهر والأجسام وفي أنه ذو صفات قائمة به موجودة بذاته كما ثبت ذلك فيما هو موصوف بهذه الصفات من جملة أجسام العالم وجواهره هذا نص كلام السمناني حرفاً حرفاً.
قال أبو محمد: ما أعلم أحداً من غلاة المشبهة أقدم على أن يطلق ما أطلق هذا المبتدع الجاهل الملحد المتهور من أن الله تعالى مشارك للعالم حاشا لله من هذا وقال السمناني عن شيوخه من الأشعرية أن معنى قول النبي ﷺ أن الله خلق آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار وإجماع صفات الكمال فيه وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان الله تعالى كل ذلك.
قال أبو محمد: هذا نص كلامه حرفاً حرفاً وهذا كفر صريح وشرك بواح إذ صرح بأن آدم على صفة الرحمن من اجتماع صفات الكمال فيهما فالله تعالى وآدم عنده مثلان مشتبهان في اجتماع صفات الكمال فيهما ثم لم يقنع بهذه السوءة حتى صرح بأن سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل وحاشا لله من هذا لأن سجود الملائكة لله تعالى سجود عبادة وديانة لخالقهم وسجودهم لآدم سجود سلام وتحية وتشريف منهم لآدم وإكرام له بذلك كسجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام فقط ثم زاد اللعين كفراً على كفر بنصه أن الله تعالى جعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله تعالى ذلك وهذا شرك لا خفاء به كشرك النصارى في المسيح ولا فرق ونسأل الله تعالى العافية وقال هذا السمناني أن مذهب شيوخه أنهم لا يقولون أن الأمر بالشيء دال على كونه مراداً للآمر قديماً كان أو محدثاً ولا يدل النهي على كونه مكروهاً هذا نص كلامه وهذا خلاف الإسلام والإجماع والمعقول وتصريح بأن الله تعالى إذ أمر بالصلاة والزكاة والحج والصيام والجهاد وشهادة الإسلام فليس في ذلك دليل على أنه يريد شيئاً من ذلك وإذ نهى عن الكفر والزنا والبغي والسرقة وقتل النفس ظلماً فليس ذلك دليلاً على أنه يكره شيئاً من ذلك وما في الأقوال انتين من هذا القول وقال هذا السمناني أنه لا يصح القول بأن علم الله تعالى مخالف للعلوم كلها ولا أن قدرته مخالفة للقدر كلها لأنها كلها داخلة تحت قولنا ووصفنا للقدر والعلوم هذا نص كلامه وهذا بيان بأن دينهم أن علم الله تعالى وقدرته من نوع علمنا وقدرتنا وإذ الأمر كذلك عنده فعلمنا وقدرتنا عرضان فينا مخلوقان فوجب ضرورة أن علم الله تعالى وقدرته عرضان في الله مخلوقان إذ من الممتنع وقوع ما لم يزل مع المحدث المخلوق تحت حد واحد ونوع واحد ونص هذا السمناني ومحمد بن الحسن بن فورك في صدر كلامه في كتاب الأصول أن الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث قالوا ذلك في كلامهم في علم الله تعالى في تحديدهم لمعنى العلم بصفة يقع تحتها علم الله تعالى وعلوم الناس وهذا نص منهم على أن الله تعالى محدود واقع معنا تحت الحدود وهو علمه وقدرته وهو شر من قول جهم شيخهم في الحقيقة وأبين من قول كل مشبه في الأرض ونص هذا السمناني على أن العالم والقادر والمريد من الله تعالى وخلقه إنما كان محتاجاً إلى هذه الصفات لكونه موصوفاً بها لا لجوازها عليه هذا نص كلامه وهذا تصريح منهم بلا تكلف ولا تأويل بأن الله تعالى عن كفر هذا الأرعن محتاج إلى الصفات وهذا كفر ما يدري أن أحداً بلغه ونص هذا السمناني أيضاً على أن الله تعالى لما كان حياً عالماً كان موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة والإرادة حتى لا يختلف الحال في ذلك في الشاهد والغائب هذا نص كلامه وهذا تصريح منه على أن الله تعالى حالا لم يخالفه فيها خلقه بل هو وهم فيها سواء ونصهذا السمناني على أنه إذا كانت الصفات الواجبة لله تعالى في كونه عالماً قادراً لا يغني وجوبها له عن ما هو مصحح لها من الحياة فيه كما لا يوجب غناه عما يوجب كونه عالماً قادراً عن القدرة والعلم.
قال أبو محمد: هذا نص جلي على أن الله تعالى غير غني عن شيء هو غيره لأن الصفات عندهم هي غيره تعالى والله تعالى عندهم غير غني عنها تعالى الله وإذا لم يكن غنياً عنها فهو فقير إليها هكذا قالت اليهود أن الله فقير تعالى الله عن هذا بل هو الغني جملة عما سواه وكل من دونه فقير إليه تعالى وقال السمناني إن قال قائل لم أنكرتم أن يكون الله مريداً لنفسه حسب ما قاله النجار والجاحظ قيل له أنكرنا ذلك لما قدمنا ذكره من أن الواحد من الخلق مريد بإرادة ولا يخلو أن يكون حقيقة المريد من له الإرادة أو كونه مريداً وجود الإرادة له وأي الأمرين كان وجبت مساواة الغائب الشاهد في هذا الباب.
قال أبو محمد: وهذا نص جلي على مساواة الله تعالى لخلقه عند هذا الجاهل وهذا أعظم في الكفر من قول كل مجسم لأن جميع المجسمين لم يقدم أحد منهم قط على القول بأن الله تعالى مساو لخلقه قبل هذه الفرقة الملعونة ثم العجب قطعهم بأن الله عز وجل غائب غير شاهد وحاشا الله عن هذا بل هو معنا وهو أقرب إلينا من حبل الوريد كما قال عز وجل أنه حاضر في العقول غير غائب وقال الباقلاني ما وجد في الله تعالى من التسميات فإنه يجوز إطلاقها عليه وإن لم يسم بذلك نفسه ما لم يرد شرع يمنع من ذلك.
قال أبو محمد: هذا نص منه على أن هاهنا معاني توجد في الله تعالى مع الإلحاد في أسمائه إذ جاز تسميته بما لم يسم به عز وجل نفسه تعالى الله عن هذا علواً كبيراً وقالوا كلهم أن الله تعالى ليس له إلا كلام واحد وليس له كلمات كثيرة.
قال أبو محمد: هذا كفر مجرد لخلافه القرآن وتكذيب لله عز وجل في قوله " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " وإذ يقول تعالى " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " مع أن قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد قول أحمق لا يعقل ولا يقوم به برهان شرعي ولا تشكل في هاجس ولا يوجبه عقل إنما هو هذيان محض ويقال لهم لا يخلو القرآن عندهم من أنه كلام الله تعالى أو ليس هو كلام الله تعالى فإن قالوا ليس هو كلام الله تعالى كفروا من قرب وكفى الله تعالى مؤنتهم وإن قالوا هو كلام الله تعالى فالقرآن مائة سورة وأربعة عشر سورة فيها ستة آلاف آية ونيف كل سورة منها عند أهل الإسلام غير الأخرى وكل آية غير الأخرى فكيف يقول هؤلاء النوكى أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد أما هذا من الكفر البارد والقحة السمجة ونعوذ بالله من الضلال وقالوا كلهم إن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام وإنما نزل عليه بشيء آخر هو العبارة عن كلام الله وأن القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز وإن الذي نرى في المصاحف ونسمع من القراء ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتة ولا شيء منه كلام الله البتة بل شيء آخر وإن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عز وجل.
قال أبو محمد: وهذا من أعظم الكفر لأن الله تعالى قال " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " وقال تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك " وقال تعالى " فأجره حتى يسمع كلام الله " وقال تعالى " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " وقال رسول الله ﷺ إني أحب أن أسمعه من غيري يعني القرآن وقال عليه السلام الذي يقرأ القرآن مع السفرة الكرام البررة ونهيه ﷺ أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو إلى إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعالمهم على القول حفظ فلان القرآن وقرأ فلان القرآن وكتب فلان القرآن إلى آخر قل أعوذ برب الناس وقال السمناني أيضاً أن الباقلاني وشيوخه قالوا أن النبي ﷺ إنما أطلق القول بأن ما أنزل الله هو القرآن وهو كلام الله تعالى إنما هو على معنى قال أبو محمد: ويقال لهم أخبرونا عن قولكم أن الكتاب في المصحف والقراءة المسموعة في المحارب كل ذلك عبارة عن القرآن ماذا تعنون بذلك وهذا هذا منكم إلا تمويه ضعيف وهل كل ما في المصحف إلا عبارة عن معانيه التي أرادها الله تعالى في شرع دينه من الصلاة والصيام والإيمان وغير ذلك وأخبار الأمم السالفة وصفة الجنة والنار والبعث وغير ذلك مما لا يختلف من أهل الإسلام أحد في أن المعبر عنه بذلك الكلام ليس هو كلام الله أصلاً لأن ذات الجنة وذات النار وحركات المصلي وعمل الحاج وعمل الصائم وأجسام عاد وأشخاص ثمود ليس شيء من ذلك كلام الله تعالى ولا قرآناً فثبت أن ليس هو القرآن ولا هو كلام الله إلا العبارة المسموعة فقط والكلام المقروء والخط المكتوب في المصحف بلا شك إذ لم يبق غير ذلك أو الكفر وتكذيب الله تعالى وتكذيب رسول الله ﷺ في أن القرآن أنزل عليه وأننا نسمع كلام الله فأوهمتهم الضعفاء أن الذي هو كلام الله والقرآن عند جميع أهل الإسلام ليس هو القرآن ولا هو كلام الله ثم أوهمتموهم باستخفافكم أن حركات المتحركين وذات الجنة وذات النار هي كلام الله تعالى وهي القرآن فهل في الضلال والسخرية بضعفة المسلمين والهزء بآيات الله تعالى أكثر من هذا ولقد أخبرني علي بن حمزة المراوي الصقلي الصوفي أنه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله قال فأكبرت ذلك وقلت له ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى فقال لي ويلك والله ما فيه إلا السخام والسواد وأما كلام الله فلا ونحو هذا من القول الذي هذا معناه وكتب إلي أبو المرحي بن رزوار المصري أن بعض ثقاة أهل مصر أخبره من طلاب السنن أن رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة على من يقول أن الله قال قل هو أحد الله الصمد ألف لعنة.
قال أبو محمد: بل على من يقول إن الله عز ول لم يقلها ألف ألف لعنة تترى وعلى من ينكر أننا نسمع كلام الله ونقرأ كلام الله ونحفظ كلام الله ونكتب كلام الله ألف ألف لعنة تترى من الله عز وجل فإن قول هذه الفرقة في هذه المسألة نهاية الكفر بالله عز وجل ومخالفة للقرآن والنبي ﷺ ومخالفة جميع أهل الإسلام قبل حدوث هذه الطائفة الملعونة.
قال أبو محمد: وقالت الأشعرية كلها أن الله عز وجل لم يزل قائلاً لكل ما خلق أو يخلق في المستأنف كن إلا أن الأشياء لم تكن إلا حين كونها وهذا تكذيب منهم مكشوف لله عز وجل إذ يقول " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فبين الله تعالى أنه لا يقول للشيء كن إلا إذا أراد تكوينه وأنه إذا قال له كن كان الشيء في الوقت بلا مهلة لأن هذا هو مقتضى الفاء في لغة العرب التي بها نزل القرآن فجمعوا إلى تكذيب الله عز وجل في خبريه جميعاً إيجاب أزلية العالم لأن الله تعالى إذا كان لم يزل قائلاً لما يكون كن فإن التكوين لم يزل وهذه دهرية محضة ثم قال السمناني بعد أسطر لأنه لو وجب وجود ما وجد في الوقت الذي وجد فيه لأجل قول الله تعالى كن لوجب لأجل قول غيره له كن لأن صفة الاقتضاء لا تختلف في ذلك بين القديم والمحدث.
قال أبو محمد: هذا نص كلام هذا الفاسق الملحد حرفاً حرفاً وهذا كفر محض وحماقة لا خفاء بها أما الكفر فإبطاله أن وجود الأشياء في الأوقات التي وجدت فيها إنما وجدت لأجل قول الله تعالى لها كن وإيجابه أن الأشياء لم توجد في أحيان وجودها لقول الله تعالى لها كن وهذا تكذيب لله تعالى وصرف وخروج عن إجماع أهل الإسلام وكل من يصلي إلى القبلة قبلهم ومن الكفر الصريح أيضاً في هذا الكلام الملعون قوله أن صفة الاقتضاء في ذلك لا تختلف بين القديم والمحدث فسوى بين الله تعالى وخلقه وأما الحماقة فقوله لو وجدت الأشياء من أجل قول الله تعالى لها كن لوجب أن يوجد لأجل قول غيره لها كن فيا للمسلمين هل سمع في الحمق والرعونة وقلة الحياء أكثر من قول من سوى بين قول الله عز وجل كن للشيء إذا أراد تكوينه وبين قول غيره من الناس كن وهذا أخبث من قول الدهرية ونعوذ بالله من الضلال فلولا الخذلان ما انطلق بهذا النوك لسان من لا يقذف بالحجارة في الشوار وما شبهت بهذا الكلام إلا كلام النذل أبي هاشم الجبائي لو لم يجز لنا أن نسمي الله تعالى باسم حتى يأذن لنا في ذلك لوجب أن لا قال أبو محمد: وهذه أقوال لو قال ها صبيان يسيل مخاطهم لأيس من فلاحهم وتالله لقد لعب الشيطان بهم كما شاء فإنا لله وإنا إليه راجعون وقالت الأشعرية كلها إن الله لا يقدر على ظلم أحد البتة ولا يقدر على الكذب ولا على قول أن المسيح ابن الله حتى يقول قبل ذلك وقالت النصارى وأنه لا يقدر على أن يقول عزير ابن الله حتى يقول قبل ذلك وقالت اليهود وأنه لا يقدر على أن يتخذ ولداً وأنه لا يقدر البتة على إظهار معجزة على يدي كذاب يدعي النبوة فإن ادعى الإلهية كان الله تعالى قادراً على إظهار المعجزات على يديه وأنه تعالى لا يقدر على شيء من المحال ولا على إحالة الأمور عن حقائقها ولا على قلب الأجناس عن ماهيتها وأنه تعالى لا يقدر البتة على أن يقسم الجزء الذي لا يتجزأ ولا على أن يدعو أحداً إلى غير التوحيد هذا نص كلامهم وحقيقة معتقدهم فجعلوه تعالى عاجزاً متناهي القوة محدود القدرة يقدر مرة ولا يقدر أخرى ويقدر على شيء ولا يقدر على آخر وهذه صفة النقص وهم مع هذا يقولون أن الساحر يقدر على قلب الأعيان وعلى أن يمسخ إنساناً فيجعله حماراً على الحقيقة وعلى المشي في الهواء وعلى الماء فكان الساحر عندهم أقوى من الله تعالى.
قال أبو محمد: وخشوا مبادرة أهل الإسلام لهم بالاصطلام فخنسوا عن أن يصرحروا بأن الله تعالى لا يقدر فقالوا لا يوصف الله بالقدرة على شيء مما ذكرنا.
قال أبو محمد: ولا راحة لهم في هذا لأننا نقول لهم ولم لا نصفه بالقدرة على ذلك ألأنه يقدر على شيء من ذلك ولا له قدرة على كل ذلك أم لأنه لا يقدر على كل ذلك ولا له قدرة على شيء من ذلك ولا بد من أحدهما بضرورة العقل وهنا ضلت جبلتهم الضعيفة ولا بد لهم من القطع بأنه لا يقدر وبأنه لا قدرة له على ذلك وإذ قد صرحوا بهذا بالضرورة فأول العقل ومسموع اللغة كلاهما يوجبان أن من لا يقدر على شيء فهو عاجز عنه وأن من لا قدرة له على شيء فصفة العجز والضعف لاحقة به فلا بد لهم ضرورة من إطلاق اسم العجز على الله تعالى ووصفه بأنه عاجز وهذا حقيقة مذهبهم يقيناً إلا أنهم يخافون البوار إن أظهروه وقال هذا الباقلاني لا فرق بين النبي والساحر الكذاب المتنبي فيما يأتينا فيه إلا التحدي فقط وقول النبي لمن بحضرته هات من يعمل كعملي وهذا إبطال للنبوة مجرد وقال الباقلاني وابن فورك وأشياعهما من أهل الضلالة والجهالة ليس لله تعالى أسماء البتة وإنما له تعالى اسم واحد فقط ليس له اسم غيره وأن قول الله تعالى " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " إنما أراد أن يقول لله التسميات الحسنى فذروا الذين يلحدون في تسمياته فقال لله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه قالوا وكذلك قول رسول الله ﷺ أن الله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد إنما أراد أن يقول تسعاً وتسعين قال أبو محمد: ما في البرهان على قلة الحياء وفساد الدين واستسهال الكذب أكثر من هذا وليت شعري من أخبرهم عن الله تعالى وعن رسول الله ﷺ بهذا الأفك ثم ليت شعري إذ زعموا أن الله تعالى أراد أن يقول التسميات الحسنى فقال الأسماء الحسنى لأي شيء فعل ذلك اللكنة أم غفلة أم تعمد لا ضلال عباده ولا سبيل والله إلى رابع فأعجبوا لعظيم ما حل بهؤلاء القوم من الدمار والتبار والكذب على الله عز وجل جهاراً وعلى رسول الله ﷺ بلا رهبة ونعوذ بالله من الضلال مع أن هذا قول ما سبقهم إليه أحد وقالوا كلهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ليس هو رسول الله اليوم لكنه كان رسول الله.
قال أبو محمد: فكذبوا القرآن في قول الله عز وجل " محمد رسول الله " وكذبوا الآذان وكذبوا الإقامة التي افترضها الله تعالى خمس مرات كل يوم وليلة على كل جماعة من المسلمين وكذبوا دعوة جميع المسلمين التي اتفقوا على دعاء الكفار إليها وعلى أنه لا نجاة من النار إلا بها وكذبوا جميع أعصار المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في أطباق جميعهم برهم وفاجرهم على الإعلان بلا إله إلا الله محمد رسول الله ووجب على قولهم هذا الملعون أنه يكذب المؤذنون والمقيمون ودعاة الإسلام في قولهم محمد رسول الله وأن الواجبأن تقولوا محمد كان رسول الله وعلى هذه المسألة قتل الأمير محمود بن سبكتكين مولى أمير المؤمنين وصاحب خراسان رحمه الله ابن فورك شيخ الأشعرية فأحسن الله جزاء محمود على ذلك ولعن ابن فورك وأشياعه وأتباعه.
قال أبو محمد: إنما حملهم على هذا الكفر الفاحش قول لهم آخر في نهاية الضلال والإنسلاخ من الإسلام وهي قولهم أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين وأن روح كل واحد منا الآن هو غير روحه الذي كان له قبل ذلك بطرفة عين وأن كل واحد منا يبدل أزيد من ألف ألف روح في كل ساعة زمانية وأن النفس إنما هو هذا الهواء الخارج بالتنفس حاراً بعد دخوله بارداً وأن الإنسان إذا مات فني روحه وبطل وأنه ليس لمحمد ولا لأحد من الأنبياء عند الله تعالى روح ثابتة تنعم ولا نفس قائمة تكرم وهذا خروج عن إجماع الإسلام فما قال بهذا أحد ممن ينتمي إلى الإسلام قبل أبي الهذيل العلاف ثم تلاه هؤلاء وهذا خلاف مجرد للقرآن وتكذيب لله عز وجل إذ يقول " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " وإذ يقول عز وجل " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " وقال عز وجل " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " ولقوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " وخلاف للسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ المنقولة نقول التواتر من رؤيته ﷺ الأنبياء عليهم السلام ليلة أسري به في السماء وما جرى له مع موسى عليه السلام في عدد الصلوات المفروضات وأن أرواح الشهداء نسمة تعلق في ثمار الجنة وما يلقى الروح عند خروجه من الفتنة والمسائلة وإخباره عليه السلام أنه رأى عن يمين آدم أسودة نسم بنيه من أهل الجنة وعن يساره اسودة نسم بنيه من أهل النار وسائر السنن المأثورة.
قال أبو محمد: ثم خجلوا من هذه العظيمة وتبرأ منهم إبليس الذي ورطهم فيها فشلوا فقالوا في كتبهم فإن لم يكن هذا فإن الروح تنتقل عند خروجها من الجسم إلى جسم آخر هكذا نص الباقلاني في أحد كتبه وأظنه الرسالة المعروفة بالحرة وهذا مذهب التناسخ بلا كلفة وقال السمناني في كتابه أن الباقلاني وأصحابه قالوا أن كل ما جاء في الخبر من نقل أرواح الشهداء إلى حواصل طير خضر وأن روح الميت ترد إليه في قبره وما جرى مجرى ذلك من وصف الروح بالقرب والبعد والحركة والانت قال والسكون والعذاب فكل ذلك محمول على أقل جزء من أجزاء الميت والشهيد أو الكافر وإعادة الحياة في ذلك الجوء.
قال أبو محمد: وهذا طريق من الهوس جداً وتطايب بالدين ولقد أخبرني ثقة من أصحابي أنه سمع بعض مقدميهم يقول أن الروح إنما تبقى في عجب الذنب لقول رسول الله ﷺ كل ابن آدم يأكله التراب الأعجب الذنب منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا التأويل أقرب إلى الهزل منه إلى أقوال أهل الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان فإنما هذه ستائر دون مذهبهم الخبيث الذي ذكرنا آنفاً وقالوا كلهم أن النظر في دلائل الإسلام فرض وأنه لا يكون مسلماً حتى ينظر فيها وأن من شرط الناظر فيها أن يكون ولا بد شاكا في الله عز وجل وفي صحة النبوة ولا يصح النظر في دلائل النبوة ودلائل التوحيد لمن يعتقد صحتها.
قال أبو محمد: والله ما سمع سامع قط بادخل في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى وفي صحة النبوة فرضاً على كل متعلم لا نجاة له إلا به ولا دين لأحد دونه وأن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى وصحة النبوة باطل لا يحل فحصل من كلامهم أن من لم يشك في الله تعالى ولا في صحة النبوة فهو كافر ومن شك فيهما فهو محسن مؤد ما وجب عليه وهذه فضيحة وحماقة اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول ومن كل قائل به ثم لم يحدوا في أمد الاستدلال حداً فليت شعري على هذا القول الملعون هو ومعتقده والداعي إليه كيف يكون حال من قبل وصيتهم هذه التي هي وصية الشيطان الرجيم فتبين بالشك في الله تعالى وفي النبوة وامتد به أمد الاستدلال أياماً وأشهراً وساعات مات فيها أين مستقره ومصيره إلى النار والله خالداً مخلداً أبداً وبيقين ندري أن قائل هذه الأقوال مطالب للإسلام كائد له مرصد لأهله داعية إلى الكفر ونعوذ بالله من الضلال وقالوا كلهم أن إطعام رسول الله ﷺ المئين والعشرات من صاع شعير مرة بعد مرة وسقيه الألف والألوف من ماء يسير ينبع من بين أصابعه وحنين الجذع ومجيء الشجرة وتكلم الذراع وشكوى البعير ومجيء الذئب ليس شيء من ذلك دلالة على صدق رسول الله ﷺ في نبوته لأنه عليه السلام لم يتحد الناس بذلك ولا يكون عندهم آية إلا ما تحدى به الكفار فقط وهذا تكذيب منهم للنبي ﷺ في قوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله وهذا أيضاً قول افتروه خالفوا فيه جميع أهل الإسلام وقالوا كلهم ليس لشيء من الأشياء نصف ولا ثلث ولا ربع ولا سدس ولا ثمن ولا عشر ولا بعض وأنه لا يجوز أن يقال الفرد عشر العشرة ولا أنه بعض الخمسة وحجتهم في ذلك أنه لو جاز أن يقال ذلك لكان عشراً لنفسه وبعض نفسه.
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد لأنه إنما هو بعض من جملة يكون سائرها غيره وعشر جملة يكون سائرها غيره ونسوا أنفسهم فقالوا بالجزء الذي لا يتجزأ ونسوا إلزام أنفسهم أن يكون جزءاً لنفسه وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول في القرآن فلها النصف فلامه الثلث فلامه السدس ولكم الربع ولهن الثمن بعضهم أولياء بعض وهذا عن النبي ﷺ كثير مع مخالفتهم في ذلك جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم ومخالفة كل لغة والمعقول والطبائع وقالوا كلهم من قال أن النار تحرق أو تلفح أو أن الأرض تهتز أو تنبت شيئاً أو أن الخمر يسكر أو أن الخبز يشبع أو أن الماء يروي أو أن الله تعالى ينبت الزرع والشجر بالماء فقد ألحد وافترى وقال الباقلاني من آخر السفر الرابع من كتابه المعروف بالانتصار في القرآن نحن ننكر فعل النار للتسخين والإحراق وننكر فعل الثلج للتبريد وفعل الطعام والشراب للشبع والري والخمر للإسكار كل هذا عندنا باطل محال ننكره أشد الإنكار وكذلك فعل الحجر لجذب شيء أو رده أو حبسه أو إطلاقه من حديد أو غيره هذا نص كلامه.
قال أبو محمد: وهذا تكذيب منهم لله عز وجل إذ يقول " تلفح وجوههم النار " ولقوله تعالى " وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ " وقوله تعالى " إنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم " الآية وقوله تعالى " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " وقد صككت بهذا وجه بعض مقدميهم في المناظرة فدهش وبلد وهو أيضاً تكذيب لقول رسول الله ﷺ إذ يقول كل مسكر حرام وكل شراب أسكر حرام مع مخالفتهم لكل لغة ولكل ذي حس من مسلم وكافر ومكابرة العيان وإبطال المشاهدة ثم أظرف شيء احتجاجهم في هذه الطامة بأن الله عز وجل هو الذي خلق ذلك كله فقلنا لهم أوليس فعل كل حي مختار واختياره خلقاً لله عز وجل فلا بد من قولهم نعم في قال لهم فمن أين نسبتم الفعل إلى الأحياء وهي خلق الله تعالى ومنعتم من نسبة الفعل إلى الجمادات لأنه خلق الله تعالى ولافرق ولكنهم قوم لا يعقلون.
قال أبو محمد: وسمعت بعض مقدميهم يقول أن من كان على معاصي خمسة من زنا وسرقة وترك صلاة وتضييع زكاة وغير ذلك ثم تاب عن بعضها دون بعض فإن توبته تلك لا تقبل وقد نص السمناني على أن هذا قول الباقلاني وهو قول أبي هاشم الجبائي ثم قال السمناني هذا قول خارق للإجماع جملة وخلاف لدين الأمة هذا نص قول السمناني في شيخه وشهدوا على أنفسهم وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون.
قال أبو محمد: هذا القول مخالف للقرآن والسنن لأن الله تعالى يقول " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقال تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً " الآية وقال تعالى " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " وبالضرورة يدري كل ذي مسكة من عقل أن التوبة من الزنا خير كثير فهذا الجاهل يقول أنه لا يراه صاحبه وأنه عمل ضائع عند الله عز وجل من مسلم مؤمن ومعاذ الله من هذا وسر هذا القول الملعون وحقيقته التي لا بد لقائله منه أنه لا معنى لمن أصر على الزنا أو شرب الخمر في أن يصلي ولا أن يزكي فقد صار يأمر بترك الصلاة الخمس والزكاة وصوم رمضان والحج فعلى هذا القول وقائله لعائن الله تتري ما دار الليل والنهار ونص السمناني عن الباقلاني شيخه أنه كان يقول أن الله تعالى لا يغفر الصغائر باجتناب الكبائر.
قال أبو محمد: وأنا سمعت بعض مقدميهم ينكر أن يكون في الذنوب صغائر وناظرته بقول الله تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " وقلت بالضرورة يدري كل ذي فهم أنه لا كبائر إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها وهي السيئات المغفورة باجتناب الكبائر بنص كلام الله تعالى فقولك هذا خلاف للقرآن مجرد فخلط ولجأ إلى الحرد وهذا منهم تكذيب لله عز وجل ورد لحكمه بلا كلفة ومن شنعهم الممزوجة بالهوس وصفاقة الوجه قولهم أنه لا حر في النار ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة وإنما خلق الله تعالى ذلك عند اللمس والذوق وهذا حمق عتيق قادهم إليه إنكارهم الطبائع وقد ناظرناهم على ذلك هذا مع قول شيخهم الباقلاني أن لقشور العنب رائحة وللزجاج والحصا طعماً ورائحة وزادوا حتى بلغوا إلى أن قالوا أن للفلك طعماً ورائحة فليت شعري متى ذاقوه أو شموه أو من أخبرهم بهذا وهذا لا يعرفه إلا الله ثم الملائكة الذين هنالك ولكن من ذاق طعم الزجاج وشم رائحته فغير منكر أن يدعى مشاهدة الفلك ولمسه وشمه وذوقه ومن شنعهم قولهم أن من كان الآن على دين الإسلام مخلصاً بقلبه ولسانه مجتهداً في العبادة إلا أن الله عز وجل يعلم أنه لا يموت إلا كافراً فهو الآن عند الله كافراً وإن من كان الآن كافراً يسجد للنار وللصليب أو يهودياً أو زنديقاً مصر حين بتكذيب رسول الله ﷺ إلا أن في علم الله تعالى لا يموت غلا مسلماً فإنه الآن عند الله مسلم.
قال أبو محمد: ما قال هذا مسلم قط قبل هشام الفوطي وهذه مكابرة للعيان وتكذيب لله عز وجل كأنهم ما سمعوا قط قول الله تعالى " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " فسماهم مؤمنين ثم أبخر تعالى بأنهم كفروا وقوله تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر " فجعل الإسلام ديناً لما كان عليه إذ كان عليه وإن ارتد معه ومات كافراً وقوله تعالى مخاطباً للمسلمين من أصحاب النبي ﷺ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " ويلزمهم أن الذي يسلم أبوه ولا يسلم هو لأنه كان بالغاً ثم مات أبوه فلم يرثه لكفره ثم أسلم أن يفسخوا حكمهم ويورثوه من أبيه لأنه عندهم كان إذ مات أبوه مؤمناً عند الله تعالى ويلزمهم إن من كان صبياً ثم عاش حتى شاخ أنه لم يكن عند الله قط إلا شيخاً ولو جمع ما يدخل عليهم لقام منه سفر ضخم وقالوا كلهم أنه ليس على ظهر الأرض يهودي ولا نصراني يقر بقلبه أن الله حق.
قال أبو محمد: هذا تكذيب للقرآن على ما بينا قبل ومكابرة للعيان لأنا لا نحصي كم دخل في الإسلام منهم وصلح إيمانه وصار عدلاً وكلهم لا يختلف في أنه كان قبل إسلامه مقراً بالله عز وجل عالماً به كما هو بعد إسلامه لم يزد في توحيده شيء فكابروا العيان وكذبوا القرآن بحمق وقلة حياء لا نظير له وقال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن معنى قول الله تعالى " لا يرضى لعباده الكفر " وقوله تعالى " لا يحب الفساد " إنما معناه لا يحب الفساد لأهل الصلاح ولا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا ولم يرد أنه لا يرضاه لأحد من خلقه ولا يحبه لأحد منهم ثم قال وإن كان قد أحب ذلك ورضيه لأهل الكفر والفساد.
قال أبو محمد: وهذا تكذيب لله تعالى مجرد ثم أيضاً أخبر بأن الكفار فعلوا من الكفر أمراً رضيه الله تعالى منهم وأحبه منهم فكيف يدخل هذا في عقل مسلم مع قوله تعالى " اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " وأعجبوا لظلمة جهله إذ لم يفرق بين إرادة الكفر والمشيئة والخلق له وبين الرضا والمحبة وقال أيضاً فيه أن أقل من سورة من القرآن ليس بمعجز أصلاً بل هو مقدور على مثله وقال أيضاً في السفر الخامس من الديوان المذكور أن قيل كيف تقولون أكان يجوز من الله أن يؤلف القرآن تأليفاً آخر غير هذا يعجز الخلق عن مقابلته قلنا نعم هو تعالى قادر على ذلك وعلى ما لا غاية له من هذا الباب وعلى أقدار كثيرة وأعداد لا يحصيها غيره إلا أن كان تأليف الكلام ونظم الألفاظ لا بد أن يبلغ إلى غاية وحد لا يحتمل الكلام أكثر منه ولا أوسع ولا يبقى وراء تلك الأعداد نص والأوزان شيء تتناوله القدرة قال ولنا في هذه المسألة نظر في تأليف الكلام ونظم الأجسام وتصوير الأشخاص هل يجب أن يكون نهاية لا يحتمل المؤلف والمنظوم فوقها ولا ما هو أكثر منها أم لا.
قال أبو محمد: هنا صرح بالشك في قدرة الله تعالى الها نهاية كما يقول أبو الهذيل أخوه في الضلالة والكفر أم لا نهاية لها كما يقول أهل الإسلام ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: ولقد أخبرني بعض من كان يداخلهم وكان له فيهم سبب قوي وكان من أهل الفهم والذكاء وكان يزري في باطن أمره عليهم أنهم يقولون أن الله تعالى مذ خلق الأرض فإنه خلق جسماً عظيماً يمسكها عن أن تهوى هابطة فلما خلق ذلك الجسم أفناه في الوقت بلا زمان وخلق آخر مثله يمسكها أيضاً فلما خلقه أفناه إثر خلقه بلا زمان أيضاً وخلق آخر وهكذا أبداً أبداً بلا نهاية قال لي وحجتهم في هذا الوسواس والكذب على الله تعالى فيه مما لم يقله أحد قبلهم مما يكذبه الحس والمشاهدة أنه لابد للأرض من جسم ممسك والاهوت فلو كان ذلك الممسك يبقى وقتين أو مقدار طرفة عين لسقط هو أيضاً معها فهو إذا خلق ثم أفنى إثر خلقه ولم يقع لأن الجسم عندهم في ابتداء خلقه لا ساكن ولا متحرك.
قال أبو محمد: وهذا احتجاج للحمق بالحمق وما عقل أحد قط جسماً لا ساكناً ولا متحركاً بل الجسم في ابتداء خلق الله تعالى له في مكان محيط به في جهاته ولا شك ساكن في مكانه ثم تحرك وكأنهم لم يسمعوا لقول الله تعالى " إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا " فأخبر تعالى أنه يمسكها كما شاء دون تكلف ما لم يخبرنا الله تعالى به ولا جعل في العقول دليلاً عليه ولو أن قائل هذا الحمق وقف على الحق وطالع شيئاً من براهين الهيئة لخجل مما أتي به من الهوس ومن شنعهم قول هذا الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن أن تفسيم آيات القرآن وترتيب مواضع سوره شيء فعله الناس وليس هو من عند الله ولا من أمر رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: فقد كذب هذا الجاهل وأفك أتراه ما سمع قول الله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " وقول رسول الله ﷺ في آية الكرسي وآية الكلالة والخبر أنه عليه السلام كان يأمر إذا نزلت الآية أن تجعل في سورة كذا وموضع كذا ولو أن الناس رتبوا سوره لما تعدوا أحد وجوه ثلاثة إما أن يرتبوها على الأول فالأول نزولاً أو الأطول فما دونه أو الأقصر فما فوقه فإذ ليس ذلك كذلك فقد صح أنه أمر رسول الله ﷺ الذي لا يعارض عن الله عز وجل لا يجوز غير ذلك أصلاً ومن شنعهم قول الباقلاني في كتابه في مذاهب القرامطة قرب آخر الكتاب في باب ترجمته ذكر جمل م قال ات الدهرية والفلاسفة والثنوية قال الباقلاني فأما ما يستحيل بقاؤه من أجناس الحوادث وهي الأعراض فإنما يجب عدمها في الثاني من حال حدوثها من غير معدم ولا شيء يفنيها هذا نص كلامه وقال متصلاً بهذا الفصل وأما نحن فنقول أنها تفني الجواهر نعني بقطع الأكوان عنها من حيث لا يصح لها وجود لا في مكان ولا فيما يقدر تقدير المكان وإذا لم يلحق فيها شيء من الأكوان فعدم ما كان يخلق فيها منها أوجب عدمها هذا نص كلامه وهذا قول بإفناء الجواهر والأعراض وهو فناء وإعدام لا فاعل لهما وإن الله تعالى لم يفن الفاني ونعوذ بالله من هذا الضلال والإلحاد المحض وقالوا بأجمعهم ليس لله تعالى على الكفار نعمة دينية أصلاً وقال الأشعري شيخهم ولا له على الكفار نعمة دنيوية أصلاً وهذا تكذيب منه ومن أتباعه الضلال لله عز وجل إذ يقول " بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " وإذ يقول عز وجل " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين " وإنما خاطب تعالى بهذا كفاراً جحدواً نعمة الله تعالى تبكيتاً لهم وأما الدنيوية فكثير قال تعالى " قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره " إلى قوله " فلينظر الإنسان إلى طعامه " الآية ومثله من القرآن كثير وقال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن في باب مترجم بباب الدلالة على أن القرآن معجز للنبي ﷺ وذكروا سؤال الملحدين عن الدليل على صحة ما ادعاه المسلمون من أن القرآن معجز فقال الباقلاني يقال لهم ما معنى وصف القرآن وغيره من آيات الرسول ﷺ بأنه معجز فإنما معناه أنه مما لا يقدر العباد عليه وأن يكونوا عاجزين على الحقيقة وإنما وصف القرآن وغيره من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام كعصى موسى وخروج الناقة من الصخرة وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بأنه معجز وإن لم يتعلق به عجز عاجز عنه على وجه التسمية بما يعجز عنه العاجز من الأمور التي صح عجزهم عنها وقدرتهم عليها لأنهم لم يقدروا على معارضات آيات الرسل غير عن عدم قدرتهم على ذلك فالعجز عنه تشبيهاً له بالمعجوز عنه قال الباقلاني ومما يدل على أن العرب لا يجوز أن تعجز عن مثل القرآن لأنه قد صح وثبت أن العجز لا يكون عجزاً إلا عن موجود فلو كانوا على هذا الأصل عاجزين عن مثل القرآن وعصى موسى وإحياء الموتى وخلق الأجسام والأسماع والأبصار وكشف البلوى والعاهات لوجب أن يكون ذلك المثل موجوداً فيهم ومنهم كما أنهم لو كانوا قادرين على ذلك لوجب أن يكون ذلك منهم ولما لم يكن ذلك كذلك ثبت أنه لا يجوز عجز العباد على الحقيقة عن مثل القرآن مع عدمه منهم وكونه غير موجود لهم ولا عن قلب عصى موسى حية ولا عن مثل ذلك.
قال أبو محمد: أينتظر كفر بعد هذا الكفر في تصريحه أن العباد والعرب لا يجوز أن يعجزوا عن مثل القرآن ولا عن قلب العصا حية ولا يغتر ضعيف بقوله إنهم غير قادرين على ذلك فإنما هو على قوله المعروف من أن الله لا يقدر على غير ما فعل وظهر منه فقط ومن عظيم المحال قوله في هذا الفصل أنه لا يجوز أن يعجز العاجز إلا عما يقدر عليه مع أن هذا الكلام منه موجب أنهم إن عجزوا عن مثل القرآن قدروا عليه وما يمترى في أنه كان كائداً للإسلام ملحداً لا شك فيه فهذه الأقوال لا ينطلق بها لسان مسلم ومن أعظم البراهين على كفر الباقلاني وكيده للدين قوله في فصل آخر من الباب المذكور في الكتاب المذكور أنه لا يجب على من سمع القرآن من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ أن يبادر إلى القطع على أنه له آية أو أنه على يده ظهر ومن قبله نجم حتى يسأل أهل النواحي والأطراف ونقلة الأخبار ويتعرف حال المتكلمين بذلك اللسان في الآفاق فإذا علم بعد التثبت والنظر أنه لم يسبقه إلى ذلك أحد لزمه حينئذ اعتقاد نبوته.
قال أبو محمد: وهذا إنسان خاف معاجلة الأمة له بالرجم كما يرجم الكلب إن صرح بأن نوبة محمد ﷺ باطل فصرح لهم بما يؤدي إلى ذلك من قرب إذا وجب بأن لا يقر أحد بنبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله ﷺ ولا بأنه أتى بالقرآن ولا بأنه آية من آياته على صحة نبوته إلا حتى يسأل أهل النواحي والأطراف وينتظر الأخبار ويتعرف حال المتكلم بالعربية في الآفاق.
قال أبو محمد: فأحال والله على عمل لا نهاية له ولو عمر الإنسان عمر نوح عليه الصلاة والسلام لأن سؤال أهل النواحي والأطراف لا ينقضي في ألف عام وانتظار الأخبار ليس له حد وليت شعري متى تصل المخدرة وطالب المعاش إلى طرف من هذا المحال لأن أهل النواحي هم من بين صدر الصين إلى آخر الأندلس إلى بلاد الزنج إلى بلد الص قال بة فما بين ذلك فلاح كفر هذا الجاهل الملحد وكيده للإسلام لكل من له أدنى حس مع ضعف كيده في ذلك قال الله تعالى " إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا " ويكفي من كل هزراتي به في هذا الفصل الملعون قائله أن من له علم قوي بالعربية والأخبار فيكفيه تيقن عجز العرب عن معارضته فمن بعدهم إلى اليوم وأنه من عنده ضرورة لأنه لم ينزل القرآن جملة فيمكن فيه الدعوى من أحد وإنما نزل مقطعاً في كل قصة تنزل فينزل فيها قرآن وهذه ضرورة موجبة أنه عند عليه الصلاة والسلام ظهر بوحي الله تعالى إليه وبما فيه من الغيوب التي قد ظهر إنذاره بها وأما من لا علم له باللغة والأخبار فيكفيه أخبار من يقع له العلم بخبره بأن العرب عجزت عن مثله وأنه أتى به مفصلاً عند حلول القصص التي أنزل الله تعالى فيها الآية والآيتين والكلمة والكلمتين من القرآن والتوراة حتى تم كما هو فهذا الحق وذلك الإلحاد المحض والكلام الغث السخيف ومن كفراتهم الصلع قول السمناني إذ نص على أن الباقلاني كان يقول أن جميع المعاصي كلها ألا نحاشى شيئاً منها مما يجب أن يستغفر الله منه جايز وقوعها من النبي ﷺ حاشا الكذب في البلاغ فقط وقال الباقلاني وإذا نهي النبي ﷺ عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلاً على أنه منسوخ إذ قد يفعله عاصياً لله عز وجل قال الباقلاني وليس على أصحابه فرضاً أن ينكروا ذلك عليه وقال السمناني في كتاب الإمامة لو لا دلالة العقل على وجوب كون النبي ﷺ معصوماً في البلاغ عن الله عز وجل لما وجب كونه معصوماً في البلاغ كما لا يجب فيما سواه من أفعاله وأقواله وقال أيضاً في مكان آخر منه وكذلك يجوز أن يكفر النبي ﷺ بعد أداء الرسال.
قال أبو محمد: بالله الذي لا إله إلا هو إن كان قال هذا القول ناصراً له وداعياً إليه مسلم قط وما كان قائله إلا كافراً ملحداً فاعلموا أيها الناس أنه قد جوز على النبي ﷺ الكفر والزنا واللياطة والبغاء والسرقة وجميع المعاصي وأي كيد للإسلام يالناس أعظم من هذا وأما صاحبه ابن فورك فإنه منع من هذا وأنكره وأجاز على النبي ﷺ صغار المعاصي كقتل النساء وتعريضهن وتفخيذ الصبيان ونحو ذلك وأما شيخهما ابن مجاهد البصري ليس بالمقري فإنه منع من كل ذلك وحاشا الله أن يجوز النبي ﷺ ذنب بعمد لا صغير ولا كبير لقول الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ومن المحال أن يأمرنا الله تعالى أن نتأسي بعاص في معصيته صغرت أو كبرت وأعجبوا لاستخفاف هذا الملحد بالدين وبالمسلمين إذ يقول هاهنا أنه ليس فرضاً على أصحاب النبي ﷺ أن ينكروا عليه عصيان ربه ومخالفة أمره الذي أمرهم به وهو يقول في نصره للقياس أن قياس من قاس من الصحابة وسكوت من سكت منهم عن إنكاره دليل على وجوب الحكم بالقياس لأنهم لا يقرون على منكر فأوجب إقرارهم على المنكر من النبي ﷺ حاشا لله من هذا وأنكر إقراره على القياس لو كان منكراً فجمع بين هذه المناقضة والكذب في دعوى القياس على الصحابة ودعوى معرفة جميعهم بقياس من قاس منهم ودعوى أنهم لم ينكروه وهذه صفات الكذابين المتلاعبين بالدين ومن طوامهم ما حكاه السمناني عن الباقلاني أنه قال واختلفوا في وجوب كون النبي ﷺ أفضل أهل وقته في حال الرسالة وما بعدها إلى حين موته فأوجب ذلك قائلون وأسقطه آخرون وقال الباقلاني وهذا هو الصحيح وبه نقول.
قال أبو محمد: وهذا والله الكفر الذي لا خفاء به إذ جوز أن يكون أحد ممن في عصر النبي ﷺ فما بعده أفضل من رسول الله ﷺ وما أنكرنا على أحمد بن خابط الدون هذا إذ قال أن أب ذر كان أزهد من النبي ﷺ هذا مع قول هذا المستخف الباقلاني الذي ذكره عنه السمناني في كتابه الكبير في كتاب الإمامة منه أن من شرط الإمامة أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه.
قال أبو محمد: يا للعيارة بالدين يجوز عنه هذا الكافر أن يكون في الناس غير الرسل أفضل من رسول الله ﷺ ولا يجوز عنده أن يلي الإمامة أحد يوجد في الناس أفضل منه ثم حمقه أيضاً في هذا حمق عتيق لأنه تكليف ما لا يطاق ولا سبيل إلى القطع بفضل أحد على أحد إلا بنص من الله عز وجل وكيف يحاط بالأفضل من قريش وهم مبثوثون من أقصى السند وكابل ومكران إلى الأشوته إلى سواحل البحر المحيط ومن سواحل بحر اليمن إلى ئغور أرمينية وأذربيجان فما بين ذلك اللهم العن من لا يستحق ومن العجب أن هذا النذل الباقلاني قطع بخلاف الإجماع على أبي حنيفة بإجازته القراة الفارسية وصرح بأن ترتيب الآيات في القرآن إجماع وقد أجاز مالك لمن قرأ عند غروب الشمس وطلوعها فجاءته آية سجدة أن يصل التي قبلها بالتي بعدها فمالك عنده مخالف للإجماع وقطع بأن الشافعي مخالف للإجماع في قوله " بسم الله الرحمن الرحيم " آية من أم القرآن وإن داود خالف الإجماع في قوله بإبطال القياس أفلا يستحي هذا الجاهل من أن يصف العلماء بصفته مع عظيم جهله بأن عاصماً وابن كثير وغيرهما من القراء وطائفة من الصحابة تقول بقول الشافعي الذي جعله خلافاً للإجماع وأنه لم يأت قط عن أحد من الصحابة إيجاب الحكم بالقياس من طريق تثبت وأنه قد قال بإنكاره ابن مسعود ومسروق والشعبي وغيرهم ولكن من يضلل الله فلا هادي له ومن عجائبه قوله أن العامي إذا أنزلت به النازلة ففرضه أن يسأل أفقه أهل بلده فإذا أفتاه فهو فرضه فإن نزلت به تلك النازلة ثانية لم يجز له أن يعمل بتلك الفتيا لكن يسأل ثانية إما ذلك الفقيه وإما غيره ففرضه أن يعمل بالفتيا الثانية وهكذا أبداً.
قال أبو محمد: هذا تكليف ما لا يطاق إذ أوجب على كل أحد من العامة أن يسأل أبداً عن كل ما ينوبه في صلاته وصيامه وزكاته ونكاحه وبيوعه ويكرر السؤال عن كل ذلك كل يوم بل كل ساعة فهل في الحماقة أكثر من هذا ونعوذ بالله من الخذلان.
ذكر شنع لقوم لا نعرف فرقهم
قال أبو محمد: ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل وقالوا من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك واستباحوا بهذا نساء غيرهم وقالوا أننا نرى الله ونكلمه وكلما قذف في نفوسنا فهو حق ورأيت لرجل منهم يعرف بابن شمعون كلماً نصه أن الله تعالى ماية اسم وأن الموفي ماية هو ستة وثلاثون حرفاً ليس منها في حروف الهجاء شيء إلا واحد فقط وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق وقال أيضاً أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مد رجله يوماً فنودي ما هكذا مجالس الملوك فلم يمد رجله بعدها يعني أنه كان مديماً لمجالسة الله تعالى وقال أبو حاضر النصيبي من أهل نصيبين وأبو الصياح السمرقندي وأصحابهما أن الخلق لم يزالوا مع الله تعالى وقال أبو الصياح لا تحل ذبائح أهل الكتاب وخطأ فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردة وصوب قول الصحابة الذين رجعوا عنه في حربهم وقال أبو شعيب القلال أنه ربه جسم في صورة إنسان لحم ودم ويفرح ويحزن ويمرض ويفيق وقال بعض الصوفية أن ربه يمشي في الأزقة حتى أنه يمشي في صورة مجنون يتبعه الصبيان بالحجارة حتى تدموا عقبيه فاعلموا رحمكم الله أن هذه كلها كفرات صلع وأقوال قوم يكيدون الإسلام وصدق القائل: شهدت بأن ابن المعلم هازل بأصحابه والباقلاني أهزل وما الجعل الملعون في ذاك دونه وكلهم في الأفك والكفر منزل وساع مع السلطان يسعى عليهم ومحترس من مثله وهو حارس واعلموا رحمكم الله أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله على أيديهم خيراً ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية ولا رفع للإسلام راية وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين ويفرقون كلمة المؤمنين ويسلون السيف على أهل الدين ويسعون في الأرض مفسدين أما الخوارج والشيعة فأمرهم في هذا أشهر من أن يتكلف ذكره ما توصلت الباطنية إلى كيد الإسلام وإخراج الضعفاء منه إلى الكفر الأعلى السنة الشيعة وأما المرجئية فكذلك إلا أن الحارث بن سريح خرج بزعمه منكراً للجور ثم لحق بالترك فقادهم إلى أرض الإسلام فأنهب الديار وهتك الأستار والمعتزلة في سبيل ذلك إلا أنه ابتلى بتقليد بعضهم المعتصم والواثق جهلاً وظناً أنهم على شيء وكانت للمعتصم فتوحات محمودة كبابل والمازيار وغيرهم فالله الله أيها المسلمون تحفظوا بدينكم ونحن نجمع لكم بعون الله الكلام في ذلك الزموا القرآن وسنن رسول الله ﷺ وما مضى عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأصحاب الحديث عصراً عصراً الذين طلبوا الأثر فالزموا الإثر ودعوا كل محدثة فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في شنع المبتدعة أهل الأهواء والنحل المضلة والحمد لله رب العالمين.                   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النفخ في الصور وتسجير الانهار تسجير البحار**

  النفخ في الصور وتسجير الانهار تسجير البحار تسجير البحار قلت المدون احتار الناس كثيرا في مصطلحات القران الكريم التي تناولت تسجير الب...